1
بنظارته المذهبة ووجهه الحليق والحركات الباردة المؤمنة اليائسة التي تصدر عن جسده الطويل والنحيل حين يمارس عمله، كان الدكتور موريس يبدو تمثالاً من البورسلان الأبيض، وحين كان الابن الأصغر لغرو، على عادته، يخلع ثيابه ويخرج عارياً يركض في الزقاق، كان الدكتور موريس يلتقطه من الباب، يرفعه عالياً، يجلسه على طاولة الفحص البلورية، ينظف أصابعه بقطن مبلل بالكحول، ثم يقيس وزنه، ثم يدق على باب غرو، ويخاطبه: “دير بالك عليه، هادا برّي، لا تتركو لحالو.”
ذات يوم، حين كان متوارياً عندي في أسبوعه الأخير، قال مشيراً إلى العهد القديم في يده: “الكتب المقدسة ينبغي ألا تقرأ إلا بعد الأربعين”، وأضاف: “الشعور بالذنب لا يخلف سوى الضباب، أظن أن الخطيئة …” وتوقف لحظة، شهق بحرقة، نفخ خديه، ثم زفر بقوة، وصمت لكنه ظل يربّت بقبضته المضمومة على وركه الأيمن وهو يروح ويجيء في الغرفة الخلفية لمكتبة القرطاسية التي كنت أملكها في “الهلّك”.
وبعدها اختفى الدكتور موريس، كغيره من يهود حلب، أوصاني بعائلة غرو، فهذا الذئب يجب ألا أدعه وحيداً، وأوصاه بمفاتيحه التي تسببت باستدعاء غرو إلى فروع الأمن لأكثر من عشرين مرة.
2
حين ترك غرو إخوته ونزل من جبل الأكراد، كانت “الهلّك” لم تتسع بعد، ولا أصبحت مركزاً لورشات “الموبيليا” وورشات الأحذية، فعمل سائق تاكسي إجرة، ثم تزوج من ألماز، ابنة رجل من أكراد ماردين، ولم تنتظر ألماز طويلاً فولدت له بعد تسعة أشهر ولداً اسمته مير وثم ولداً آخر وأسمته منان وثم ولدت له تشيلو.
من إحدى زياراته إلى فنادق باب الفرج أصيب بالسيلان، ولزمه شهر كامل من الحقن العضلية والوريدية حتى شفي، فكان يضحك ويقول: “يا زلمة، لبين ما فتحت بخش، انفتح فيني تسعة وتسعين بخش”. أحياناً كثيرة كان غرو يتفاخر بأنه فحل، وأنه يستغرق في النيك ساعة ونصف حتى تبكي ألماز وترجوه أن يتوقف، وأحياناً كان يلعن نفسه وجنس النساء، ويقول: “يا ريت لو الإير أطول بشوي، كان الواحد ناك حالو وأرتاح!”
أول مرة، رأيته كان حين أوقفت سيارة تاكسي في باب النصر، وحمّلت الدفاتر وعلب الأقلام و”المحايات” و”البرايات” إلى “الباكاج”، ثم ركبت بجانبه، كانت رائحة الخبز الطازج والفول والبصل تفوح من الداخل، وكان هو يمسد بطنه وأول جملة نطق بها كانت: “نكت وحدة من نص ساعة”، ثم أضاف: “النيك ع الصبح طلع حلو كتير، شو قولك؟”
تقبلتُ الأمر على أنه مزاح غليظ أو أنه غريب أطوار أو سكران، وطلبت منه: “لو سمحت خدني ع….،” فقاطعني فوراً: “ع هلّك، شارع المدرسة، بجانب موريس ألويه، تكرم جاري.” وفتح الراديو/ وأدار الدريكسيون وانطلق نازلاً جادة الخندق في ظهيرة ذلك الأربعاء من أيلول 1980، حيث ما أزال أحتفظ بواحدة من أول “كروت فيزيت” لامعة و”مسلفنة” طبعتها لمكتبتي في ذلك اليوم.
3
دفنتُ نفسي في المكتبة.
