النجمة الساطعة في فضاء الأدب البولندي، أولغا توكارتشوك المرشحة بقوة لحصد جائزة المان بوكر الدولية (هذا اللقاء منشور قبل نيل روايتها “رحلات” جائزة البوكرقبل أيام)، تتحدث عن المضايقات التي تتعرض لها والجدل الذي تثيره في بلادها، وعن الحراس الشخصيين المسلحين الذين تم تعيينهم لحمايتها.
عندما كانت رواية أولغا توكارتشوك السادسة في مسيرتها، والتي تحمل عنوان “رحلات” flights، على وشك أن تصدر في المملكة المتحدة العام الماضي، نشر موقع Bookseller على صفحته في تويتر تغريدة ورد فيها “قد تكون – والإشارة هنا إلى أولغا – من أعظم كتّاب عصرنا، لكنكم لم تسمعوا بها بعد.” يمكننا أن نبرر لهذه المجلة الأسبوعية التجارية، التي تخاطب جمهور القرّاء في المملكة المتحدة على وجه الخصوص، هذا الحكم القاطع المتسرع– بالرغم من أن اثنتين من رواياتها السابقة تمت ترجمتها إلى اللغة الإنجليزية – خاصة أن أولغا لم تبدأ بالاستحواذ على اهتمام العالم المتحدث بالإنجليزية، وهو أمر يعتبره قراؤها البولنديون استحقاقاً لها، إلا بعد أن دخلت روايتها “رحلات” في القائمة القصيرة للأعمال المرشحة لنيل جائزة مان بوكر الدولية. لطالما كانت أولغا واحدة من أهم الكتّاب في بولندا – هي النباتية المناصرة لحقوق المرأة التي تعيش في بلد بطريركي يتقدم بلا رادع في رجعيته، والمثقفة القريبة من هموم شعبها التي يمكن لأي كلمة تتلفظ بها أن تتصدر عناوين الصحف وأن تثير هرجاً ومرجاً في مجتمعها.
تجمع “رحلات” (ضمن ما تجمع) بين مشاهدات مسافر عصري نكِد، وقصة طائفة دينية سلافية تقضي حياتها في حل وترحال، وتدمجهما بالسيرة الذاتية لعالم تشريح فلمنكي من القرن السابع عشر ، وبحكاية الرحلة الأخيرة لقلب شوبان من باريس، حيث فارق الملحن البولندي الحياة، إلى مثواه الأخير المنشود في وارسو.
التقيت بتوكارتشوك قبل مقابلة أجراها معها الناقد الأدبي آدم مارس-جونز في المكتبة البريطانية، وهو الذي كتب مراجعة مليئة بالثناء عن رواية “رحلات” في ” لندن ريفيو أوف بوكس” الأدبية، وأطنب في مديحه لها، إذ قال فيها “يوشك هذا الكتاب أن يكون جردة للأساليب السردية التي قد يستعين بها الكاتب الذي لا يمتلك قصصاً ليرويها، وقد يتعدى الأمر ذلك. تشكل اللغة النثرية في الكتاب بيئة تتبلور فيها العناصر السردية وتتطور لتصل إلى حجمها المثالي، أما البنية المستقلة لكل قصة فلا تربك توازن الكتاب ككل.”
تفضّل توكارتشوك المجازات الفلكية، أو النجمية إذا جاز التعبير، وتفسر ذلك بأنه كما كان أسلافنا القدماء ينظرون إلى النجوم ويتوصلون إلى طرق لتحزيبها في مجموعات وربطها بأشكال المخلوقات أو الأشخاص، فإن ما تدعوه بـ”رواياتها الكوكبية” تقذف بالقصص والمقالات والصور في فلك القارئ تاركة لخياله أن يجمعها معاً ليخرج منها بأشكال وصور ذات معنى.
حدث لقاؤنا السابق منذ عام مضى في مقهى وارسو، يومها كانت “رحلات” لم تنشر بعد في المملكة المتحدة. النزوات والشطحات المرتكبة في الترجمة الإنجليزية قادتني إلى هناك لنناقش رواية صدرت لأول مرة في 2007. أما في الوقت الحالي فقد ذاع صيت كاتبتنا في بولندا بسبب روايتها التاريخية الملحمية التي تغطي 900 صفحة والتي تحمل اسم “كراريس يعقوب” The Books of Jacob التي نُشرت في 2014 (ومن المقرر أن تترجم إلى الإنجليزية العام المقبل).
