نصف قلب شباط
العدد 264 | 14 أيار 2021
هيثم عبد الشافي


من بائع وحيد في الشارع ومهزوم مثلي تمامًا، اشتريت وردتين لأطفالي قبل شهر تقريبًا.. الرجل كان يبحث عن أي زبون وأبحث أنا عنك ضائعًا ملّت منه الشوارع والناس.

أنت في أصوات الباعة، وخلف حكايات المهمومين، في ملامح الغرباء والتائهين، بمحطات النقل العام، ومراكب النيل الصغيرة، وبين أطفال المدارس آخر النهار وأوله.

 نلتقي في ضحكات صغار جارتنا الجديدة وسيارات صديقاتي وعلى مسارح وسط المدينة، في تفاصيل الخرائط القديمة وحدود ما قبل تغريبتنا، وأغان تعرفنا يفاجئني بها سائق التاكسي بعد يوم عمل طويل.. أخبريني أي زاوية لا أجدك فيها، وفي أي مكان لا تكونين؟

واحد مثلي يعرف أن حضور حبيبته محال ولا يقدر على غيابها، له أن يكسر الحائط برأسه مثلًا، وأن يعض الحظ السيئ ويسب أمه، ويأكل نصف قلب شباط دفعة واحدة، وآخر الليل يضع رأسه مكان قدميه ويخرج لسانه للمطر.. أي شتاء وأي مطر كنا ننتظر؟!

تعرفين.. اخترتها وردات بلدية وجميلة، واحدة باسمك الحقيقي والثانية أدللها مثلك بالضبط، وفي طريق عودتي اخترت زاوية بعيدة قبل مقهانا وناديتك عشرين مرة وذهبت.. إلى الآن لا أشك لحظة واحدة أني في كل مرة قلت آه وناديتك بيني وبيني تسمعين.

30  يومًا أبحث مع أطفالي عن طرق الاهتمام بالورد البلدي والتركيبات المغذية ونحضر فيديوهات هنا وهناك.. نكلمها ونلعب معها ونخلق لها أدوارًا حقيقية، مرة نحدثهم كغرباء يحاولون خطفنا خارج المجرة، وأخرى كأصدقاء لأبطال خارقين، وآخر مرة حولناها وردات سحرية تخفف آلام أسنان مهاب، وترتب شعر لين.

الورد في البلكونة لا يسمع الموسيقى يا حبي، لا يعرف أغنياتنا وأسرارنا وحكايتنا، لا يكلّم الشمس ولا يراقب الليل ولا يقلّد ضحكاتك، خصصت لكل وردة وظيفتين يوميًّا، وقالت إنها لا تملك حماستك، علمتها تمارين بسيطة في الصباح، وفشلت، وحاولت ألف مرة إخبارها بأني في كابوس حقيقي وأنك لست هنا وأعيش وحيدًا، ولكن ما سمعني أحد.

كل شيء يلهي عاشقًا وينسيه حبيبته فعلته، لا أذهب لصورك وأقضي ساعات طويلة عند حمادة صاحب أحدث سوبر ماركت في شارعنا، لكن حمادة أمه ماتت قبل أسبوعين وسافر إلى بلدتهم في الصعيد.

لا أكتب الأغاني وأسهر مع بواب عمارتنا.. أذهب معه لمقهى لا أعرفه، وأسمع كل أسراره التافهة، حتى أزمته مع جارتنا في الطابق السادس أنهيتها في جلسة واحدة، لكنه سخيف يا حبيبتي وأطفاله خمسة ومزعجون، وكل ما يهمه التدخين والشاي، آخر مرة ذهبنا للمقهى، تكلم ساعتين كاملتين عن معاناته في تنظيف سلم العمارة كل يوم أربعاء، أنا ظلمته كثيرًا يا حياتي، وأعرف أنك لو سمعت قصته سيصيبك شيء من الحزن يومين على الأقل.

أنت تعلمين ما ذاقه حبيبك بعدك، أتصرف كالأطفال السذج ولا أكتب الشعر، أعيش الخرافات وأجربها، حتى الصداقات التافهة قتلتني، وقلت ربما، والآن ليس أمامي سوى وصلات المداحين في ساحات الحسين.. أيرضيك بعد أن كنت وطنك وطريقك وأعيش بين وحدتك وأنفاسك أشتهي أن تمدي يدك ولو مرة واحدة لأعرف أنك هنا.

لو أنهم عرفوا قصتنا يا حياتي، ما كان كل هذا البعد، لو أدركوا كيف كنت أعيش في حقيبتك ومطبخك وأسكن الأرفف والزوايا وأعبئ روحك من روحي ما كانوا ضدنا، لو تعاركوا مرة واحدة مثلنا، لو كان لهم ألف ألف أغنية وبينهم ألف ألف ضحكة، لو أحبوني مثلك ما كان فراقنا.

*****

خاص بأوكسجين


قاص وصحافي من مصر.