من رواية “تعويض مزدوج”
العدد 273 | 14 تشرين الأول 2022
جيمس مولاهان كين


عند المنعطف القريب من البيت توجد شجرة كبيرة لا تُرى من أي منزل. تسللت خلفها وانتظرت. انتظرت دقيقتين تماماً. لكن بدا لي كأنهما ساعة. بعد ذلك رأيت وميض مصابيح أمامية. اقتربت السيارة إلى المنعطف. كانت هي من يجلس خلف المقود، وهو في المقعد إلى جانبها وعكازتاه مسنودتان تحت كوعه إلى جانب الباب. عندما وصلت إلى المنعطف، توقفت. هذه الخطوة كانت جزءاً من الخطة التي رسمناها، وهي اللحظة المفصلية في جريمتنا… كيف يمكن إقناعه بالخروج من السيارة لدقيقة، والحقائب في الخلف وكل شيء جاهز، لأتمكن من الدخول إلى السيارة. لو كان سالماً معافى ويستطيع الوقوف على قدميه لكان الأمر سهلاً، لكن إخراج شخص أعرج من السيارة بعد أن استقر فيها، وخاصة بوجود شخص سليم جالس بقربه تماماً، هو أشبه بإخراج فرس نهر من سيارة.

بدأت الحديث كما علمتها. “محفظتي ليست معي.”

“ألم تحضريها معكِ؟”

“ظننت ذلك. ابحث في المقعد الخلفي.”

“لا، لا يوجد شيء هنا سوى أغراضي.”

“لا أتذكر ماذا فعلت بها.”

“طيب، هيا بنا، سنتأخر. خذي، إليك دولاراً. سيكفيكِ هذا للعودة إلى البيت.” 

“لا بد وأنني قد تركتها على الأريكة في غرفة المعيشة.”

“طيّب، طيّب، فهمت، والله فهمت، لقد تركتِها على الأريكة في غرفة المعيشة. دعينا نذهب الآن.”

 كانت تصل إلى تلك الجزئية التي كنت قد أعدتها على مسامعها أكثر من أربعين مرة.

عند إعداد الخطة، كانت تلف وتدور وتعود لتطلب منه أن يخرج من السيارة ويجلبها لها. وفي النهاية تمكنت من إقناعها بأنها إذا فعلت ذلك ستعطيه الفرصة ليسألها لماذا لا تخرج هي وتجلبها بنفسها، خاصة أن عليه أن يخرج العكازات ليتمكن من النهوض والخروج. بيّنت لها أن فرصتها الوحيدة هي أن تدعي الغباء وتسوق في الهبل، وألا تشغّل السيارة، وأن تنتظره إلى أن يفقد أعصابه، ويزداد قلقه من مضي الوقت وخوفه من أن يفوته القطار، ليضحي براحته ويلعب دور الشهيد ويجلبها بنفسه. التزمت بالخطة بحذافيرها، وفعلت كما كنت قد درّبتها.

“لكنني أحتاج إلى محفظتي.”

“لماذا؟ ألا يكفيكِ دولار؟”

 “لكن أحمر شفاهي موجود فيها.”

“اسمعيني، هل يصعب عليكِ أن تفهمي أننا نحاول اللحاق بالقطار؟ تلك ليست رحلة بالسيارة حيث يمكننا الانطلاق عندما يطيب لنا. إنه قطار يسير على سكة حديدية، ويغادر المحطة عند التاسعة وخمس وأربعين دقيقة، وعندما يحين موعد مغادرته يمضي ولا ينتظر أحداً. هيا بنا. شغلي السيارة ولننطلق.”

“لا، إذا كنت ستتحدث بهذه الطريقة، سـ…”

“أي طريقة؟”

“جل ما قلته هو أنني بحاجة إلى…”

 

أطلق سيلاً من الشتائم والكلمات النابية، وبعد جهد ولأي سمعت صوت العكازات وهي تقرقع إلى جانب السيارة. وبمجرد أن أصبح قرب المنعطف يسير عائداً إلى منزله وهو يعرج ويشتم، اندسست في السيارة. كان يجب أن أدخلها من الباب الأمامي وأن أصعد من المقعد الأمامي إلى الخلفي كي لا يسمع صوت إغلاق الباب الخلفي. لصوت انغلاق باب السيارة وقع تلتقطه الأذن دوماً. جثمت في الأسفل متخفياً في الظلام. كان قد وضع حقيبته ومحفظته الجلدية على المقعد الخلفي.