أخذت أجلّد الكتب المدرسية، و الكتب الأخرى التي يطلب مقتنوها تجليداً فاخراً أرسلها إلى سبيرو بالجميلية. اقتنيت آلة تصوير “فوتوكوبي”، ثم كمبيوتراً وطابعة “سكانر”، خصصت ثلاثة رفوف للعطور وقسماً للهدايا: أقلام الحبر، سبحات، أوراق لعب، قدّاحات، غلايين، ورود بلاستيكية، ودببة بيضاء ذات أنوف سوداء. بقيت عازباً، ولم أنشغل سوى بعائلة غرو، كنت أباً روحياً لها، وأباً روحياً لغرو نفسه الذي كان يمكن أن يصلح لأي شيء بشكل ما إلا أن يكون أباً. اصطحبتهم ولداً ولداً للختان عند عبد الكريم قطاية في “الجديدة”، وإلى المستوصف لأخذ اللقاحات، و إلى المدارس لحضور مجالس أولياء الأمور، أتوسط لدى المكاتب العقارية لاستئجار منازل لهم، إلى أن اشتروا 75 متراً مربعاً، وعمّروا فيها طابقاً فطابقاً آخر. كنت أرافق غرو إلى ورشات التصليح في الميدان، وإلى وكالات السيارة حين ينوي تبديل سيارته بأخرى.
لذا كنت أقف متأهباً في محطة بغداد جانب الأب وحولنا الأبناء متأنقين، ننتظر كولبهار، وتنفسنا الصعداء حين خرجت من عربة القطار مع آخر الخارجين مرتدية قميصاً صيفياً أبيض وتنورة بيضاء قصيرة، وحين مشت نحونا عصر ذلك اليوم من خريف 2011 وأخذت تدق الرصيف الحجري بأسفل كعب حذائها الأحمر العالي، كانت تؤكد لكل من ينظر إليها بأنها هي من تملك أجمل ساقين على هذه الأرض.
4
أسرّ لي منّان قبل أن يختفي أنه كان كلما دخل على كولبهار، كان يرى شبح الأخ بينهما، وأنه كلما استبدت به الشهوة كان ينزع جسده بقوة عن جسد كولبهار ويبدد منيّه على الأرض.
مع اكتمال دورة الأرض، أصبح غرو يرى في كولبهار التي ترمّلت مرة ثانية لعنة أصابت العائلة بعدما كان يحاول قدر ما يستطيع أن يبقيها. تشيلو أصبح يظهر على الحواجز العسكرية، ألماز لم تعد تقوم بمراجعة أي طبيب آخر، بعدما يئست من المعالجات الفيزيائية والفيتامينات لعلاج الشلل الذي أصابها في الصباح الذي رأت فيه لون الصدأ على كيس خيش أمام البوابة والذي لم يكن فيه سوى جسد بكرها مير.
بين رمضانين، أصبحت حرفة القتل الأشد ضراوة والأكثر كسباً والأسرع إتقاناً، أصبح أحدنا ينام ولا يعرف ما إذا كان سيستيقظ أم لا، يغلق الباب فتمتد إليه يدٌ في الظلام، أو يفتح الباب ثم يستدير ليخرج، وإذ تقبض عليه أيادٍ من الحديد وتعصب عينيه، ثم يقتاد في طريق غامضة ليلقى في آخرها مائدة عليها مسدس، سكين، كلاشينكوف، ويهديه المحترف رفاهية أن ينتقي ما سيُقتل به. كان القتل أعمى، وكان يمضي قدماً، وحين يفكر أحدٌ ما في أداة أخرى، يكون الآخرون قد نسوها، لم نعد نستنكر، أي إله أطلق هذه الوحوش في المدينة، أين كانوا؟ بل كنا، دون جدوى، نستنجد بإله يروض هذه الوحوش التي أطلقت.
كنت ما أزال في “الهلك” حين اتصل بي غرو من الأشرفية بعد نحو ثلاثة أشهر من تلك الليلة المشؤومة، وأخبرني أنه عرف اليوم أن كولبهار حامل، ووصفها بالقحبة، قلت له: طوّل بالك وبكرا الصبح نشوف بس خلي تشيلو ما يعرف.
