كان الصوت الذي يتصادى رجعه في داخلي قد انسحب إلى بعيد. لهذا السبب لم أستطع أن أكتب ولا كلمة واحدة خلال الأشهر المنصرمة. إذ بقيت طوال الوقت متسمِّراً هكذا، جالساً خلف الطاولة. وفي الحقيقة لم أعرف أي هراء أفعل. ثم خُيّل إليَّ أن صوتي كان يراقبني عن كثب. يتأمَّلُني. وقد أدرك أنني أنادي عليه بكلمات تكوّنت من تلقاء نفسها إثر حركات بسيطة لا أدري كيف قمتُ بها. أخرجت قلم الحبر ذا اللون اللازورديّ من علبته. فتحت غطاءه ثم أخذت أسحب الحبر إلى داخله رويداً رويداً. رفعتُه إلى أعلى كي أتأكد إن كان خزّان الحبر قد امتلأ أم لا. بعد ذلك التفتُّ إلى دفتري الذي تركته مفتوحاً، وهو باقٍ على حاله هكذا منذ عدة أشهر. وجَّهتُ قلم الحبر باتجاه نصاعة ورقه، فتأكدت من امتلاء الخزان بالحبر. تماماً في تلك اللحظة رنّ تلفوني. فوضعت القلم جانباً وقمت من فوري. وبخطوات سريعة هرعت إلى الركن القصي من الصالة.
سمعت أمي بصوتها الرخيم، المحمّل بروائح بلدتنا تقول:
– ألو! كيف حالك يا ولدي؟ هل أنت على ما يرام، قالت وكأنها تهمس في أذني.
غادر صوتي إلى بعيد، على بعد أربعمئة وستين كيلومتراً، خيّل إليّ أن محدثتي تقوم بتقليد صوت أمي. نظرت بخواء إلى الحائط وسماعة التلفون بيدي. كرَّرت أمي سؤالها:
– ألو، ماذا تفعل هناك يا ولدي، هل أنت على مايرام؟
هل بالإمكان أن تجدي اِمْرَأً على ما يرام في هذه الساعة على وجه البسيطة؟ أشعر وكأنني غائطٌ يا أمي. بل وأسوأ من ذلك.
بالطبع لم أقل لها هذا الكلام بل قلت لها:
– لا بأس بي. أنا جيد – قلتها بصوت واهن متيبِّس، على الرغم من محاولتي للظهور بمظهر القوي المتماسك.
– أبوك قادم إلى هناك! قالتها أمي.
– إلى أنقرة؟! سألتها وكأن كلمة (هناك) هي رمز يطلق على أماكن عديدة.
قالت بشيء من البله:
– أي نعم إلى أنقرة! توسلت إليه، قلت لا تذهب في هذا البرد القارس، فلم يُفِد ذلك في شيء، لم يسمع كلامي. وقبل شقشقة النهار استيقظ من نومه وذهب في طريقه إليك. ثم أردفتْ أمي قائلة وكأنها تلوك الكلمة في جانب من فمها: حين خرج من البيت قال إنه سيذهب إلى محطة القطار. أخشى عليه أن يضيّع طريقه يا ولدي. أفضلْ شيء تقوم به من أجلي هو أن تذهب أنت وتستقبله بنفسك!
– حسناً سأذهب بنفسي لاستقباله – قلت: هل قال لك في أيّ ساعة سيركب القطار؟
قالت أمي:
– كيف يقول!؟ هو الآخر ليست لديه أية معلومات عن مواعيد انطلاق القطار…
أغلقتُ التلفون وتهيّأتُ من فوري، أخذت لفافة الرقبة ومعطفي وانطلقت إلى الخارج. في أول الأمر فكرت أن أذهب إلى الكراج بعربتي الخاصة. ولكنني غيّرت رأيي لما رأيت الأرجاء كلها في محيطي قد غطَّتْها الثلوج. الشوارع والحارات والأرصفة. فقد كان الموقف في غاية الصعوبة بالنسبة إلى العربات التي ليس فيها إطارات جديدة. ثم إنّ العربات التي لا تستخدم سلاسل حديدية على إطاراتها كانت تتزحلق على سطح الشارع الذي صار مثل الزجاج. أما الناس فقد ازرقّت أنوفهم من شدة البرد. تراهم يتزاورون عن الطريق رافعين أيديهم، يحركونها في الفراغ لئلّا يتزحلقوا على سطح الجليد. استدرت ويمَّمْتُ وجهي صوب موقف الباصات الواقع على يمين العمارة التي نسكن. وبعد انتظار استغرق بضع دقائق جاءت حافلة تتدلَّى من دعامَتَيها الأماميّة والخلفية ثلوجٌ مطيَّنة. زجاج نوافذها مغطَّى بطبقة من البخار. ركبت. لم يكن هنالك أحد غيري ينتظر في الموقف ولكنني لمحت طفلاً صغيراً صعد إلى الأوتوبيس معي. كان قلقاً. كيف جاء هذا الغلام إلى هنا؟ من أين خرج؟ لا أدري. ومن ساعة صعوده إلى الأوتوبيس راح يدور هنا وهناك، ثم حشر نفسه بين الزحام من الركّاب الذين كانوا يرتدون ملابس سميكة. لا أدري لِمَ ظلَّ الولدُ ماثلاً في مخيّلتي. ربما لأنه كان يرتدي معطفاً أخضر داكناً، ولم يمرّ وقتٌ طويل حتى نسيته، ومُسِحَ من خاطري. تشبَّثْتُ بواحد من السيور الجلدية المتدلِّية في الأوتوبيس، وأدرت وجهي صوب زجاجة إحدى النوافذ. رحت أفكر في أبي. لأنني أعرفه حق المعرفة، وأعرف كم هو عَنُود! فمن المحتمل – إن كان قد نزل من القطار الآن – أنه ركب رأسه وسار في اتجاه ما، لا على التعيين. أي اتجاه. ربما نظر يمنة ويسرة ثم اختار وجهة ما، وراح يغذّ السير فيها دون دراية إلى أين تفضي به الطريق. ولهذا السبب كانت نفسي تتآكلني طوال الطريق إلى المحطة.