“هل فعلتُ كل شيء كما يجب؟”

“إلى الآن، نعم. كيف تخلصتِ من لولا؟”

“لم أضطر إلى ذلك. كانت قد تلقت دعوة إلى حدث ما في جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلس، وقد أوصلتها إلى الحافلة بنفسي عند السابعة.”

“عظيم. ارجعي إلى الخلف الآن، كي لا يضطر إلى السير لمسافة طويلة. حاولي أن تهدئيه قليلاً عندما يعود.”

“حسناً.”

رجعت بالسيارة إلى أن أصبحت بمحاذاة باب المنزل وعاد ليركب في مقعده من جديد. شغّلت السيارة. صدقني ليس هناك أبشع من التطفل على رجل وزوجته والتنصت إلى حديثهما معاً كما يحدث في الواقع بعيداً عن التصنع في حضور الآخرين. وبمجرد أن هدَأته قليلاً، بدأ يشتكي من بيللي، ومن الطريقة التي قدمت بها العشاء. وهي انتقدت بيللي بشدة للطريقة التي كسرت بها بعض الأطباق. ومن ثم تحولا للحديث عن شخص اسمه هوبي، وامرأة اسمها إيثيل، تبين من حديثهما أنها زوجة هوبي. قال إنه لم يعد يتواصل مع هوبي، وربما لاحظ هوبي ذلك. قالت إنها كانت تحب إيثيل لكن سلوكها المتكبر مؤخراً كان أكثر من قدرتها على التحمل. كانا يحاولان تذكر ما إذا كانا يدينان لهوبي وإيثيل بعشاء أم العكس، واكتشفا بعد ذلك، أنهما يدينان لهما بدعوة على العشاء، وقررا أنهما بعد أن يسددا دينهما سيضعان حداً لتلك العلاقة. وعندما اتفقا على الأمر وانتهيا من ذلك الحديث، قررا أنه سيستقل سيارة أجرة أينما تنقّل في باولو ألتو، حتى لو كلفه ذلك المزيد من النقود، فإذا كان سيعاني مع هاتين العكازتين أينما ذهب، لن يستمتع بوقته، أضف إلى ذلك أنه يخشى أن يجهد ساقه. كانت فيليس تتحدث إليه وكأنه ذاهب بالفعل إلى بالو ألتو وما من فكرة أخرى تدور ببالها. المرأة مخلوق غريب فعلاً.

 

لم أتمكن من معرفة أين كنا قد وصلنا من مكاني في الخلف. كنت أخشى أن أتنفس حتى لا يسمعني. كان عليها أن تقود بحذر بحيث لا تقوم بأي توقفات مفاجئة، ولا تعلق في الزحام، ولا تفعل أي شيء يضطره إلى الالتفات إلى الخلف ليري ماذا يحدث وراء السيارة. لم يفعل ذلك. كان يضع سيجاراً في فمه، ويدخنه وهو مضطجع في مقعده. بعد برهة ضربت على بوق السيارة بحدة مرتين. كانت تلك هي الإشارة التي اتفقنا عليها عند الوصول إلى شارع مظلم كنا قد اخترناه مسبقاً، وكان يبعد نصف ميل عن المحطة.

 

نهضت، ووضعت يدي على فمه، وسحبت رأسه إلى الخلف. قبض على يدي بيديه الاثنتين. كان السيجار لا يزال في يده. أخذته منه بيدي الأخرى، وأعطيته لها. أخذَته. أمسكتُ بإحدى عكازتيه وحشرتها تحت ذقنه. لن أقول لكم ما فعلته بعد ذلك. لكن خلال ثانيتين كان منطوياً على نفسه مكسور العنق في مقعده، وما من علامة تشي بما حدث له سوى تغضن خلّفه لجاف العكازة فوق أنفه مباشرة.

