” قد يأتي اليوم الذي ينتهي فيه نهاري قبل أن يبدأ “
هكذا قالت لي المرأة القصيرة الفقيرة المليئة بالأولاد ذات يوم، وهي تقف على بابي.
” ليس لدي سوى الكلام أقيت به أطفالي. أحشو لهم الأمل في جمل قصيرة وأتركهم يحلمون طيلة النهار. والحقيقة يا أستاذ… أنا نفسي ليس لدي أمل في شيء، ولكن ما ذنب الأطفال؟ لابد لهم من شيء يعيشون لأجله…”
رحلت يومها دون أن أعطيها أي شيء سوى نظرة اشمئزاز لم تلحظها. وجلست أنا بجانب نافذتي أراقب سير الحياة خارج حدود عالمي الصغير. أحياناً أشعر بأني وحيد وخائف فأتمسك جيداً بسيجارتي لأني بدأت أشعر بأن الحياة تمر عبرها، ولكن في النهاية لابد أن تنتهي كل السجائر وتبدأ الروح نفسها بالاحتراق. آاااه الروح!! كم كانت أمي تزعجني بذكرها! لم أستطيع يوماً أن أجزم بوجود هذا الشيء ولكني أشعر بأني أتبخر بكل الأحوال، وليس لدي الهدوء الكافي لأفكر حتى بالموضوع.
بالأمس كتبت رسالة لأمي أقول لها أنها منذ رحلت وأنا عاجز عن تحمل هذه الوحدة. لم تكن يوماً تحبني، ولكنها كانت بكل الأحوال تستطيع أن تصدر أصواتاً مزعجة وهي تأكل أو تمشي أو تنظف أرض الحمام. ورحلت كما ترحل كل نساء العالم، باشمئزاز! ولم تخلف خلفها غير الصمت. عندما أنهيت الرسالة بكيت وبكيت وبكيت ثم رميتها في حوض السمك وفي الصباح وجدت السمكات الخمس قد ماتوا. وعلى هذه الحال لم يبق في حياتي أي كائن حي يشاركني الصمت سوى جرذ لا ينفك يقرط من خشب الأبواب العفن كل ليلة. وعندما أذهب كل مساء لأشتري دخاني كنت دائماً ما أرى المرأة القصيرة وأولادها الخمسة إما منثورين على الرصيف أو ملمومين على بعضهم فوق عشب الحديقة ككلبة وجرائها. كنت لا أستطيع أن أمتنع عن النظر إليهم ومقارنتهم بنفسي، هم في الشارع وأنا في منزل، وربما هم يعانون من الكثرة وأنا أعاني من الوحدة ولكن “كلنا بؤساء”. هذا ما قلته لها اليوم عندما جاءت إلي، ويبدو أنها لم تصدقني، لأنها رحلت ممتعضة وهي تغوص في جلبابها الأسود الذي اتخذته لون حياتها دون أن أعطيها شيء. لا أعلم لماذا تأتيني هذه المرأة كل يوم! فأنا أبخل عليها من الحياة نفسها. وكل ما أستطيع أن أقدمه لها هو بعض الحديث. أترانا نشترك بالشعور بالعزلة؟…
هذا الصباح لم يكن مختلفاً عن الذي قبله ولا عن ذاك الذي مر منذ عام. كل الأشياء شيء واحد ولكننا نحن العامل المتغير الوحيد. نحن نمثل كل أدوار الحياة حتى نستطيع أن نعبرها بسهولة ثم نرحل، وكأن شيئاً لم يكن. لا أستطيع أن أفسر سبب الوجود إلا أنه حالة من حالات الشذوذ الكوني. زلة صغيرة ارتكبها الكون أدت إلى ظهور سلسلة من المخلوقات الغبية، سرعان ما تعلمت الكلام وأفسدت كل شيء..