لقد حدث أسوأ ما كنت أتوقعه، الأسوأ الذي نخشاه ويحدث، الورم الصغير الذي تراه ينمو ببطء تحت جلدك، تراه كل يوم لكنك تكمل ارتداء ثيابك وتقول: إنه لا شيء، لا شيء على الإطلاق، تظن أنك نسيته، لكنه يلعب أمام عينيك وثم إنه ورم. في مدرسة “هدى الشعراوي” بالسريان، كانت كولبهار في قاعة مع جيران قدامى، لم تخف حين رأتنا، كأنها كانت تنتظر مجيئنا منذ فترة طويلة، كانت حاملاً في شهرها الرابع على أكثر تقدير، وحين أشار غرو إلى بطنها وقال: “ما هذا؟” بهدوء مشت نحو ركنها الذي تكوّم فيها أغراضها وجلبت كيساً، وأخرجت منه لفحة عنق سوداء وخاتماً فضياً وساعة سايكو قديمة ذات حجارة الكوارتز الخضراء، وخاطبتني بغضب أخرس وهي تومئ برأسها يساراً نحو غرو:
“خلّي الأفندي يحكيلك.”
5
كانت الحدود تمتد بين غرب حلب وشرقها، وظهيرة ذلك اليوم قادنا غرو بسيارة إلى عيادة أسنان في “حارة الأكراد”، عند نهاية خط “جامع الشيخ معروف” لنقلع ضرساُ ظل يؤلم ألماز الليل كله ولم تفد لا حبات البروفين ولا فصوص الثوم ولا سائل القرنفل، كانت “الهلك” قد فرغت من الأطباء، كل ما فعله الطبيب الذي صادفناه قبل شهور في ورشة النجارة لجارنا أن وصف مضاداً للالتهاب، وأوصى أن نراجعه بعد أسبوع، واغتنمت لحظات وأريته فمي فما كان منه إلا أن قال: “هادا صديقك السكري، هو عدو بس لازم تعامله كأنو صديق.”
كان طبيب الأسنان الذي يرتدي جينزاً أزرق وحذاء رياضياً ويشبه لاعبي خط الدفاع في نوادي كرة القدم الشعبية، ينوي أن يهاجر إلى أربيل ليعمل هناك تاركاً كل شيء وراءه، فاقترح غرو أن يستأجر منزله بالأشرفية حيث كانت الحياة ما تزال تحتمل هناك، وهناك عرفت ألماز في زوجته ابنة جارة قديمة، الجيران الذي أخرجوا الدكتور موريس ألويه في وقت ما وأوصلوه إلى الحدود، ظلت زوجته تروح وتجيء بين المطبخ وغرفة المعيشة وتدير الأحاديث بينما كان محمد رشو وهذا اسمه متمدداً على الأرض يرفع ابنه الصغير عالياً على قدميه، وقام فقط حين اقتربت منه ابنته و قالت أن ساعتها الجديدة قد وقعت في فتحة التواليت، بقيت ألماز نهارها هناك تبربر وحين قمت أنا وغرو لنخرج كان الطبيب ما يزال منحنياً على الأرض، مرتدياً قفازات مطاطية يحاول دون يأس أن يخرج الساعة اللعينة من الفتحة الخطأ التي صممت لتبتلع الأشياء التي نتنازل عنها للأبد وبسعادة.
الطريق من الأشرفية حتى الهلك عبر بستان الباشا كان طويلاً أكثر من أي وقت آخر، وكانت الميليشيات العسكرية تقتسمه بحواجزها التي تجاوزت العشرة، ربما هذا ما دعا غرو إلى أن يثرثر بألم، تارة عن الدكتور موريس الذي أوصاه بمفاتيحه، وتارة عن أبنائه وحين ذكر بكره مير، ضغط بقوة على مكابح السيارة، كنا على مقربة من حاجز عسكري، مال بجذعه للأمام ودفن وجهه في المقود، كان الجنديان الملثمان يلوحان لسيارتنا بغضب وكان غرو يبكي دون أن ينتبه لأحد.
6
رغم أنه كان يراها لعنة العائلة وكفى، لم يأتِ غرو على ذكر كولبهار التي كانت تظهر وتختفي منذ أن هبطت على مير من صورة بروفايل في صفحتها على الفايسبوك قبل أشهر من وصولها بالقطار إلى محطة بغداد، لذا لم أعرف إن كان يقصدها حين قال :اللعنة نفسها أو يقصد قذيفة كانت قد سقطت خلف “مشفى فرح”، كان يقود في الشارع المستقيم بجانب دار العجزة نحو مشفى الحميات لكنه أوقف السيارة فجأة ورجع إلى شارع فرعي ثم اتجه إلى مكان البناية التي تهدمت للتو و بينما كانوا مشغولين بإسعاف الجرحى و إجلاء القتلى، اتجه غرو صوب محل هاكوب للمشروبات والذي كان قد خلعت ضرابيته وحمّل سحارتين من البيرة إلى باكاج السيارة ومضى على عجل دون أن يدعني أن أنزل أو أن أمنعه أو حتى أن أسأله: ما الذي تفعله أيها المجنون، ما الذي تفعله بحق الجحيم.