 

كنا في خضمها، لحظة الجرأة والوقاحة، تلك التي لا غنى عنها لنجاح أي جريمة. خلال العشرين دقيقة التي تلت كنا جاثمَين بين براثن الموت، ليس نتيجة لما حدث وحسب، بل لما سيحدث لاحقاً وإلامَ ستؤول الأمور. كانت تهم برمي السيجار إلى الخارج، لكنني أوقفتها. كان قد أشعل ذلك السيجار في المنزل، ويجب أن يكون معي الآن. أبقته معها لتعطيني إياه لاحقاً، ومسحت ما علق بعقبه من لعابه قدر ما استطاعت، بينما تكفلت أنا بربطه بالحبل. لففت الحبل حول كتفيه، ومررته من تحت عنقه مباشرة، ومن تحت ذراعيه، هكذا عبر ظهره. أحكمت وثاقه باستخدام المقبض ليمسك الحبل من طرفيه، ويشدهما إلى بعضهما بقوة. من أصعب الأشياء التي يمكن أن تتعامل معها في الحياة هي جثة رجل ميت، لكنني توصلت إلى طريقة لإحكام الوثاق حوله بالرغم من صعوبة ذلك، وبالسرعة اللازمة.

“لقد وصلنا يا والتر. هل أركن السيارة هنا أم أقود بها حول الحي؟”

“اركنيها الآن. نحن جاهزون.”

أوقفت السيارة في شارع فرعي على بعد مبنى واحد من المحطة. مكثنا وقتاً لا بأس به نقرر أين سنركن السيارة. فإذا ذهبنا إلى الموقف المخصص للمحطة، كان احتمال أن يندفع أحد العمال وينقض على الباب بسرعة ويفتحه لينتشل الحقائب يفوق الـ90%، وعندها سينكشف أمرنا ونصبح في خبر كان. لكن لا خوف من ركن السيارة هنا. وإذا ما ساعدتنا الظروف، سندخل في جدال أمام أحدهم وأوجه اللوم لها لأنها جعلتني أمشي كل تلك المسافة بركنها السيارة هنا لنغطي على هذه الجزئية التي قد تبدو غريبة بعض الشيء إذا ما فكر أحد فيها.

 

خرجت من السيارة وأخذت معها الحقيبة والمحفظة الجلدية. كان نيّقاً يضع أدوات نظافته الشخصية في حقيبته الجلدية ليستخدمها أثناء وجوده على متن القطار، وكانت هذه سابقة بالنسبة إلي. أغلقتُ كل النوافذ وحملت العكازتين وخرجت من السيارة، وأقفلت هي الأبواب. تركناه حيث هو، مكوماً على نفسه ومكتفاً كذبيحة في ذلك المقعد.

مضت وهي تحمل الحقيبة والمحفظة الجلدية وأنا مشيت خلفها وقدمي المضمدة مرفوعة عن الأرض أسير مستعيناً بالعكازتين. بدا الأمر كأن امرأة تمد يد العون لرجل كسيح. كانت تلك بالفعل طريقة جيدة كي لا يمعن العامل النظر في وجهي وهو يأخذ الحقائب. وخلال وقت قصير وصلنا إلى المنعطف الذي تُرى منه المحطة، وهنا أتى أحدهم إلينا راكضاً. فعل كما توقعنا تماماً. أخذ الحقائب منها ولم ينتظرني أو ينظر إلي أبداً.

“قطار التاسعة وخمس وأربعين إلى سان فرانسيسكو، المقصورة الثامنة، العربة الثالثة.”

“المقصورة الثامنة في العربة الثالثة، حاضر سيدتي، سأنتظركِ في القطار.”

 

مشينا عبر المحطة. جعلتها تسير خلفي لأتمكن من أن أهمس لها في حال حدث أي شيء. كنت أرتدي النظارات وقبعتي مسحوبة إلى الأمام، لكن ليس كثيراً. كنت أسير مطرقاً عينَي في الأرض وكأني أراقب أين أضع العكازتين في كل خطوة. أبقيت السيجار في فمي، من ناحية كي يخفي جزءاً من ملامحي، ومن ناحية أخرى لأتمكن من شد عضلات وجهي لتتغير معالمه قليلاً، ولأبدو كأنني أحاول منع الدخان من إصابة عيني.

 

كان القطار على التحويلة للخروج من الجهة الخلفية للمحطة. أحصيت العربات بسرعة. “يا ساتر! إنها العربة الثالثة.” كانت العربة التي يقف أمامها المحصليَن معاً، وليس هما وحسب، بل الحمّال والعامل في انتظار الإكرامية. وإذا لم نفعل شيئاً حيال ذلك وبسرعة، سيكون عدد الأشخاص الذين أمعنوا النظر في وجهي قبل أن أدخل العربة هو أربعة، وهذا قد يودي بنا إلى حبل المشنقة. غذت فيليس السير لتصل إليهم قبلي. رأيتها تنفح العامل بعض النقود فما كان منه إلا أن خرج وهو ينحني لها. لم يمر بقربي. اتجه إلى الطرف البعيد من المحطة حيث يقع موقف السيارات. بعد ذلك وقعت عينا الحمّال علي، وبدأ يحدق بي، فما كان من فيليس إلا أن أمسكَته من ذراعه.