أشعر بصداع في مقدمة رأسي اليسرى، أضطر معه إلى أن أثبت في مكاني كلما ومض عليّ الألم وأعصر وجهي حتى يخيل لي أن عيني قد انزلقت إلى بطني. ومع ذلك جاءت تلك المعتوهة ذات الجلباب الأسود ولم يركض خلفها هذه المرة سوى ثلاثة من أبنائها. وغياب الطفلين الباقيين قد سببا لي سعادة صغيرة كتلك السعادة التي أشعر بها عندما أشعل أول سجائر الصباح. لأن وجودهما كان لابد له من أن ينقل الصداع إلى كامل رأسي. قالت وهي تضع يدها على خصرها بأن جاري في الطابق العلوي قد رماها بالأمس ببصلة، وبأنها تشعر بظلم البشر وصعوبة الحياة، لو كان لديها زوج يدافع عنها لما رماها أحد بأي نوع من الخضار… وبقيت تتذمر ما يقارب الربع ساعة وأنا واقف دون أية حركة أحاول أن أوقف الألم بالعصر والشد كأني على وشك الولادة. وكنت أراها واقفة من خلف غشاوة عيني كإبريق ماء متجسد وهي تشكو وتنوح ولم يخطر لها ولا حتى شكّت بأني أعاني من خطب ما، فزاد ذلك من ألمي لدرجة أني أوقفتها في منتصف نحيبها وقلت لها “خرا عليكي وعليه” وصفقت الباب في وجهها ورحت أضرب رأسي بالحائط من شدة الألم.
مرّ يومين ولم تدق المرأة البائسة بابي. وصرت أدور في المنزل كجرذ في قفص صغير، وأنظر من النافذة بين الحين والآخر لأتأكد من أنها لاتزال تسكن الحديقة…
اليوم عندما ذهبت لأشتري دخاني كانت جالسة تعنف أحد أطفالها لأنه أكل دودة. اقتربت منهم ورفعت يدي لألقي تحية ولكنها جمعت أطفالها وجلست خلف الشجرة. فاشتريت كيلو تفاح ورميتها به انتقاماً حتى أن تفاحة جاءت على نافوخها. وركضت انتظرها خلف الباب زمناً طويلاً ولكنها لم تأتي..
لم أنم هذه الليلة. أشعر بالحزن وبالفراغ وبدأت أسمع صوت الوحدة طنين في أذني. مر أسبوع ولم تزرني، ولم أكلم أحداً منذ ذلك الوقت. وقد تعجبت أني لا أعرف اسمها! وهي تجلس طول النهار في الحديقة دون أن تفكر ولو لمرة أن تزورني. ولم تأكل التفاح الذي رميتها به منذ يومين. هذه المرأة حمقاء لأبعد الحدود، لديها عقل متخلف ورأسها جاف كتينة. كيف تركت كل مآسي الحياة التي تعانيها وحزنت من مسبة واحدة قلتها لها أنا؟. ها هي نائمة في الحديقة كفقمة وأنا واقف على الشباك أعد النجوم من كثرة الملل. يخطر لي أن أحمل حوض السمك الفارغ وأكسره على رأسها وهي نائمة. إنها امرأة جحشة!
حتى الآن شهر… بدأت أقف على الباب أسلم على الجيران ولكن لا أحد يرد علي. إنهم يعتبرونني مجنون…
أدركت أن هذه المرأة لم تكن تأتي لتتسول…ربما كانت تشفق علي..
أشعر برغبة بالبكاء…
*
نزلت وجلست على أرض الحديقة دون أن أكلمها، جاءت بعد قليل وجلست بجانبي. لم تتكلم مباشرةً كعادتها ولكنها بعد دقائق نظرت إلي وقالت بأن صاحب الفرن لم يرض أن يعطيها الخبز اليوم لأن ابنها كان قد بال أمام الفرن، وأن جاري في الطابق الأعلى قد رشّ عليها ماء منذ يومين وأنه لو كان لديها رجل لكان قد كسر له عنقة منذ أن رمى عليها البصلة أول مرة، وأن امرأة في الطريق زجرتها لأنها تعيش في الحديقة وأولادها ينتشرون كالجرذان في كل مكان “تخيل! هذه القحبة قالت بأن أولادي كالجرذان” هكذا قالت لي والزبد يطير من فمها. وبدأت تنوح وتولول كعادتها وتحرك يديها في كل الاتجاهات وتذم هذا وتشتكي ذاك…
وكنت أستمع إليها بانتباه شديد وأشعر بالسعادة. حتى أني بعد أن أنهت كل حديثها نظرت إليها… وابتسمت.
_______________________________
كاتب من سورية
الصورة من أعمال الرسامة والمخرجة المصرية سلمى الطرزي
*****
خاص بأوكسجين