في الحقيقة لم تكن مخاوفي في محلّها. عندما وصلت إلى المحطة وجدت أبي في الكابينة الثانية عند القطار المتوقف. أبي الذي اشتعل رأسه شيباً، كان يلوي عنقه ويميل برأسه قليلاً إلى جانب ما. يتأبط عكازته، متحاملاً عليها، مسترسلاً في سيره مع سيل الركّاب المتوجهين إلى السلالم المؤدية إلى الخارج. حين وجدني أمامه ابتسم. توقف فجأة في أول درجات السلم. ربما قد فرح حين رآني ولكنه بذل ما بوسعه كي لا يُظهِرَ ذلك. وتصرَّف على نحو عادي وكأننا لم نلتقِ لأول مرة في حياتنا في محطة قطار (أنقرة) وحسب، بل وكأنّنا اعتدنا اللقاء هنا يومياً كل صباح ومساء.
عندما تقابلنا وصرنا وجهاً لوجه تذكّرْتُ معطف الولد الذي رأيته في الأوتوبيس. وبالاخضرار الداكن العالق في ذهني من رؤية الغلام انحنيت أمام أبي وقبَّلتُ يدَه:
– مرحباً بك قالها أبي، ثم رفع تلك اليد التي قمت بتقبيلها قبل قليل وأشار بها إلى القطار الواقف عند المنصّة وأردف قائلاً: هذا لا يختلف عن بغلة (خليل الطحان) بشيء. تكسّفت أحوالنا. منذ الصباح الباكر نحن على الطريق.
– أما زالت هنالك تحويلة في محطة (أسكي شهر)؟ – سألتُه.
– أي نعم! وتلك كارثة أخرى – قال بنبرة يائسة.
امتنع أبي عن الكلام لمدة طويلة بعد وصولنا إلى البيت وتناولنا طعام العشاء. واكتفى بدفن رأسه بين كتفيه وظل يجول ببصره في محيطه. وبعد مرور بعض الوقت سألني:
– هل هنالك أية مشكلة؟!
– لا – قلت.
أومأ برأسه بإشارة تدل على الرضا. ثم أردف قائلاً:
– أتدري يا ولدي! ولا واحدة من الأطراف الصناعية التي جلبناها لاءَمتْني. قالها وهو يشير بيده إلى ساقه اليسرى: الأرجاء تعجُّ بالمحتالين. لا أدري كيف يحصلون على عنوان المرء وبأي وجه يقومون بزيارته في بيته، متجشِّمين عناء السفر من (دنيزلي)، من (أزمير) أو من (أوشاك). وهل من المعقول أن تطرد من جاء إلى بيتك؟ هنالك تقاليد وأعراف. فلا يمكنك طرد ممثِّل الشركة المصنِّعة الذي جاء إليك، ولا تستطيع أن تقول له ارجِعْ من حيث أتيت. أما هو فإنه يفتح حقيبته ليعرض عليك كتالوجات الشركة التي يمثِّلها، ويدَّعي أنهم أحسنُ مصنعي الأطراف الصناعية في البلد، وليس هنالك أفضل منهم في هذا المجال. يأتون عن يمينك وعن شمالك حتى يقنعوك بأن تضع توقيعك على بعض الأوراق التي لا تدري ما هو مضمونها. وفي الحقيقة إنهم يبهرونك عندما يأخذون مقاسات ساقك، وتهيم إعجاباً بكلامهم الذي يقطر عسلاً. بالطبع سوف تبلع السنارة وتتصوَّر أنهم سوف يعملون المستحيل من أجل خدمتك.
صمت فجأة وطأطأ رأسه. ضمَّ ساقه اليسرى وأخذ يفركها فركاً ثم اتّكأ إلى الحائط بخفّة وتنهَّد بعمق:
– وفي نهاية المطاف فإن الوعود التي قطعوها على أنفسهم كانت مجرد ثرثرة فارغة. سوف تجد أنَّ الساقَ الاصطناعية التي قاموا بتجهيزها لك شيءٌ عاديٌّ وتافه، كأنها قطعة من الحطب عولجت في ورشة نجارة. وبمجرَّد أن يسلِّموك بضاعَتَهم يغيبون عن الأنظار. أي إنّك لن تراهم بعد ذلك إلى الأبد. حتى إذا فكّرت أن تتَّصلَ بهم على الأرقام نفسها سوف تجدُها خارج نطاق الخدمة. ولو جرَّبت حظَّك للمرة الخمسين فلن تستطيع الاهتداء إليهم. ولنقل إنك لم تتَّعِظْ من كل ما حصل لك، ولم تفهم أنك تعرَّضت لحالة نصب واحتيال، وقرّرتَ تهيئة نفسك والسفر للبحث عن عنوانهم فسوف تُصدَم بأن العنوان الذي أعطوك إياه، ما هو إلا عنوان وهمي. ستجد في مكان العنوان دكانة حقيرة. وفي أحسن الأحوال تجد أن العنوان هو مجرّد مقهىً صغير يقدّم الشاي ليس إلّا.