“لا يحب أن يساعده أحد.”

لم يفهم الحمّال ما قالته. لكن المحصّل فهم في الحال.

توقف الحمّال. ومن ثم استوعب ما قالته. أدار الكل ظهره وبدأوا يتحدثون. صعدت بمشقة سلم العربة. وصلت إلى الأعلى. كانت تلك إشارة لها. كانت لا تزال تنتظر في الأسفل بجانب المحصلين. “عزيزي.”

توقفت واستدرت نصف استدارة. “عد إلى منصة المراقبة. سأودعك هناك، وبعدها سأغادر القطار وأنا مطمئنة. ما زال لديك بضع دقائق. يمكننا أن نتبادل الحديث هناك.”

“حسناً.”

بدأتُ السير نحو الجهة الخلفية عبر العربة. وبدأت هي السير بالاتجاه ذاته على الأرض، خارج القطار.

 

كانت العربات الثلاث ممتلئة عن آخرها بالمسافرين المتلهفين للخلود إلى النوم، وكانت كل المضاجع مجهزة والحقائب موضوعة خارجاً في الممر. لم يكن الحمالون هناك. كانوا في أكشاكهم في الخارج. أبقيت عينَي مطرقتين في الأرض وأنا أعض على السيجار بقوة ووجهي متشنج الملامح. لم يرني أحد فعلياً، لكن الكل وقع نظره علي، ذلك أنهم ما إن رأوا تينك العكازتين حتى بدأوا يتخاطفون الحقائب من أمامي ليفسحوا المجال لي للمرور. وما كان يبدر مني سوى إيماءة بسيطة و”شكراً” لا تكاد تُسمع.

 

عندما رأيت وجهها أدركت أن ثمة شيء لم يسر كما يجب. في الخارج على منصة المراقبة، رأيت ما كان هذا الشيء، رجل جاثم في الركن يدخن في الظلام. جلست على الطرف المقابل. مدت يدها إلي. أمسكت بها. استمرت بالنظر إلي بحثاً عن إشارة. ظللت ألفظ بشفتيَّ دون نطق “ركن السيارة، ركن السيارة…” بعد ثانية أو اثنتين فهمت.

“عزيزي.”

“نعم.”

“هل ما زلت مستاءً مني لأني ركنت السيارة بعيداً؟”

“إنسي الأمر.”

“ظننت أنني كنت متجهة إلى موقف المحطة، صدقني. لكن هذا الجزء من البلدة دائماً ما يشوشني وأتيه في طرقاته. لم يكن لدي أدنى فكرة أنني سأضطرك إلى السير كل هذه المسافة.”

“قلت لكِ إنسي الامر.”

“أنا آسفة للغاية.”

“قبليني.”

نظرت إلى ساعتي، رفعتها في اتجاهها. كان لا يزال أمامنا سبع دقائق قبل أن يغادر القطار. كانت بحاجة إلى ست دقائق لتبدأ بما كان عليها القيام به. “اسمعيني يا فيليس، لا فائدة من بقائكِ هنا. ما رأيكِ أن تغادري الآن؟”

“لا تمانع إن غادرت الآن؟”

“لا أبداً. لا معنى لبقائكِ هنا.”

“إلى اللقاء إذاً.”

“إلى اللقاء.”

“استمتع بوقتك في ليلاند ستانفورد.”

“سأبذل جهدي.”

“أعطني قبلة أخرى.”

“إلى اللقاء.”

 

أما أنا فكان علي التخلص من ذلك الشخص، والتخلص منه فوراً. لم أكن أتوقع وجود أي شخص هناك. من النادر أن تجد أحداً في هذا المكان عند مغادرة القطار. جلست هناك محاولاً أن أفكر في حيلة ما. ظننت أنه سيغادر عندما يفرغ من تدخين سيجارته، لكنه لم يفعل. رماها وبدأ بالحديث.