لم نكد نصل إلى بيته حتى دخل الحمام وحلق ذقنه ثم جلسنا تحت شجرة الأنغيدنيا وأخذ يكرع البيرة مع صحن من الفستق المملح، وتعدل مزاجه شيئاً فشيئاً ومع الزجاجة الثالثة كان قد بدأ يلقي النكات وينعتني بالعجوز، وبعد المغرب بقليل، حينما لم يكن يجرؤ أحدٌ على الخروج، ارتدى ملابس نظيفة وقال إنه سيزور هداك البيت ملمحّاً إلى بيت أم كعير ورأيت من الضوء الشرير الذي في عينيه أنه لا بد أن أرافقه.
رغم السرية التي تستدعيها هذه المهنة ورغم الحرب كانت أم كعير تدير البيت بتدبير أنيق تظهر حرفية تدل على أيامها الذهبية التي ابتدأت قبل نصف قرن في بحسيتا، وبعدما دخل غرو إلى الغرفة الداخلية ذات الضوء الخافت، وبينما مولّد صغير يعمل لتوليد الكهرباء، بقيت تسرد لي عن التجار والشعراء والمغنين الذين عاشرتهم وكيف أنها كانت تقيم في غرفة تخصها وحدها في فندق الشرق الأوسط وكانت تجلس على شرفتها وتشم روائح التوابل والزعتر والصابون من المحل المقابل لتسجيلات الشماع.
ظهرت الفتاة التي كانت ستدخل على غرو، كانت تضحك لست أدري لأي سبب، جلست بجانب أم كعير، مالت عليها حتى بان منبت ثدييها ثم وشوشت بصوت أظنني سمعته بما لا غبار عليه: معلمتي، معليش صاحبتي تدخل عليه، هيّ هيك بتريد.
لم تتكلم المعلمة بل مسّت بطرف الأركيلة مسّاً خفيفاً على طيزها وأغمضت عينيها ما عنت: خلّيها تدخل.
قال غرو بأنه فعل أمام المرآة الطويلة في الغرفة الداخلية ما يفعله عادة ريثما تأتي البنت، شلح ثيابه وأخذ ينظر إلى جسده ثم مسّد حيوانه لينهض لكن لم يفعل، لم يتحرك مطلقاً، لم يتمدد، لم ينتصب، بقي كما هو، وعندما دخلت البنت فاجأه شيء آخر، كانت محجبة، وتحركت بإرتباك كان سيبدو واضحاً لولا انهماك غرو تحت الضوء الخافت في إنهاض الديناصور الصغير الغافي في كهف التكوين، ثم اقتربت منه، رفعت لفاحة رأسه عن الكرسي، واستدارت وشلحت ما عليها وغطت راسها باللفاحة السوداء، و أشارت إليه أن تمدد فتمدد على السرير، ركبته مديرة ظهرها له وانحنت على ديناصوره بيديها ولسانها وفمها ثم أفرجت بين ساقيها و خفضت مؤخرتها حتى مس شعر عانتها أرنبة أنفه داعية الذئب القديم ليعوي في البراري، لم يمض طويلاً حتى شقلبها وولج فيها وبينما كان يلكزها أخرجت خاتم الفضة من إصبعه ثم زاد في اللكز و شرع في مدّ عنقه حتى أدخل رأسه تحت اللفاحة السوداء و أخرج لسانها بفمه وأدخل لسانه في فمها، و بينما كانت تخلع عن معصمه ساعة السايكو ذات حجارة الكوارتز الخضراء، كان ملتصقاً بها من الفمين، و قال فيما بعد أنه شمها وشمّ رائحتها تحت اللفاحة التي تغطي الرأسين حتى لم يعد يشمّ سوى رائحة جسده التي يعرفها جيداً.
7
كنا محاصرين في البيت منذ ثلاثة أيام.