راح يفرك ركبته بحنان ورأفة كأنه يمسك قلبه بيده:
– بعد ذلك سوف تجد أنه يصعب عليك استخدام قطعة الحطب هذه. قالها وأخذ يحدق في عينَيّ:
– آه هنا تؤذيني، من هناك تؤلمني وتظلُّ تدعس خرقاً بالية من الأقمشة هنا، أو نسالات من القطن من هناك. قصر الكلام لقد ضقت ذرعاً بهؤلاء المحتالين، وهذه النفايات التي يبيعونها. لذلك رميت نفسي إلى تهلكة الطرقات وجئت إلى هنا.
قلت:
– لا تقلق يا أبي! سوف نوصي لك بواحدة.
جاءتنا (سحر) بالشايات. أما ابنتي (آيبري) فكانت ساكتة طوال الوقت، ومن مكانها حيث تجلس كانت تحدق في ساق جدِّها المبتورة.
– قولي لي يا (آيبري) كم تبلغين من العمر؟ – سألها أبي.
(آيبري) لَمْ تَحِرْ جواباً. يبدو أنها ظنت أن الصوت كان قادماً إليها عبر الساق اليسرى لأبي. فما أشاحت ببصرها عن الساق الاصطناعية، بل كانت تنظر وتبلع ريقها باستمرار. فقمت أنا بالإجابة عوضاً عنها:
– بلغت الخامسة من العمر.
أومأ أبي برأسه على مهل، فلمحتُ شعاعاً رقيقاً من الضوء مرّ عبر اخضرار عينيه، كأنه محضُ خيال عابر. قال:
– أنا سألت وتحرّيت.
قالها ثم مال عليّ وكأنه يهمس بسرٍّ ما في أذني:
– سمعت أنه يوجد هنا مَن يجيد الصنعة، يدعى البروفيسور (اسفنديار مرجان)، مكانه قريب إلى جامع (قوجا تبة). علينا أن نذهب للعثور عليه بدلاً من تضييع الوقت، والوقوع كالعميان في أفخاخ الذئاب الذين يلبسون ربطات عنق. يجب أن نعثر على البروفيسور ونوصيه لينفِّذ العملَ لنا.
– ليكن قلبك مطمئناً يا أبَتِ! أينما أردت نوصيهم بعمل ذلك.
في اليوم التالي وبعد الفطور الصباحي مباشرةً انطلقنا معاً باتجاه الموقف القريب إلى البيت، فجاءتنا من هناك حافلة مهلهَلة، مضعضَعَة الأجزاء. جوفها بارد. ركبنا ومضت بنا وهي ترتجف وتهتزّ حتى وصلْنا إلى (سوق صحيّة). قال أبي:
– لا داعي للتبذير لِنتمَشَّ.
ولكنني في تلك اللحظة أوقفت واحدة من سيّارات الأجرة. رمقني بنظرة تعبِّر عن خجل صاحبها. ركب السيارة وجلس إلى المقعد الأمامي، واضعاً عكازته في الفراغ الموجود على يمينه. طوال الطريق لم ينبسْ ببنت شفة، واكتفى بالنظر بطرف عينيه إلى السائق تارة، وإلى لوحة مؤشرات السيارة تارة أخرى.
– أهذا المسجد هو المسجد نفسه الذي وصفته لك، قالها أبي حين همّ بالنزول من سيارة الأجرة.
– نعم هو! – قلت.
وضعنا جامع (قوجا تبة) على شمالنا ثم بدأنا نغذّ السير صوب سينما (قزل ايرماك) ونحن نشقّ صخب المدينة. بدأت أسير بالقرب من أبي خشية أن تزلَّ قدمه – أو بالأحرى عكازته – فيقع على الأرض المغطَّاة بالجليد. ولهذا السبب كنت على أهبة الاستعداد أكثر من ذي قبل لتقديم المساعدة. ولم أضع يدي في جيب معطفي قطّ برغم البرد القارس الذي كان يحرق روح البشر. وهكذا مضينا في طريقنا بصمت مخلّفين سينما (قزل ايرماك) وراءنا، إلى أن وصلنا إلى موقف سيارات الأجرة في زاوية الشارع. ومن ثَمَّة سلكنا جهة الشمال، وأخذنا نصعد باتجاه زقاق (أولكونلار) فازدَدْتُ قلَقاً لأن الصعود كان أكثر حِدّة. ولأنني أعلم جيداً أنّه سوف يرفض أية مساعدة، ودون وعيٍ مني تصورت أنه سوف يقع فانطلقت إليه بهدف تقديم المساعدة فارتدَّ إلى الوراء قليلاً لأنه ربما توقع أنني مقدم على مَدِّ يد العون إليه.
نظر إلى وجهي بقسوة وقال:
– ألا ترانا نمشي يا هذا! لا تحاول أن تُمسك بي.
