“ما التقيت يوماً بصحفي يسأل هذا القدر القليل من الأسئلة.” تقول عائشة بابان وهي تجلب المزيد من الشاي لزوجها. “دع الشاب يتكلّم يا يشار!”
هو رجل يفترض الكثير من الأتراك أنه سيكون أوّل تركي ينال جائزة نوبل … يشار كمال الذي يُكمل هذا العام سنواته الـ85، والذي أنظر إليه الآن وهو يخطو بحذر في غرفته المسكونة بفوضى مزمنة، إنها خطوات رجل اعتاد جسده على الوهن.
ما زال صوته قوياً، ومحمّلاً بسيل من النوادر، والنوادر تتضمنها نوادر أخرى، أو طرائف، يتذكر الأنساب على نحو دقيق، ويتلو على مسامعك مقتطفات مطوّلة من الشعر الشعبي. وإذا ما تجرّأتَ وقاطعته في حديثه… يُقاطعك بحركة من يده.
فصاحتة هذه هي حقّ مُكتسب بالولادة، هو ابن المُلّاك الأكراد الذين فرّوا إلى الأناضول عام 1915، وهو من تعلّم أوّل ما تعلّم على أيدي شعراء شعبيين تستغرق ملاحمهم الشعرية أيّاماً بطولها لتُتلى. عندما كان في الرابعة عشرة من عمره دعاه أحدهم ليتتلمذ على يده. “قال لي إنني سأصبح كاراجا أوغلان الجديد!” يقول كمال منوّهاً إلى “الشاعر الشعبي” الذي اشتهر في القرن السابع عشر، وكان يُسمّى أيضاً بـ”الشاعر الرحّال”.
لكنّه بدلاً عن ذلك غادر القرية ليحصّل تعليمه في المدرسة، ويتعرّف إلى سيرفانتس وتشيخوف، ومن سيصبح كاتبه المفضل في صباه، الفرنسي ستندال: “أتيت من القرية. كنت أعرف كل شيء، وإذ بي أكتشف عالماً جديداً بعد ذلك”.
يصف كمال انغماسه في الأدب الغربي بأنه “أجمل ما جاد به الحظ السعيد عليّ”. لكن مخيلته استمرّت في ولائها لتراث عائلته، ولـ “كوكوروفا” التي احتضنت طفولته. روايته التي تحوّل بطلها إلى روبن هود الأناضول، وحققت أعلى المبيعات، “محمد النحيل” كانت مستوحاة في جزء منها من القصص التي سمعها من قطّاع الطرق الذين كانوا يلوذون بقريته فارّين من وجه العدالة. أما رواية “سلمان الأعزل” فترتكز في أحداثها على مقتل والده على يد طفل يتيم تبنّاه في العام 1915… جريمة قتل شهدها كاتبنا وهو في عمر الخمس سنوات.
تستقي قصّة التوطين القسري لبدو كوكوروفا في ستينيات القرن الثامن عشر “أتابكة أكتشاثاز” مواضيعها من شعر “دادال أوغلو”، وهو “شاعر شعبي” اشتهر في بدايات القرن التاسع عشر، ودُفن قرب مسقط رأس والد كمال.
“وضع الأتابك إمضاءه على مرسوم يضمن لنا مصيرنا…
فليكن.
لكن المرسوم لصالح السلطان.
أمّا نحن فلنا الجبال.”
يُلقي كمال هذه الأبيات ضابطاً الوزن بيده اليمنى. “هل سبق لك أن سمعت وصفاً يُلخّص روح التمرد بهذه الروعة من قبل؟”
أثار كمال موجة عارمة من السخط عندما صرّح في أكتوبر لإحدى الصحف الألمانية بأنه قد فقد ثقته بانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي (“في دعواته المحمومة إلى الحرب، ظهر الاتّحاد الأوروبي بوجه لا يختلف فيه كثيراً عن غيره من القوى العظمى في العالم.”). هو الروائي الذي لطالما عُرف عنه بأنّه مدافع لا يلين عن الهوية المحلّية، ومشكّك أزلي بنزعات التقليد الأعمى الراسخة في صميم حركة التغريب الثقافي التركي.
“مثقفونا يتهافتون على تقليد الغرب، لكنّهم لا يعرفون شيئاً عن الأناضول، حتّى أنّهم يحتقرون الأناضول” يقول كمال. “خُذ مثلاً (أشهر شاعر تركي) ناظم حكمت، مع العلم أنّ شعب الأناضول هو من ألهمه كتابة أجمل قصائده وأشعاره.”
