إلى صلاح باديس
أحبُّ المطر
السيجارة الأولى
ودراجة تشي النارية.
أحب تلك البلاد البعيدة
والفودكا تسيلُ كالنبع من روايات دوستويفسكي
تجرف معها دبابات خضراء وخوذاتٍ وجماجمَ وأعشاشَ عصافير.
أحب الطريق إلى اللاشيء / احتفاءً بالعدم.
أحب امرأةً تسرق من أيامها المتراكمة ساعةً، إما لتقرأ لي أو تقرأني…
المذبحة واحدة.
أحب المكتبات العامة الخالية ..
بدايات الخريف والنار في المدخنة
أحب قصيدة روبرت فروست عن المدخنة
حيثُ “الرف أولى بساعة أو إناء”.
أحب الرشفة الأولى / الشفة الثانية / النَّهد المدوَّر الصغير / امتداد الرقبة أين أدفن وجهي الحزين
أحب كذلك الأرجل الطويلة
أحب الخروج في مظاهرة ضدَّ الطائفية
أحب التفكير في الرفيق ماركس يقرأ قصيدة على الجماهير مطلعها:
“يا عمَّال العالم تبدَّدوا”.
أحبها عارية دون أنظمة. عارية من كل شيء: وسطي أو متطرف. سياسي أو سياحي .خارج القانون أو معه. ضدَّ الوله والغباء المتوارث.
أحب الصداقة دون مقدمات
أحب الماكياج سريع الزوال ..
أحب ملامح الوجوه في الصباح
أحب مزاج الرب أثناء الحرب، الحرب التي لن تنتهي أبداً
أحب ظلي الرصاصي على صفيح ساخن
أحب يدي الممسكة دائما بكتاب، بسكين
أحب هذا التكرار الجميل لكلمة “أحب”
أكثر من حبي لقصائدي في لغات أخرى.
المدينةُ تبدو في حيادها بعيدة عن تلك القارة التي انطلقت إليها السفن بتقدير جغرافي خاطئ. هنا الكنائس تظلل السياح وتمنحُ المباني طمأنينة غريبة. الشوارع تجعلُ المشي طقساً سيزيفياً، ويحدث أن يستوقفني مشهد شيخٍ بشعر أبيض يخطو كطفل في سنته الأولى بظهر مقوَّس وسيجارة غير مشتعلة لا تفارق شفتيه. وبعينين تحفران عميقاً في الأرض. مررت على عازف الكمان، على شارع الرسامين، وصولاً إلى ساحة دي فيراري حيث نافورة الماء وأسراب الصينيين وأكشاك بيع دفاتر الكتابة.
يومان في جنوى، لم ألتق خلالهما ليون الإفريقي
لكنني لم أشك “أن هذا الرحالة
كان أيضاً أنا”.
متشبثاً بابتسامتها تُخرجني من ثلاجة الموتى
تُخرج ما تآكل مني
ما يخطو كطفلٍ أشقرٍ نحو حياة أخرى.
معاً نتصفَّح ألبوم صورٍ في طريق النمو ثمَّ بين الكتب أتفقد عينيها، وأرى أطفالاً بقلوب خضراء يركضون في كل الاتجاهات.
هكذا أفتح آخر شريط كاسيت فارغ بحوزتي وأشرع في سردِ قصةٍ تستند إلى أحداث واقعية، عن دبابات لم تغادر الحي. أسلاك شائكة في الواجهة. رسائل تهديد ومساندة. شعارات مناهضة للدم. الدم الذي يتدفق من عيونِ تتفرج على نعوش أصحابها الفارغة في شاشات التلفزيون.
يغيبُ الموكب الجنائزي وتطفو على الشاشة اللزجة وجوه بلا ملامح…
يتزاحمُ الموتى في صوتي الذي تلوكه المسجلة،
وهنا تنقطع الكهرباء.
———————————————————
شاعر من الجزائر
الصورة من أعمال المصور الفوتوغرافي المصري مراد السيد
*****
خاص بأوكسجين