بعد أن قال كلامه هذا تسمّر في مكانه متّكِئاً على عكازة الإبط، رافعاً إحدى كتفيه، خافضاً الأخرى. ثم ضيَّق ما بين أجفانه وأخذ ينظر إلى العربة التي رُكِنَتْ في جانب الرَّصيف، أمام محل للشاورمة، رُفعت في واجهته لوحة كبيرة كتب عليها عبارة (وسيلة رزق) أما الواجهات الزجاجية الجانبية للعربة فكانت تغطيها الثلوج والسقف قد تجمّع عليه الصقيع. يجلس أمام مقودها رجل لا يستطيع تحريكها على الرغم من بذله مجهوداً كبيراً. كانت إطاراتها تدور في مكانها مصدرةً ضجيجاً يصاحبه صفير البرد الذي أذل كل الأرجاء. ظلت السيارة على حالها، ناشبة في الوحل، تحت أنظار المارة الغادين والرائحين. كلما ضغط سائقها على دواسة البنزين دارت إطاراتها وتزحلقت أكثر. أما مؤخّرها فكان يترنَّح يمنةً ويسرة. وعندما يرفع السائق قدمَه عن دوّاسة البنزين تتوقّف الإطارات عن الدوران. استطعت أن أقرأ ذلك في وجه أبي بأن هذه الأحداث التي كانت تدور أمامنا قد بدأت تزعجه. حينما كان يحدق بالسيارة كانت شفتاه تنفرجان قليلاً تارةً، ويزمّ عليهما تارة أخرى فتنغلقان كما لو كانتا ظلفتا كمّاشة. حين يزمّ أبي على شفتيه تظهر نقطتان مقعرَّتان على خدَّيه كأنهما تجويفان مظلَّلان، يتحركان مع اهتزاز السيارة في مكانها. وفي نهاية المطاف فقد صبره فالتفتَ إليّ قائلاً: هيا تعال معي!
– ماذا جرى يا أبي، إلى أين؟ سألته.
قال بجدٍّ واضح:
– هيا تعالَ معي، لندفع هذه السيارة.
كانت مخاوفي تزداد مع كل خطوة يخطوها، وأخشى أن يتزحلق ويقع أرضاً في هذا البرد القارس والشتاء الموحل (من أين أخرجْتَ لنا هذه المسألة يا أبَتِ! ما شأننا وشأن تلك السيارة المغروزة في الوحل). بالطبع لم أجرؤ على قول هذا الكلام، ولكنني بدأت أتوسَّل إليه، قلتُ:
– أرجوك أبَتِ! مالنا نحن وهذه المشكلة. فالسائق لا بد سيجد حلّاً لمشكلته.
وهكذا واصلنا الصعود من جديد ونحن نمشي جنباً إلى جنب. كان قد انشغل تفكيره كلّياً بالسيارة، حتى أنه كان يتوقَّف بين الفينة والأخرى وينظر إلى الوراء بألم وبعينين حزينتين، وكأنه ينظر إلى إنسان يتنازع الرّوح. وفي كل مرّة يردّد مع نفسه مغمغِماً: هل نحن في غابة؟ هل نحن على قمة جبل؟
على الرغم من مغادرتنا لزقاق (أولكونلار) الذي كان يعجّ بالفوضى وانعطافنا إلى زقاق (بارداجك) وابتعادنا، إلا أن أبي ظل يتلفَّتُ إلى الخلف ويسترق النظرَ عسى أنْ يرى تلك السيارة. وبعد أن ابتعدنا نحو خمسة وعشرين خطوة أو ثلاثين مدَدْتُ يدي وأنا أشير إلى اللوحة الكبيرة قائلاً:
– ها هي ذي (مرجان ميديكال) للمستلزمات الطبّية.
كان أبي يمشي في المقدّمة وأنا أتبعُه. دخلنا عبر الباب. بعد أن انتظرنا قليلاً في الرواق استقبلَتْنا فتاةٌ رائعة الجمال، بدَتْ أنها تسبح في عالم الخيال. رافقتْنا إلى غرفة (إسفنديار مرجان) التي كانت تحتوي على أثاث مصنوع من الجلد الأسود، وتنسدل على شبابيكها ستائر زرقاء ذات أشرطة سميكة. وفي بحر ساعة تقريباً تمَّ فحص الساق المبتورة ومراجعة جميع التقارير، كما تمَّ التطرُّق إلى أدقّ تفاصيل المسألة. ثم تداولنا مسألة جودة المواد المستخدمة. بعد ذلك تمَّ عمل تقييم للتكاليف فأعلنوا السعر النهائي. وبعد أن خُصِمَتْ النسبة المئوية التي يترتَّب على الدولة دفعُها حسب قانون التأمين الصحِّي اتَّفقْنا على نسبة التخفيض، فكانت 2%. والأهم من كل هذا هو أنهم في نهاية المطاف وبصوت مفعم بالثقة بالنفس قطعوا عهداً على أنفسهم، أنهم سوف يصنعون لنا طرفاً اصطناعياً لما تحت الركبة. قال السيد (اسفنديار):
– ولكن ينبغي عليَّ أن أوضح هذا الأمر منذ البداية. (يبدو أنه قد تأكد من كون أبي هلوعاً، متسرعاً). قال: نحن لا نصنع الطرف الاصطناعي ثم نعطيك إيَّاه ونقول لك اذهبْ إلى حال سبيلك! بل يتوجب علينا أن نبقيك هنا، من أجل تدريبك وتعويدك على استعمال الطرف. قد تستغرق التمارين وعملية التعويد أياماً عديدة. ولا أستطيع التكهُّن كمْ يوماً ستستمرُّ التمارين! كل ذلك بحسب الموقف. علينا أن نطمئنَّ نحن مثلما تطمح أنت أيضاً أن يطمئن قلبك. فهذا الأمر في غاية الأهمية. أظنّ أن الفكرة واضحة، أليس كذلك؟ في الواقع سوف نختبر مشيك. وإذا توجَّب أن نضيف بعض التغييرات أضفْنا، حتى وإن كانت بقدر ميلِّليمِترات. كما أود القول إنَّ جميع من دخلوا عبر بابنا هذه بكراسي متحرِّكة ذات عجلات خرجوا من هنا وهم يمشون على أقدامهم. لا تقلق أبداً. أريدك أن تتحلَّى بالصبر. فإذا صبرتْ سوف تخرج من هنا دون الاستعانة بعكازاتك. أرجو أن تصدّق كلامي هذا وتؤمِنَ به. ماذا تقول يا سيد (عزيز) هل اتفقنا؟
– اتفقناّ – قالها أبي وأومأ برأسه عدة مرات والفرح بادٍ على وجهه.