كلماته تستحضر في الذهن النزعة الشعبوية التولوستويانية (نسبة لتولستوي) الغامضة التي انتشرت كالنار في الهشيم بين أوساط اليساريين عندما بدأ كمال بالكتابة في خمسينيات القرن التاسع عشر. اشتراكي غير تقليدي اختار أن يقرأ كتاب اسمه “ما هي الشيوعية؟” وهو في السابعة عشرة “من دون أن أفهم كلمة منه”… هذا هو يشار كمال الذي لطالما عانى بسبب آرائه السياسية.
عندما زُجّ في السجن لأوّل مرّة وهو ما يزال في ريعان صباه، كتب كمال أولى قصصه القصيرة ورواية صغيرة “نوفيلا” صادرتها الشرطة. كان ذلك عندما تمّ اعتقاله لمحاولته تنسيب سائقي الجرارات المحلّيين إلى النقابة أواخر أربعينيات القرن الماضي. “توسّلت إلى قائد الشرطة أن يعثر لي على المخطوط، لكنه قال لي أن صفحاته قد استُخدمت لتبييض الأفران في كادرلي.” يقول كمال ضاحكاً.
اليسار المتطرّف الذي كان عضواً بارزاً فيه بدأ بالانحسار بعد سبعينيات القرن الماضي، لكن أزماته استمرت في التمدّد. في العام 1996، وضعه انتقاده لمحاولات السلطات التركية قمع التمرّد الكردي بطريقة وحشية جنوب شرق البلاد عشرين شهراً في السجن بتهمة تأييد النزعة الانفصالية. في يناير الماضي، ومع وصول عدد من قضوا إلى ما يزيد على 40 ألف ضحية نتيجة القتال المتواصل، تعرّض كمال إلى هجمة بربرية من الصحافة التركية بسبب اعتباره أن الأسلوب الذي اتبعته الحكومة التركية في التعامل مع الأكراد لم يساهم سوى في تعقيد الأمر وتفاقم الأزمة. “قُمنا بدعوة غوريلات الإرهاب آملين أن يساهم هذا في حلحلة الأمور، وهكذا أصبحنا دولةً تُحارب شعبها.” هذا ما جاء على لسانه في أحد المؤتمرات التي عُقدت في أنقرة.
ومع ذلك لم تؤثّر الضغوط السياسية على موهبته ككاتب. “بالنسبة إلى الكاتب، القلق والتوجّس هما أمران أسوأ من الانتحار” يقول كمال الذي قاوم بصلابة كلّ الجهود التي بذلها البعض لتصنيفه ككاتب يساري. “لطالما أُعجبت بإميل زولا من دون أن تُعجبني رواياته يوماً. قد تكون القضية التي يُدافع عنها الاشتراكيون الواقعيون قضية عادلة، لكنّ التوجّهات السياسية هي تهديد دائم للفنّ” يقول كمال. “أنا لا أكتب من أجل قضية، ولا أكتب من أجل الحشود. حتّى أنّني لا أكتب من أجل نفسي… أنا أكتب، أكتب فقط”.
وعند سؤاله عمّا يشغل فكره، يضحك! “أنظر إلينا، نحن كلّنا حمير أولاد حمير، نجترح القصص وكأنّ الدنيا ستنتهي اليوم قبل غد… ربّما لأنّ الغد غير موجود”. ينحني إلى الأمام متّكئاً على كرسيه. “أجل، هناك تمرّد في رواياتي، لكنّ التمرّد فيها هو تمرّد على الفناء. طالما أنّ الإنسان ينتقل من عتمة إلى أخرى، سيستمرّ في خلق الأساطير لنفسه. الفرق الوحيد بيني وبين الآخرين هو أنّني أسطّر أساطيري”.
لكنّ الأبطال في أعماله يواجهون تحدياً وجودياً آخر، وهو تلك التبدلات الجذرية التي عصفت بكوكوروفا خلال حياته. منذ ثمانين عاماً كانت قرية “محمّد” تقع وسط مستنقع في قلب غابة، أمّا الآن فلا تجد فيها شيئاً سوى الحقول. حياة الترحال أصبحت أمراً من الماضي، والهجرات الموسمية تضاءلت حتى التلاشي، والملاحم الشفوية القديمة نُسخت من عقول قلّة من العجائز، ووضعت في كتب على رفوف مكتبة أضنة.