في الصباح جمع غرو فوارغ الرصاصات من البلكون ، ثم قضينا ساعة في نقل سطول الماء، عجوزان مثيران للشفقة يتدحرجان على الدرج و يصعدان بصعوبة، تشيلو أتى عند الظهيرة ومعه ربطتا خبز ونصف كيلو من الحمص و كيلو من البندورة، كنا قد تجاوزنا تبادل “صباح الخير و تصبحون على خير” ، كما تعوّدنا على الاستحمام مرة كل عشرة أيام و بسطل واحد، ألماز لا تأتي سوى بأصوات بهيمية نفسّرها على أنها بحاجة لشيء ما، ونهملها غالباً، وحين كان غرو يدفعها بظهر يده كانت تصوّت كحيوان يؤذى في العين بعصا ذات أشواك، بالأمس ليلاً اجتمعنا في الممر مجبرين على أن نشم روائحنا الحادة ، ولم نكن نملك الجرأة لنعبر إلى الغرف ذات النوافذ البلور الواسعة والمشرفة جميعها على الزاوية اللعينة إلا حبواً، كان الوقت متأخراً وكان الشمع قد بدأ ينفد، مالت كولبهار عليّ برائحتها القديمة وببطنها المنتفخ وقالت: عمو، حاسّة ما بدي أكمّل هاد الأسبوع وبكت، لم أر إلا وعيناي العجوزتان القاسيتان تؤلماني بحرقة، بيدي اليسرى حاولت ألا يقع المصحف مني، وبيدي اليمنى ضغطت على كتفها بقوة، وبكيت، بكيت في الظلام، بكيت كما لم أبكِ من قبل.
8
في التاسعة مساء أمسكت كولبهار أسفل بطنها وتأوهت، كانت تحاول أن تكتم الألم، نظرت إلى ساعة سايكو في يد غرو بجانبي، وانتظرت، كانت قد مرّ ما يقارب الخمسة والأربعين دقيقة حين تأوهت مرة أخرى، نظرت في عيني ألماز فنظرت في عيني وأغمضت مع هزة في الرأس، فأمرت غرو أن يسخن الماء، وأمرت تشيلو أن يخرج بسرعة، ناولته المسدس وقلت له: لا تعد إلا ومعك طبيب، فأعاده إلي وقال: لا تخف علي، وفتح الباب.
أخرجت كل شيء من الحمام، ولحسن الحظ كان واسعاً كفاية، وضعت كرسيين متجاورين وبينهما تخت البصل، وبجانبها أسطل الماء، وفي الممر فرشت بطانيتين فوق بعضهما، وحين عاد تشيلو ومعه الطبيب الشاب، كانت كولبهار تتألم كل نصف ساعة، زال شحوب الطبيب شيئاً فشيئاً حين رآنا نتحرك كحمقى، قال: يا جماعة، لا شيء معي سوى هذه الخيوط وهذه الأدوات، لن أكون أفضل من قابلة، وسأبذل قصارى ما أقدر عليه.
أخبرته أنه توأم، و جلست في الممر، انتحى تشيلو جانباً في المطبخ، غرو بقي في ظلمة إحدى الغرف منخفضاَ قريباً من الرصاصات التي تصطدم بحديد البلكونة بين ساعة و أخرى، وأصبح الطبيب سيد المكان، مشّى كولبهار في الممر، مسّد لها البطن بالماء الساخن وبحركات التفافية واسعة، يجلسها على الكرسي تارة: وسعي بين رجليك وخذي نفساً عميقاً وزفري، وتارة لا يمنحها سوى الحماس الذي لا ينطلي على من يتألم وكأنه على صفيح ساخن، في الخامسة فجراً، أطلقت كولبهار صرخة طويلة، خرجت يدٌ صغيرة، وبجانبها خرج الرأس ذو الشعر الأسود المبلل للطفل الآخر، عندها وحسب أسرعت ألماز بحركة الرجل الآلي، حركة المصابين بشلل قديم وأحضرت خيطاً أبيض وقامت بما لم يكن ليخطر على بال أحد، ربطت حول الرسغ الصغيرة، وغمغمت بمفردات مبهمة لم نتبين منها سوى: هذا جاء أولاً.
___________________________
كاتب من سورية
الصورة من فيلم “كلاب شاردة – Stray Dogs” للمخرج التايواني تساي مينغ ليانغ
*****
خاص بأوكسجين