بعد يومين اكتمل صنع الطرف الاصطناعي وحان أوان التدريب.
نحو الظهر ركبنا الأوتوبيس من (أريامان) فأخذ يخضّنا خضّاً حتى أوصلَنَا إلى (سوق صحية) ومن ثَمَّة أخذتنا سيارة أجرة إلى (مرجان ميديكال) وما إنْ صِرْنا في الداخل حتى برقت في عينَي أبي التماعةُ شَغَفْ. انطلقَ إلى الصَّالة الواقعة إلى شِماله، وكانت تغصّ بمعاقين آخرين – هذا فقد ذراعه وذاك بُترَتْ ساقُه – وبدأ بممارسة تمارينه. أما أنا فانزويتُ في ركنٍ قصيٍّ غير بعيد عنه لكي يشعر بوجودي إلى جانبه، كمصدر قوة وثقة. في بعض الأحيان كنت أذهب خارج الصالة لأدخن سيجارة. وفي الغالب كنت أجلس على كرسي بلاستيكي جنب الباب في قسم معزول بطبقات من الخشب المضغوط. فلم أكن أرى المتدربين في أثناء مزاولتهم التمارين ولكنني كنت أسمع أصواتهم وأنفاسهم. كان الواحد منهم يشرح لصاحبه كيف فقد جزءاً من جسمه. على مدى يومين لم أسمع صوت أبي يتحدَّث عن إعاقَتِه، سوى أنه أخبر أحدهم قائلاً:
– كان حادثاً عادياً.
وفي اليوم الثالث حين وصلنا إلى باب (مرجان ميديكال) ونزلنا من سيارة الأجرة توقف أبي فجأة. رفع إحدى كتفيه وهبط بالأخرى ثم طأطأ رأسه وخفض بصره إلى الأرض.
– تسببت لك بالأذى يا ولدي. تبهدل حالك مثلي. قالها ثم أردف: اذهب إلى عملك. اجلس ودردشْ مع أصحابك. اذهب الآن وارجع إليّ في الخامسة مساءً لتصطحبني.
لم أعد أعرف ماذا ينبغي عليَّ أن أقول له، ولكنني رحت أحدِّق في وجهه دون أن أتفوَّهَ بأيَّة كلمة.
– فيما أنا منهمكٌ في الداخل بمزاولة التمارين وتلقِّي التعليمات تقضي أنت وقتك في التسكُّع هناك. قالها ورأى حيرتي ثم أضاف قائلاً: ما الداعي لذلك؟
– حسنٌ، أنت أعلَمُ يا أبي – قلت له بهدوء.
انتظرتُ أن يعود أبي إلى الداخل فوضعت يدَيّ في جيبَيْ معطفي وهبطت المنحدر المغطى بالجليد باتجاه زقاق (كونور) وفي الحقيقة لم يكن هنالك أي مكان يمكن أن أذهب إليه في هذه الساعة، وليس هنالك في الجوار أي صديق يمكن أن أذهب لأقضي الوقت في الدردشة معه. فكرت أنني أستطيع قضاء بعض الوقت لدى باعة الكتب في تقليب المجلات وبعض النشريات، ثم الجلوس بهدوء في زاوية أحد المقاهي لِكَرْعِ أقداح من الشاي الثقيل. دخلت مكتبة (ايمجة) وسألت الفتى الأسمر الذي يجلس أمام الحاسوب إن كانت الطبعة الثالثة من كتاب (حياة السيد تريسترام شاندي وآراؤه) قد وصلت إليهم أم لا؟ كنت قد ضيّعت نسختي من الكتاب وكانت من نسخ الطبعة الأولى. بعد أن ضيّعت الكتاب وصار مكانُه في مكتبتي فارغاً. كان ذلك يحزّ في قلبي أكثر من أي شيء آخر. مال الفتى على الحاسوب ودقَّق النظر إلى الشاشة، ثم عاد إليّ وأجابني مثلما كان يفعل في الأيام الماضية. ألقيت نظرة خاطفة إلى الرفوف ثم هرعت إلى الخارج. دخلت مقهى ما في طريقي، اخترتُ ركناً هادئاً، جلست فيه بالقرب من مدفأة كهربائية لها أرجل، وشربت ثلاثة أقداح شاي، إلا أن الوقت كان يمرُّ ثقيلاً. حينما انتهيت من كَرْعِ الشاي انتابتني حالةٌ غريبة من السأم، لم أجد لها تفسيراً. دفعتني إلى أن أشدَّ أزري من جديد وألقي بنفسي خارج المقهى. وبخطوات سريعة وجدت نفسي أقف أمام (مرجان ميديكال) خُيِّل إليَّ أن الجو كان ساكناً إلى تلك اللحظة، كأنه ينتظر مني أن أنهض من مكاني لكي يريني مدى قسوته. فما كان من السماء إلا أن تغيّرت، والغيوم التي كانت تتلبّد خلفَ العمارات الشاهقة وأمامها اتَّخذَتْ وضعاً مختلفاً. حتى أن ذلك الفراغ الرصاصي الذي يحاصر المدينة كان قد خرج من مكمَنِه بخِفَّة، وصار يُرى بالعين المجرَّدة. وقبل أن أقطع شارع (المشروطية) بدأتْ الثُّلوج تتساقط، ثمَّ أخذَتْ تشتدّ شيئاً فشيئاً. من بين مئات السيارات وأصوات التزمير التي كانت تصمّ الأذان ومن بين زحام البشر حاملي المظلات الواقية من المطر أخذت أشقُّ طريقي حتى وصلت إلى باب (مرجان ميديكال) وقفتُ لدى الباب. نفضتُ نديف الثلج المتجمع على كاهلي ثم ضربت قدمَيّ على الأرض بشدّة كي أوقع ما علق بهما من ثلج ووحل. حين دخلت المتجر تقابلتُ مع تلك الفتاة الجميلة. كانت قد أسندت كتفها الأيسر إلى الحائط، تنظر صوب الباب. حينما رأتني انتابها قلقٌ ليس في محلِّه. قالتْ لي: أيّها السيد! أبوك قد غادر قبل نصف ساعة.