“غريب أمر النساء.”

“غريب وعجيب أيضاً.” 

“لم أستطع أن أمنع نفسي من سماع ذلك الحديث الوجيز الذي دار بينك وبين وزوجتك منذ هنيهة. قصدي بخصوص ركن السيارة في ذلك المكان. وقد ذكرني بموقف عشته مع زوجتي ونحن عائدان إلى منزلنا من سان دييغو.”

 

روى لي الموقف الذي اختبره مع زوجته. تطلعت إليه لأراه جيداً، لكنني لم أتمكن من رؤية وجهه. فأدركت أنه هو أيضاً لم يكن يراني. توقف عن الكلام. كان علي أن أقول له شيئاً.

“صدقت، النساء أمرهن غريب فعلاً. خاصة عندما يجلسن وراء مقود السيارة.”

“حدّث ولا حرج.”

بدأ القطار بالتحرك والزحف عبر ضواحي لوس أنجلس وهو لا يزال يتحدث ويثرثر. ثم خطرت ببالي فكرة. تذكرت أنني من المفترض أن أكون أعرج، وبدأت أبحث في جيوبي.

“هل أضعت شيئاً؟”

“لا يمكنني العثور على تذكرتي.”

“بالمناسبة، أنا أيضاً لا أذكر أين وضعت تذكرتي. أيوى! ها هي.”

“أراهنك أنني أعرف أين وضعَتها، في المحفظة الجلدية، تماماً حيث قلت لها ألا تضعها. كان عليها أن تضعها هنا في جيب السترة، والآن…” 

“لا تقلق، ستجدها.”

“لقد تفوقت على نفسها هنا! والآن علي أن أذهب وأبحث في كل تلك العربات وانا أعرج على هاتين العكازتين، وكل هذا لمَ؟ لأن زوجتي المصون…”

“لا تكن أحمق. ابقَ حيث أنت.”

“لا، لا يمكنني أن أسمح…”

“كفاك يا صديقي العجوز، سيكون هذا من دواعي سروري. ابقَ حيث أنت وأنا سأبحث عنها وأجلبها إليك. أين مقصورتك؟”

“هذا لطف منك. المقصورة الثامنة، العربة الثالثة.”

“سأجلبها وأعود إليك في الحال.”

 

كنا نسير بسرعة أكبر الآن. كانت الإشارة التي أنتظرها هي لافتة محل للأجبان والألبان يبعد حوالى ربع ميل من سكة الحديد. كانت على مرمى نظري الآن فأشعلت سيجاري. وضعت العكازتين تحت إحدى ذراعي، وألقيت قدمي فوق السكة، وقفزت إلى الأرض. إحدى العكازتين اصطدمت بالعوارض ما أخل بتوازني وكدت أسقط. لبثت معلقاً هناك. وعندما أصبح القطار بمحاذاة اللافتة، ترجّلت.

ليس ثمة مكان أشد ظلمة من سكة قطار في قلب الليل. شق القطار طريقه مبتعداً وأنا جثمت مكاني منتظراً أن يغادر الخدر قدمَي. كنت قد ترجّلت من الطرف الأيسر للقطار على ممر المشاة بين السكك الحديدية، لذا كان من المستحيل أن أكون مرئياً من الطريق السريع. كان يبعد حوالى مئتي قدم. مكثت هناك رابضاً على يدَي وركبتَي أبذل جهدي لأرى أي شيء على الطرف الآخر من السكة. كان ثمة طريق ترابي هناك يشكل نقطة دخول لبضعة مصانع في الخلف. أراضٍ خلاء كانت تحيط بالمكان من كل جانب ولم يكن هناك بصيص ضوء قط. يجب أن تكون قد وصلَت الآن. كان أمامها سبع دقائق لتسبقنا، القطار استغرق ست دقائق ليصل إلى تلك النقطة، وكانت المسافة من المحطة إلى الطريق الترابي تستغرق إحدى عشرة دقيقة بالسيارة. كنت قد تحققت من ذلك عشرين مرة. لبثت مكاني أحدّق في الظلام محاولاً أن أرى سيارة في الأرجاء. لم أرَ شيئاً.