تحكي الرواية التي تدور أحداثها على الحدود الفاصلة بين بولندا وما يُعرف اليوم بأوكرانيا، وتحمل عنوان “كراريس يعقوب” قصة يعقوب فرانك، القائد المولود لعائلة يهودية الذي قاد حملة لإدخال أبناء جلدته اليهود قسراً في الكاثوليكية في القرن الثامن عشر. الرواية بحد ذاتها لاقت نجاحاً لافتاً وتلقاها القراء بشكل جيد، وقد بيع منها 170000 نسخة ونالت عنها جائزة Nike الثانية في مسيرتها، والتي تُعرف بأنها “جائزة البوكر البولندية”. لكن في مقابلة تلفزيونية أجرتها بعد الحصول على الجائزة أثارت أولغا حفيظة مواطنيها المؤيدين للأحزاب اليمينية عندما قالت، بما يتناقض مع صورتها كوطنية شجاعة عايشت القمع وحاربته ونجت منه، إن بولندا نفسها قد ارتكبت “أفعالاً استيطانية مروعة” في بعض الحقب التاريخية. وقد وصمت بأنها targowiczanin، وهو مصطلح قديم كان يُطلق على الخونة وبائعي أوطانهم – وهذا ما اضطر ناشرها إلى الاستعانة بحراس شخصيين يبقون معها لبعض الوقت لحمايتها. في ذلك قالت أولغا: “كنت ساذجة للغاية. ظننت أنه بإمكاننا مناقشة تلك المراحل المظلمة في تاريخنا”.
بعد ذلك ببضعة أيام أدخلت نفسها في معمعة أخرى وأثارت موجة جديدة من الجدل عندما تم عرض الفيلم المأخوذ عن روايتها التي نشرت في 2009 “قُد محراثك فوق عظام الموتى” Drive Your Plow Over the Bones of the Dead، والذي حمل عنوان Pokot، أي أثر الحيوان، لأول مرة في مهرجان برلين السينمائي. الفيلم الذي كتبت نصه هي نفسها بالتعاون مع المخرجة أغنيشكا هولاند، كانت إحدى وكالات الأخبار البولندية قد نددت به واتهمته بأنه “عمل مغرق في عدائيته للدين المسيحي” وبأنه “يشجع على الإرهاب البيئي.” وقد حصل الفيلم على جائزة الدب الفضي في مهرجان برلين وبدا الثنائي، المخرجة وأولغا، في قمة الابتهاج أثناء عقد مؤتمر صحفي مشترك. “نفكر الآن في وضعه على ملصقات ترويجية،” قالت هولاند ممازحة “لأنه سيشجع أولئك الذين لن يزعجوا أنفسهم بالمجيء لحضوره إن لم نفعل ذلك.”
القرّاء الذين عرفوا توكارتشوك من خلال “رحلات” سيصابون بالحيرة على الأغلب لدى قراءة “قد محراثك على عظام الموتى”، والذي سيصدر بالإنجليزية خريف هذا العام. هي رواية قائمة على الإثارة والتشويق في قالب وجودي، ونتابع فيها قصة امرأة عجوز غريبة الأطوار تعيش في قرية نائية وتجد حياتها الرتيبة الهادئة تنقلب رأساً على عقب عندما يُعثر على أحد جيرانها أولاً، ومن ثم قائد الشرطة ورجل من أعيان المنطقة، مسحوقة عظامهم ومضروبين حتى الموت.
كتبت هذه الرواية في الفترة التي فصلت بين كتابتها “رحلات” و”كراريس يعقوب”، وتفسر الأمر على أنه محاولة للفصل بين العملين وتقديم قالب جديد للقصص البوليسية. “لكن كتابة رواية كاملة لمعرفة من هو القاتل هي مضيعة للورق، لذا قررت أن أدس فيها تفاصيل تخص حقوق الحيوان وقصة عن المواطنين الذين يغردون خارج سرب الوطن لأنهم أدركوا أن القوانين السارية غير أخلاقية لأرى إلى أي مدى يمكنهم أن يمضوا في الوقوف في وجهها ورفضها.”
منذ أن صدرت الرواية أصبح الصيد من القضايا السياسية الساخنة في بولندا، لكن قبل ذلك ما كان أحد ليفكر فيه سوى القلة القليلة. “البعض قال ها هي العجوز المخبولة توكارتشوك تطلق أفكارها المجنونة من جديد، لكن بعد ذلك انطلق جدل كبير على شبكة الإنترنت حول ما الذي يمكن فعله حيال هذا التقليد الكاثوليكي البطريركي المغرق في سلطويته.”
المميز عند هذه الكاتبة التي تنعق بالحقائق كما هي أن العنوان مأخوذ من البيان الثوري الذي كتبه وليم بليك بعنوان زواج الجنة والنار The Marriage of Heaven and Hell. إذ لا تتصدر أبيات من شعر بليك كل فصل من فصوله وحسب، بل إن بطلها يقيم علاقة صداقة مع مترجم شاب أدت محاولته إلى نقل ما كتبه الشاعر إلى البولندية في مرحلة ما إلى خلق خمس نسخ مختلفة من مقطوعة شعرية واحدة، وهو ما سبب صداعاً لمترجمة توكارتشوك أنتونيا لويد-جونز (الأمريكية جنيفر كروفت هي المسؤولة عن ترجمة “رحلات”). يمكن للمرء أيضاً إن يلصق بتوكارتشوك تهمة السخرية عندما جعلت إحدى شخصياتها تقول: “في البداية، نشب نزاع حول ما إذا كان علينا أن نترجم الكلمة الإنجليزية “mental” بمعناها الحرفي وجعلها مرتبطة بالعقل “mentalny” “عقلي”، أم تفسيرها على أنها مرتبطة بالروح duchowy، “روحي”.