ظننت أن كلَّ الثلوج التي كانت تهطل في الخارج جاءت برمَّتِها وتكدَّسَتْ على صوت هذه الفتاة.
تسمَّرتُ لدى الباب. سألتُها بصوت مرتجف:
– ألم يقل لكِ أين هو ذاهب؟
فأومأت الفتاة برأسها راسمة علامة النفي.
بالطبع لم أفهم لماذا غادر في الثانية والربع بعد الظهر، في حين أنه أوصاني أن آتي إليه في الساعة الخامسة عصراً. عدتُ أدراجي وقد توقَّعت أنه لا بدَّ ذهب إلى موقف الأوتوبيس الذي نزلنا منه، فخرجت من المتجر مسرعاً، ورحت أعدو في شارع (مدحت باشا) نازلاً عبر منحدره باتجاه (سوق صحية). كنت أفكر أنني لا شكَّ سأعثر عليه لأنه يمشي على عكازة، وأنا أركض. إلا أنني لم أجدْه. وصلت إلى (سوق صحّية) وجُلتُ ببصري في الجوار فلم أجده. عدت أدراجي إلى (مدحت باشا) من جديد ولكنني عبرت إلى الجهة المقابلة، وبدأت أمشي على الرصيف المقابل، حتى بدأت أتنفّس بصعوبة. وحينما وصلت إلى دائرة بريد (يني شهر) كنت منهكاً لا أقوى على نقل خطوة أخرى. وقفت هناك لألتقط أنفاسي وأسندت ظهري إلى الحائط بالقرب من كابينات الهواتف المنصوبة عند مدخل الدائرة. نفضت ما تجمَّع من الثلوج من على رأسي وكاهلي، وارتجفت كأني عصفور مهدَّد بالموت. نظرت يمنة ويسرة وارتجفت فزعاً. وفي أثناء ذلك كانت الثلوج تهطل بشكل جنوني، تتساقط على المدينة وكأنها ستائر سميكة.
مشيت على طول الرصيف ثم دلفت إلى شارع (يوكسل) ومن ثَمَّة وبخطوات سريعة عبرت من تحت بضع أشجار كانت منتصبة هناك، ونزلت باتجاه الشارع المشجر، ومن هناك وصلت قبالة (سوق ظفر) بوثبة واحدة. صعدت عبر السلالم التي كانت في جهة اليسار وطلعت إلى شارع (مدحت باشا) من جديد، ولم أجد أبي. كنت أشعر باليأس، أكاد أنفجر باكياً، ولكنني كنت أتمالك نفسي بصعوبة بالغة. وفي هذ اللحظة لو قابلت شخصاً ما أعرفه لقمت ببثّ همومي، وشكوت له قِلَّة حيلتي وبكيت بكاءً مريراً. كنت أنتظر هناك تحت رحمة الثلوج وهي تهطل كأنها ستائر سميكة تهبط من السماء. أقف مكتوف اليدين لا حول لي ولا قوة، أقلّب وجهي ذات اليمين وذات الشمال. وفي أثناء ذلك رنّ هاتفي الجوّال فمددت يدي المبللة إلى جيب معطفي وأجبت على الفور.