 

لا أعلم كم من الوقت لبثتُ هناك. بدأت أتوجس من أن تكون قد تعرضت لحادث، أو أن الشرطة قد أوقفتها، وغير ذلك من المخاوف التي بدأت تعصف برأسي. بعد ذلك سمعت صوتاً. ومن ثم لهاثاً، وبعد ذلك رافق اللهاث وقع أقدام. مخلوق غريب يغذ الخطى لثانيتين أو ثلاث ومن ثم يتوقف. كان الأمر أشبه برؤية كابوس يلاحقك فيه كائن غريب، لا تدرك ما هو، لكنه مرعب حتى الموت. بعد ذلك رأيت ما كان هذا الكائن… إنها فيليس. لا بد أن وزن ذلك الرجل كان يزيد عن مئة كيلوغرام، لكنها كانت تحمله على ظهرها ممسكة إياه من المقبض تعاني في السير وهو يثقل كاهلها فوق السكة الحديدية. كان رأسه يتدلى قرب رأسها. بديا وكأنهما ملصق إعلاني لفيلم رعب.

 

هرعت إليها وأمسكته من ساقيه لأرفع عنها شيئاً من ثقله. مشينا به عدة خطوات. كانت تهم بوضعه أرضاً. “ليس على هذه السكة! ضعيه على الأخرى.”

رفعناه فوق السكة التي سلكها القطار في ذهابه، ووضعناه هناك. قطعتُ الحبل وحشرته في جيبي. وضعت السيجار المشتعل على بعد قدم أو اثنتين منه. رميت إحدى العكازتين عليه ورميت الأخرى قرب السكة.

 

“أين السيارة؟”

“هناك. ألم ترها؟”

نظرت، وإذ بها بالفعل هناك، حيث من المفترض أن تكون تماماً… على الطريق الترابي.

“انتهى عملنا. هيا بنا.”

مضينا بسرعة إلى السيارة ودخلناها وشغّلت المحرك، ووضعت ناقل السرعة على وضعية القيادة. “يا إلهي! قبعته!”

أخذت تلك القبعة ورميتها من النافذة نحو السكة الحديدية. “لا بأس، القبعة قد تتدحرج… انطلقي الآن.”

انطلقت بعد ذلك. مررنا بقرب المصانع لنصل بعدها إلى أحد الشوارع.

عند صانسيت بولفار اجتازت إشارة ضوئية.

“انظري إلى هذا، ألا يمكنكِ رؤية هذا يا فيليس؟ لو تم إيقافك هنا الآن، وأنا معك في هذه السيارة، سنصبح في خبر كان.”

“كيف يمكنني أن أقود وهذا الشيء يقرع في رأسي؟”

كانت تقصد مذياع السيارة. كنت قد شغّلته منذ أن صعدنا إلى السيارة. كان ذلك جزءاً من حجة غيابي خلال الفترة التي قضيتها خارج المنزل… سأقول إنني أخذت استراحة من العمل واستمعت إلى المذياع. كان علي أن أعرف ما الذي بثه المذياع في تلك الليلة. توجّب علي أن أعرف المزيد من خلال قراءة جدول البرامج اليومية في الصحف. “يجب أن أستمع إليه، تعلمين ذلك…”

“دعني وشأني، اتركني أقود.”

كانت تزيد سرعتها. لا بد أنها كانت تقود بسرعة سبعين أو أكثر. تشنج وجهي وكززت على أسناني بقوة والتزمت الصمت. عندما وصلنا إلى أرض خلاء رميت الحبل خارجاً. بعد ذلك بميل رميت المقبض. وعندما مررنا بقرب بلوعة للتصريف الصحي رميت النظارات فيها. بعد ذلك صادف أن نظرتُ إلى الأسفل ورأيت حذاءها. كان مليئاً بالخدوش من الحصى على طرفي السكة.

“ما الذي جعلكِ تحملينه على ظهرك؟ لماذا لم تدعيني…”

“أين كنت؟ أين كنت؟”

“كنت هناك. كنت أنتظر…”

“وهل كنت أعلم ذلك؟ هل كان بإمكاني أن أجلس هناك وحيدة مع جثة في السيارة؟”

“كنت أحاول أن أكتشف أين كنتِ. لم أتمكن من رؤية…”

“دعني وشأني… اتركني أقود بسلام!”

