يدان ترتجفان لكنهما ستبنيان قبراً متيناً
العدد 172 | 04 أيار 2015
نوّار جبور


 إلى الفنانة المسرحية فدوى سليمان

 

الشخصيات:

الحاج خالد

بيتر 

المكان:

 مكتب خاص بشؤون الهجرة واللجوء في أوروبا.

…………………………….

بيتر: كيفك شيخنا.

الحاج: لست شيخاً. قد أكون حاجاً لبيت الله لكنني لستُ شيخاً.

بيتر: آسف قُلت هذا لأنني أشعرُ بانكم تطلقون هذه الكلمة على كُل كهل.

الحاج: (يبتسم) .. من هذا الباب نعم نعم أنا شيخ ..

بيتر: لقد قرأت استمارتك. ينقصني بعض المعلومات عنك في بلدك الأم. باعتبار ان بلدنا ها هنا أصبحت بلدك..

الحاج: (يُقلب سبحته) غالباً لا أملكُ بلداً ..

بيتر: ستعود بلدك ستعود، إنه التاريخ وما المخاضُ الحالي سوى زلزال قصير المدى. الخيّرون سيبنون البِلاد.

الحاج: الأخيار والأشرار سواء بسواء…إن كل خيرِّ في ظروف ممكنة قد يصبح شريراً. ومن يبني بيتاً مرةً في حياته، يتعلم أن يبني بيتاً صغيراً في خياله.

بيتر: بيتاً خيالياً؟

الحاج: بيت صغير من حجر أبيض، لا تطاله البرودة والحرارة وهو حلم الجميع. بيتٌ يتسع لمزاجِ شخص واحد..إنه حلم الجميع، حتى الزوجان يحلمان بالخصوصية والحرية، ولكل منهما بيت خاص به. صدقني إنه حُلم الجميع..

بيتر: وكأس من النبيذ مثلاً حلم الجميع… أو أعتذر قد يكون حلم الجميع القليل من الجبنة في لحظة معينة. وليس هذا البيتُ الصغير وحده أليس كذلك؟

الحاج: حتى السيجارة قد تكون حلم الجميع في لحظة ما. الفكرة ليست في الحلم. بل في الاستطاعة والقدرة والإمكانية.

بتير: الوقت اللعين ينفد دوماً ….ماذا تملك في بلدك؟

الحاج: لا أملك.. أُريد أن أملك؟

بيتر: أعتذر أيها الحاج….أريد أن أعرفَ ماذا تملك كإجراء روتيني، أما أحلامك فلا أعرفها ولا أريد معرفتها. مشاريعك المستقبلة ملكٌ لك. أريد أن أعرف ماذا تملك؟

الحاج: لا املك شيئاً البتة.! لكنني أملكُ رغبةً في أن أتُمَ حقَ أبنائي الذين قُتِلوا. وهذا ما عليك أن تكتبهُ. إنه مشروعي الوحيد..

بيتر: (مقاطعاً بحدة ومخاطباً إياه بلهجة محقق) أيها الحاج، بيتك بيوت أبنائك أو ما شابه؟ أعرف أنك تخرجت من جامعة الحقوق وأن لك زوجة وابنة وأنكم هربتم إلى هنا. أريد أن أعرف الأملاك إن وجِدت…أما الأحلام فلي أن أسمعها بعد كتابة هذه الورقة الضرورية…أريد المعلومات أرجوك. ماذا تملك؟

الحاج: (يقاطعه بسرعة وبرود) لا أملك شيئاً سوى مشروع صغير لبناء بيتٍ لكل فردٍ منهم؟

بيتر: (بتذمر بارد) ما هو هذا المشروع قل لي بدقة أكثر ما هي بيوت أبنائك؟

الحاج: المقابر….

بيتر: (بدهشة) بحق السماء أحلامُ أولادك بيتٌ أم قبر؟

الحاج: (بنشوة) نعم  إن القبر بيت وسأبني مقابر لأولادي. ألا يَحقُ لهم أن يُكملوا حياتهم مع أحجار المقابر الآمنة؟ فمهما أمضينا أنا وأنت مع حجر البيوت من عمرنا، فستكون حياتنا أطول مع حجر المقابر.. ويحق لأولادي أن ينعموا بحياة كريمة بعد الموت..

بيتر: (ببطء شديد وحذر) لكن أولادك قد قُتِلوا منذ ثلاث سنوات.

الحاج: يقول الله في كتابه العزيز” إن الإنسان خُلق هلوعا” إن هلعك طبيعي أما أنا فباردٌ جدا.

بيتر: ينتابني الخوف من هول الأمل.

الحاج: ألا يحق لنا أن نبني حجراً للأبناء.