– ألو! أتصل بك من محل (قرطاسية أوزدمير) في زقاق (سزينلر) أيّها السيد، والدك ينتظرك هنا في محلّنا. قالها الصوت على الطرف الآخر من الخط. ومن شدة فرحي كدت أتلقّى صاحب الصوت بالأحضان وأقبّله. فلو كان الشخص المتكلِّم موجوداً أمامي لاحتضنتُه وطبعت قبلةً على خدّه. ولا أتذكر إن كنت شكرته أم لا! ولكنني ركبت سيارة أجرة على الفور وطلبت إلى السائق أن يستدير إلى الاتجاه المقابل نحو شارع (نجاتي بيه) ومن هناك إلى زقاق (سزينلر). كان هذا الزقاق أشبه بغاليري للسيارات منه إلى زقاق عادي لكثرة السيارات المركونة فيه. في الطابق الأرضي من العمارة الثالثة كان محلّ (قرطاسية أوزدمير) قائماً بلوحته الكبيرة. طلبت إلى السائق أن يتوقف. وقبل أن يركن السائق سيارته في مكان مناسب ترجَّلْتُ وسط الزقاق. لم تتسنَّ لي رؤية المبلغ على لوحة العدّاد إلا أنني حين نزلت من السيارة انتبهت إلى حركة ماسحات الزجاج الأمامي حين مدّ السائق يده ليأخذ الورقة النقدية التي دفعت بها إليه، ثم هرعت إلى خارج السيارة على عجل.
وفيما كنت منطلقاً صوب المحلّ، أمرُّ من بين السيارات المركونة على الرصيف خرج أبي من باب المحل على مهل وهو يتوكَّأ على عكازته. نظر باتجاهي وكأنه يحاول التعرُّف عليَّ مَن أكون! أنا الآخر توقَّفتُ حين رأيتُه، دُهشت! كان أبي في حالة مزرية. كأنه سقط في بركة طين. التصقت خصلات شعره بفروة رأسه، كانت هنالك أعشاب وكناسة عالقة على متنه.
– ماذا جرى لك أبي؟! – قلت بدهشة.
وما إن قلت له ذلك حتى أسبَلَ نفسَه للبكاء. رفع يده السائبة وغطَّى وجهَه وأخذ ينشج في بكائه. تخرج كلمات وأصوات غريبة من فمه، يفتحها وكأنه يريد أن يصرخ بكل ما أوتي من قوة. وكلما استرسل في نشيجه كان يتألَّم وكأن أجزاءً من داخل أحشائه تتشظَّى مع كل حشرجة.
تقرَّبتُ إليه ومسكت ذراعه: «الله يحفظك يا أبي! ماذا حدث لك؟» – سألتُه.
لم يكن يقوى على الكلام. نفض ذراعه، ولوّح بيده، كأن به يقول هيا بنا لنمضي.
عدنا إلى البيت مسرعين بحسب استطاعته في المشي، لم يتفوَّه بأية كلمة طوال الطريق. طأطأ رأسه وأنشأ يرتجف تارة، وينشج في البكاء تارةً أخرى. وجدت أنه جاء إلى (أنقرة) بنفس الجلباب الذي كان يذهب به إلى مقهى البلدة، فأخرجت له بعض الملابس ووضعتها على الكنبة. وفيما كنت أخرج إلى الغرفة الثانية قلت: هيا يا أبي انزعْ ملابسك والبس هذه. لقد أصابك بردٌ شديد.
فكَّرتُ أن التدفئة المركزية ربما لا تكفي لتسخين جو الغرفة، رحت مسرعاً وجئت بمدفأة كهربائية. شغلتها ووجهتها صوب الكنبة التي يجلس فيها. بدا لي أنه قد شعر بالدفء يسري في جسده، إذ أخرج ساقه الاصطناعية وركنها إلى الحائط ثم استلقى بتؤدة في مكانه نفسه، وسحب البطانية على جسمه.
– هل كِنَّتي في العمل؟ – سألني.
– نعم في العمل، والبنت الصغيرة عند جدتها – قُلْت.
فأومأ برأسه علامة الاستحسان ذلك أن كنَّته وحفيدته لم تكونا في البيت ولم ترَياه على هذه الحالة.
– لمَ لمْ تنتظرني يا أبَتِ؟ قلتُها بنبرةٍ معاتبة.
فاضت عيناه عندما سمع مني هذا الكلام، ثم لاذ بصمت عميق وهو يمسك فكَّيه لا يفتحهما لمدة ما، خشية أن ينفلت الأنين الذي ظل إلى الساعة يحبسه في حنجرته. في تلك الأثناء تكوَّنتْ الندبة نفسها على خده. ندبتان لا وصف ولا شبيه لهما. كأنهما فجوتان، مجرَّدُ ظلَّين عميقَين ارتعشا لعدة مرات.
– ضجرت يا ولدي، ضجرت. قالها ثم أضاف: لقد ضجرت من الدوران كل يوم في تلك الصالة مثل بغل الناعور.
– يا أبي! أبلغونا منذ اليوم الأول أن هنالك تمارين يجب القيام بها. وأنت تعرف ذلك. اشترطوا القيام بتلك التمارين لأنهم أصحاب خبرة. ربما هنالك أمور لا نعرفها نحن. لا يطلبون إجراء مثل هذه التمارين، إلا ولهم فيها غاية.
أبي لَمْ يَحِرْ جواباً، بل اكتفى بهزّ رأسه.
– حسنٌ! ماذا جرى لك يا أبي؟ سألته.
قضى بعض الوقت وكأنه يفكّر ولاذ بأذيال الصمت في محاولةٍ منه لاستعادة ما جرى له.
– بعد أن خرجت من هناك لا أعرف إلى أين قادتني خطواتي. قال ثم أضاف بصوت واهن: مشيت لوحدي مسافةً لا بأس بها إلى أسفل المنحدر. ثم اجتزْت الشارع إلى الرصيف المقابل فوجدْتُ نفسي وسط مكان فسيح، محاطاً بالأشجار من كل صوب وحدب. تصوّرت أن المكان هو حديقة عامة. فيها شيء غامق اللون كأنه جدار انبثقت منه هياكل متراصفة مع بعضها بعضاً. وكانت هنالك على يمينهم وشمالهم أشكال نصف بارزة، ناتئة من الحجر.