“حذاؤك…”

بلعتها وصمتت. خلال ثانية أو اثنتين، بدأت من جديد. كانت مهتاجة كمخبولة. اهتاجت وأرغدت وأزبدت واستمرت بالهيجان على زوجها القتيل وعلي وعلى أي شيء خطر ببالها. كنت أفقد أعصابي بين حين وآخر. ها نحن، وبعد كل ما فعلناه، نزمجر على بعضنا كحيوانين، وأي منا لا يستطيع أن يكبح جماح غضبه. كنا أشبه باثنين حُقنا بكمية هائلة من المخدر.

 “فيليس، كفي عن ذلك. يجب أن نتحدث، وقد تكون هذه آخر فرصة لنا.”

“تحدّث، من الذي يمنعك؟”

“أولاً، أنتِ لا تعرفين شيئاً عن بوليصة التأمين. أنتِ…”

“كم مرة عليك أن تعيد هذا على مسامعي؟”

“أقول لكِ فقط…”

“لقد قلتها مليون مرة حتى أصبحت أصاب بالغثيان لسماعها.”

“ثانياً، الاستجواب. ستحضرين…”

“سأحضر كاهناً، أعرف ذلك، سأحضر كاهناً ليتولى أمر الجثة، كم مرة علي أن أسمع هذا… هل ستتركني أقود أم ماذا؟”

“طيب، تفضلي، قودي كما تحبين.”

“هل بيللي في المنزل؟”

“كيف لي أن أعرف؟ لا!”

“ولولا ليست في المنزل؟”

“أخبرتك أنها خرجت؟”

“إذاً عليكِ أن تعرّجي على المتجر لتشتري قمعاً من المثلجات أو شيئاً من هذا القبيل. هكذا سيكون لديك شهود على أنك قد عدتِ من المحطة إلى البيت مباشرةً. يجب أن تذكري شيئاً يدل على الوقت والتاريخ. عليكِ أن…”

“أخرج! انقلع! اذهب قبل أن أفقد عقلي!”

“لا يمكنني أن أخرج الآن. يجب أن أصل إلى سيارتي أولاً! أتعلمين ما يعنيه هذا؟ إذا استغرقت وقتاً طويلاً في السير؟ لا يمكنني ان أكمل حجة غيابي!”

“قلت لك أخرج!”

“تابعي القيادة وإلا أوسعتكِ ضرباً.”

عندما وصلت إلى المكان الذي ركنت فيه سيارتي، توقفَت فترجلت. لم نتبادل القبل. حتى أننا لم نتودع. خرجت من سيارتها، ركبت سيارتي، أدرت المحرك، ومضيت في طريقي نحو المنزل.

 

عندما وصلت إلى المنزل نظرت إلى الساعة. كانت تشير إلى العاشرة وخمس وعشرين دقيقة. فتحت علبة جرس الهاتف. كانت البطاقة لا تزال في مكانها. أغلقت الصندوق ووضعت البطاقة في جيبي. ذهبت إلى المطبخ ونظرت إلى علبة جرس الباب. كانت البطاقة لا تزال مكانها. وضعتها في جيبي. صعدت إلى الدور العلوي، نزعت عني ملابسي، وارتديت منامتي وخفي… نزعت الضمادة عن ساقي. عدت إلى الدور السفلي، رميت الضمادة والبطاقات في الموقد، ومعها الصحيفة، وأضرمت فيها النار. راقبتها وهي تحترق. ومن ثم مضيت إلى الهاتف وبدأت بطلب الرقم. كان لا يزال لدي مكالمة رد لأتلقاها، وهكذا أكمل الفصل الأخير من حجة غيابي.

 

شعرت بغصة في حلقي، وانفجرت بالبكاء. أغلقت سماعة الهاتف. كانت الحالة تهيمن علي. علمت أن علي أن أسيطر على نفسي. بلعت ريقي بضع مرات. أردت أن أكون واثقاً من أن صوتي لا تشوبه شائبة… أن صوتي لن يشي بأي شيء غريب. خطرت ببالي فكرة غبية مفادها أنني ربما إذا غنيت أغنية ما سأخرج من هذه الحالة. بدأت بغناء Isle of Capri*. غنيت مقطعين منها، فتحول بكائي إلى عويل.

—————————-

صدرت الرواية أخيراً عن دار المدى

*****

خاص بأوكسجين

 

 


روائي وصحافي أميركي (1892 - 1977)، من رواياته: "ساعي البريد يقرع دائماً الباب مرتين"" (1934) و""ملدريد بيرس"" (1941) و""الفراشة"" (1947) وغبرها."