بيتر: يحق لك بالطبع. لكن ليس هذا بمشروع يشغل الإنسان. خاصة بعد سنين مديدة، فالرفات أصبحت غباراً تحت القصف، أليس كذلك؟

الحاج: لا. الوطن ليس شيئاً لي ولا حتى البيوت. يبدو أن أوطاننا عبارة عن مقابر ثابتة. الأرض خزانة موت. وعلينا احترامها. هذا هو الشرق إنه قبر للموتى فقط.

بيتر: آسف على كل ذلك. ما هي أملاكك إذاً؟

الحاج: تُريد إجابة من أجل الاستمارة؟ اكتب لديه يدان ترتجفان لكنهما ستبنيان قبراً متيناً.

بيتر: توقف أرجوك. سأكتب أن لك بيت سابق وهُدم تحت القصف.

الحاج: لا، لا أملك سوى بعض القبور التي سأبنيها. وهذه القبور هي بيتنا. 

بيتر: الاستمارة غير مهيئة لهذا القول. سأكتب لا شيء! أيرضيك هذا؟

الحاج: لا ستكتب عن القبور التي ستبنى.

بيتر: أرجوك… لقد تعلمت العربية من أجلكم، وأحلم الآن بأن أنسى تلك اللغة وأتخلص من ذكريات موتكم، فلا تتُعبني.

الحاج: يا بني لا أملك سوى لساني، وبعض كرامتي فلا تجزعني أكثر. اكتب أن لدي قبراً سأبنيه. قبر واحد، يتسع لجيف أولادي.

بيتر: الفكرة ليست في عدد القبور، الفكرة في عدم قدرتي على كتابة أي شيء غير موجود.

الحاج: كرامتي لساني وقبوري التي سأبنيها. 

بيتر: سأكتب ما تريد لكن قل لي لِماذا تريد ان تبني قبراً لأولادك؟

الحاج: عندما لا تعرفُ قبر ابنك. تُصبح خائفاً من الهواء. أيعقل أن يكون الغبار الأبيض الذي على شرفة حبيبين هو شيءٌ من رفات أبنائي. لا أريد لأولادي أن يتشتتوا في الهواء. القبر أمينٌ، لهُ سكانه وقد يكونوا من الفئران، لكني أخاف أيضاً من اختلاط أولادي بالرمل والصخور.

بيتر: أرجوك توقف.

الحاج: دعني أكمل.. القبر سياجٌ للوجود. اليتيم يلعنُ بدايته. تخيل أن تكون بِلا رحمٍ تعرفهُ. اليتيم أيضاً انا الذي لا أعرفُ قبر أبنائي، لقد ولجتُ رحم أمهم لأعرف قبرهم.

بيتر: أرجوك ….أرجوك. إنك شاعري أيها الحاج الشيخ.

الحاج: لا…القبرُ هو كل شيء، ننده للقبر آلاف المرات ولا نصله. ثم أتعرف الحياة بلا قبر وبلا مقابر هي حياة بلا أوطان أيضاً.

بيتر: لا اتخيل الوطن مقبرة.

الحاج: لن تتخيل، قُصفنا بالصواريخ لننسى المقابر؟

بيتر: كيف؟

الحاج: عندما يقصفك احدٌ ما بالصواريخ والبراميل فهو يُريد خلطك بالحجر من دون أن تحدد هويتك.

بيتر: من يقصفك بالصواريخ ليس سوى مجنون عابث قاتل.

الحاج: لذلك أريد العودة لبناء قبر، لكي أقول لهذا القاتل أن مقابرنا كبيرة وكثيرة. ولكي لا ينسى قاتل ما حجم أسمائنا وأحجارنا.

بيتر: أراك موهوماً بالمعنى الغريب.

الحاج: لا أريد من القاتل سوى منحي أرضاً لأستدل على وطني.

بيتر: سأكتب لك ذلك مع أنني لم أفهم.

الحاج: القبر سأبنيه يوماً ما. حينها سأكتب على القبر، لم أنسَ رفاتكم. ثم تلومني أنت على حاجتي للقبر، وأنت من أجل ورقة تعاندني. إننا متساوون بالوهم والمعنى.

بيتر: الاستمارة من أجلكم

الحاج: والقبر من أجلكم.

بيتر: من أجلنا؟

الحاج: ما معنى وجودنا عندكم لولا قبورنا الضالة عن تأسيسها.

بيتر: معك حق وحتى هذه الورقة ستدفن.

الحاج: (يقف) وداعاً، سجّل أن لي قبراً سأبنيه، وقد تقصفه الطائرات.

صمت

____________________________

النص من مجموعة نصوص قيد الإعداد لها أن تجسدها تمثيلاً على خشبة المسرح الفنانة السورية فدوى سليمان.

 

كاتب من سورية

الصورة للفوتوغرافي التشيلي سيرجيو لاراين Sergio Larrain

*****

خاص بأوكسجين