قلت له:
– أي نعم… إذن دخلت إلى (كوفن بارك).
– لا أعرف ما اسم ذلك المكان، قالها ثم تعدّل في استلقائه معتمداً على كوعه واسترسل في حديثه:
– أجل هنالك وفي غمرة هطول الثلوج لم أدرك أنني حين كنت أمشي قد وصلت إلى وسط حوض متجمد. ثم تكسّرت طبقة الجليد تحت قدمي فغطست في الماء. عندما سقطت في الماء انزلقت عكازتي من بين يدي وفقدتها. بعد ذلك بينما كنت أصارع من أجل البقاء حيّاً في الماء بين طبقات الجليد، كان هنالك الكثير من الناس يمرّون بالقرب مني ولكن لا يكلف أحدٌ منهم نفسه عناء الالتفات نحوي أو النظر إليَّ. ولم يهبّ أحد منهم لمساعدتي. هل فهمت يا ولدي! لم ينظر إليَّ أحد، لم يسمع أحد استغاثَتي.
وبدأ بالبكاء مجدداً، فكان يهرق دموعاً خضراء حَرَّى.
– ما فات مات – قلت – لا تحزن يا أبي هكذا هي الدنيا! أنت تعرف.
قمت وتوجهت إلى المطبخ لأحضر الشاي وكان هدفي أن أتركه وحيداً لبعض الوقت. فكَّرتُ مع نفسي وقلتُ سيكفُّ عن البكاء إذا بقي لوحده. فأمضيت بعض الوقت أنظر عبر نافذة المطبخ إلى أشجار الصنوبر المكلَّلة رؤوسُها بالثلوج. فكرت مؤنِّباً نفسي «لو لم أتركه وحيداً هناك لما جرى له ما جرى».
ذلك اليوم أغلقنا موضوع (كوفن بارك) ولم نتطرَّق إليه قط. قضينا أمسية امتد فيها الصمت لساعات طويلة لا يعكر صفوها سوى طقطقة ملاعق الشاي الصغيرة. بالطبع لم يستطع أبي الصمود أكثر فأخذه النوم مبكراً.
في اليوم التالي خرجنا من البيت في ساعة من ساعات الظهيرة وكأننا شبحان صامتان. ذهبنا إلى (مرجان ميديكال) فاستخدم أبي رجله الاصطناعية دون رغبة، وخطى بها على مضض بضع خطوات. ثم راح يذرع الصالة جيئة وذهاباً حتى اقترب إلى مكتب السكرتيرة. قال لها: أنا ضبطت المسألة، سأعود إلى البلد.
انتابتني الدهشة. فلا السيد (اسفنديار) الذي انطلق من مكتبه بعد أن أخبرته الفتاة بالموضوع ولا أنا استطعت ثنيَه عن قراره. أخذنا نكلِّمُه ونشرح له كل الاحتمالات، إذا حدث كذا وكيت، إلا أنه كان قد اتَّخذ قراراً لا رجعة فيه.
– ولكننا اتفقنا معك على هذه الشروط، قالها السيد (اسفنديار) قلنا إنك ستغادر من هذا الباب وأنت تمشي بلا عكازة.
– إذن اسمحوا لي، قالها أبي ومال برأسه قليلاً إلى جانب: لا يسعني إلاّ أن أقول لكم عملتم الطرف الاصطناعي بشكل جميل. وعلى أي حال سوف أتعود عليه كلما استخدمته.
ظل السيد (اسفنديار) يشيِّعنا بنظرات حائرة وهو يفرك يداً بيد.
– لا داعي! لن نمرّ بالبيت يا ولدي. قالها أبي حين ركبنا سيارة الأجرة: يتوجب عليَّ أن أغادر مبكراً لكي أستقل أوَّل قطار ذاهب إلى (دنيزلي).
أعلم أنه لن يقبل بالبقاء حتى إذا توسَّلت إليه.
– السفر بالقطار صعب وفيه مشقّة يا أبي. ابْقَ لأرسلك بالباص.
فأومأ برأسه علامة تفيد أنه من الممكن أن أفعل ذلك بنفسي.
__________________________________
الرواية صادرة أخيراً عن دار المدى
1- صحية: منطقة شعبية في أنقرة. تُعدّ مركز المدينة حيث تلتقي فيها خطوط الأوتوبيس وأنواع مختلفة من حافلات الأجرة – المترجم.
2- كوفن بارك حديقة عامة تقع في وسط (أنقرة) في ميدان (قزل آي). هي اليوم معلمٌ من معالم العاصمة التركية (أنقرة). فيها أماكن للتنزُّه ونُصبٌ جداري يجسِّد جهود المزارعين والقوى العاملة المنتجة. من تصميم المهندس والفنان الأسترالي (كليمنس هولزميستر). تحتوي الحديقة على مساحات مشجَّرة أضيفت إليها فيما بعد أماكن جديدة زودت بمقاعد للجلوس، كما خصّصت فيها مساحات كبيرة اتخذت كمواقف للسيارات والحافلات الحكومية. فيها جنائن خاصة للأطفال وأماكن خاصة لراحة المسنين. صارت الحديقة فيما بعد قبلة للتجمُّعات الجماهيرية ومنطَلَقاً للمسيرات – المترجم.
*****
خاص بأوكسجين