بدلاً من التنظير، يفضّل كمال أن يحكي لنا حكاية من روايته “أسطورة الألف ثور”. على مدى أجيال، عملت عائلة حيدر في الحدادة، وقد اشتهرت بصناعة السيوف الفاخرة. وكونه لا يمتلك مصدراً آخر للدخل أو الفخر، قرّر حيدر أن يعرض آخر ما ارتكبته يداه على “رمضان أوغلو”، سليل أتابكة أضنة.
رجل أصلع ضئيل يفتح باب منزله الريفي المتواضع، “يا له من سيف” يقول. هكذا يُقرّر حيدر زيارة “عصمت أونونيو”، رئيس تركيا بعد العام 1938 الذي بدوره يُعجب بالسيف أيضاً، لكنّه في المقابل لا يعرض عليه شيئاً مقابله. يعود حيدر بعد ذلك إلى ورشته، ويعمل طوال الليل. وفي الصباح يعثر عليه جيرانه ميتاً بعد أن أرهق السيف طرقاً محولّاً إيّاه إلى كتلة لا شكل لها.
“مصير حيدر موجود في كتلة المعدن تلك” يقول يشار كمال. “لم يكن باستطاعته أـن يكون شيئاً غير ما كان عليه في الواقع”.
يزخر أدب كمال بشخصيات خيالية كتلك الشخصية. لكن أي شخصية منها لا ترتقي، ربّما، إلى درجة الخيالية التي يتميز بها من خلقها. يبدو أن الشكوك تتزايد بإمكانية حصول يشار كمال، الروائي الأشهر فوق الأراضي التركية، على جائزة نوبل التي توقّع الكثيرون أنها ستكون من نصيبه. يقول البعض أنّ رواياته، التي أصبح له منها ما ينوف عن 30 رواية، قد دخلت في دائرة التكرار.
ويقول آخرون أن إمعانه في اللجوء إلى الحبكة الدرامية والشخصيات التي تعود في أغلبها إلى القرن التاسع عشر قد أصبحت “دقّة قديمة” في زمن تعرّض فيه الأدب التركي إلى إعادة قولبة بتأثير أدبيات ما بعد الحداثة التي كان أورهان باموق من أهم عرّابيها.
الشاعر والناقد البارز حلمي يافوز الذي يصف كمال بأنه “قصّاص عظيم بمعنى الكلمة”، يرى أنّ المشكلة تكمن في المسافة المتزايدة التي تُباعد ما بين عالمه الخيالي وواقع تركيا الحديثة. “لم تعد تركيا ذلك البلد الريفي، ولم تعد آراء أتاتورك القائلة بأن الفلاحين هم أسيادنا تصلح لأن تكون قاعدة سارية في أيامنا هذه.”
لكن لا يبدو على كمال أنه ينوي الاستسلام. ترى مكتبه مغطى بصفحات مطبوعة مليئة بملاحظات مكتوبة بالقلم الرصاص تعود إلى روايته الجديدة التي تدور أحداثها حول الهجرة المتبادلة بين سكان تركيا واليونان بعد العام 1922. “يخاف الإنسان من الموت، لكننا فجأة نموت كلّنا…” يقول “تلك هي الحكاية التي يجب أن أرويها.”
أربع ساعات وهو يتحدث. حلّ المساء. الباب المفضي إلى غرفة الجلوس يُفتح. “هل حصلت على ما أتيت لأجله؟” تسأل عائشة بابان. “يجب أن نتهيأ لتناول العشاء”.
قصص كثيرة تعصف في رأسي، أتعثر وأنا أهبط الدرجات الطويلة المؤدية إلى أسفل الشارع، وبشقّ النفَس أتفادى أن أُسحق تحت عجلات حافلة مسرعة. الصدمة أعادتني إلى أرض الواقع. أنا في وسط أسطنبول، ولست في بقعة مسحورة على سفوح جبال طوروس الشرقية.
________________________________________
توفي الروائي التركي يشار كمال السبت الماضي 28 فبراير 2015. أجرى هذا الحوار معه نيكولاس بيرش، وهو منشور في صحيفة “الغارديان” اللندنية بتاريخ 28 نوفمبر 2008.
الصورة من موقع تصوير فيلم رومان بولانسكي “تشاينا تاون” (الحي الصيني) 1974 بطولة جاك نيكلسون وفاي دانواي وجون هيوستن.
*****
خاص بأوكسجين