كما كان حال بطلة روايتها، تعيش توكارتشوك وشريكها زاغوج زيغادوا – مترجم متخصص باللغة الألمانية – في بلدة سيليزيا الرعوية المنخفضة، وهي منطقة في جنوب بولندا لم تنضم إلى البلاد إلا بعد الحرب العالمية الثانية. تقول أولغا “كم أنا محظوظة لأن أمامي مثل قطعة الأرض هذه لأصفها، خاصةً أنه لا وجود لأساطير أو حكايات خرافية عنها في الأدب البولندي.”
هو “مكان مميز جداً” بمناخ توسكاني محلي، وقد أصبح محجاً لأولئك الذين ينتمون إلى “جيل الـ68” من هيبيين وفنانين، ناهيك عن العديد من مترجمي أشعار بليك الذين كانوا قد اكتشفوا الشاعر في حقبة الوعود الكاذبة في أواخر الستينيات، كما اكتشفوا موسيقى فرقة ذا دورز* وذا إنيميلز**.
كانت توكارتشوك في السادسة من عمرها تعيش في بلدة صغيرة اسمها سوليخوف عندما اندلعت احتجاجات الطلبة في العام 1968. عائلة والدها كانت لاجئة من منطقة من بولندا هي اليوم جزء من أوكرانيا. كان والدها يعمل مدرساً، أمها أيضاً كانت كذلك، وكلاهما “عاش في جزيرة لا يعيش فيها سوى مثقفين يساريين، لكنهما لم يكونا شيوعيين” وقد ساهم منزلهما المفروش بالكتب في ملء رأس ابنتهما بإمكانية أن تصبح روائية.
لكن بدلاً من ذلك ذهبت بها “فكرة رومانسية تدور حول إسعاد البشر” إلى جامعة وارسو، حيث درست علم النفس وبدأت تطور شغفاً بنظريات كارل يونغ التي حافظت في ما بعد على موقعها كركن أساسي في كتاباتها. بعد تخرجها عملت في إحدى المستشفيات كمتخصصة في معالجة الإدمان، وتزوجت من أحد زملائها المتخصصين في علم النفس وأنجبت ولداً. لكن بعد خمس سنوات، قررت أنها أوهن من أن تستمر في عملها في المشفى “كنت أعمل مع أحد مرضاي وأدركت أنني أكثر اضطراباً وتشوشاً منه.”
تركت عملها وأصدرت مجموعة من الأشعار، وألحقتها بسرعة برواية “رحلة سكان الكتاب” The Journey of the People of the Book ، وهي حكاية رمزية تدور أحداثها في فرنسا القرن السابع عشر، وقد نالت عنها جائزة أفضل عمل ضمن فئة العمل الأدبي الأول لكاتبه. وبالرغم من أن الكتب بدأت تتوالى، والجوائز باتت تنهال عليها، إلا أن توكارتشوك تعرضت إلى أزمة وهي في منتصف الثلاثينيات من عمرها وقررت أنها بحاجة إلى استراحة تبتعد فيها عما حولها، وانطلقت تسافر بمفردها، فزارت تايوان ومنها ذهبت إلى نيوزلندا. وفي أحد شتاءات بولندا، الذي كان بارداً بصورة استثنائية، حملت ابنها وذهبت به إلى ماليزيا. لكن من ينظر إلى شعرها المجدول جدائل صغيرة أصبحت سمة دائمة تُعرف بها، يشعر وكأنها قد تركت جزءاً من قلبها على درب الهيبيين، بالرغم من أن تسريحة شعرها هي في الواقع – كما شرحت بأسلوب علمي فصيح ومن دون تكلف –”plica polonica” أي ضفيرة بولندية تعود إلى القرن السابع عشر. وتقول في ذلك “إلى حد ما، يمكننا أن نكون فخورين بأننا قد عرفنا أوروبا إلى تصفيفة الشعر هذه. يجب أن تضاف الـplica polonica إلى قائمة اختراعاتنا التي تضم النفط الخام والزلابية والفودكا.”
تدمج اليوم بين عملها ككاتبة ومشاركتها في تنظيم مهرجان أدبي مصغّر قرب منزلها. بالرغم من أن كتبها نُشرت على نطاق واسع في أوروبا، إلا أن حركة صدورها في البلدان الناطقة بالإنجليزية بطيئة إلى حد ما. كتابها “منزل النهار، منزل الليل” House of Day House of Night(1998/2003)