يبتكر المعارك ويخسرها
العدد 232 | 08 حزيران 2018
سومر شحادة


وهو ينزل من الجبل راحت الأغصان تلكزه ومناقير العصافير والعيدان، كانوا يسألونه عنكِ؛ هل رآك وأنت تجمعين الريحان والشموس؟ هل أمسككِ من يدكِ وسار معك إلى النبع وأنتِ تطعمين الطيور؟ هل رأى شفاهكِ عن قرب؟ هل لسمها؟ وهل، يا إلهي، استطاع النظر إليكِ وأنتِ تغسلين ركبتيكِ بالغار؟ أم أنّه ينزل من الجبل مثلما تكرج الصخور لأنّه لم يستطع فعل ذلك. راحت الأغصان تلكزهُ، والعيدانُ والأتربة. إلّا أنّه يجرف في طريقهِ كلّ شيء، كما لو أنّه لم يراكِ في الجبل وراح يتابع آثارك في السفوحِ والوديان. يرمقه صيادو الأسماك عند النهر بنظرات واجفة، ترمقه السنابل بين أيدي الصبية الذين يسرقون البيادر عند الغروب، اعتقده الجنود جامع ألغام وهو يعبرهم حذرًا ومبتسمًا، واعتقده البحارة وهو يلّوح بقنديل صدئ عند الشط بأنّه ضائع في البريّة، إلّا أنّه كان يتابع آثارك، يجمع الأصداف والحصى بين يديهِ، ويعيدها إلى أمكنتها من فورهِ. ما كان يريد شيئًا، يفكر بكِ، كما لو أنّك، الآن، تقفين خلف بابهِ، ينساكِ، كما لو أنّكِ تمرحين في السهوب بين الأيائل. يحبك حتى النهاية، يريدك حتى النهاية، وقبل ذلك، قبل ذلك، راح ينتحل صفات الأشياء في عالمكِ، ربما يقوده الاشتباهُ إليكِ. ينهض من نومهِ لأنّك في مكان ما تنهضين من نعاسكِ وتشرعين الصباح، يغسل يديهِ ووجهه وخطاياه، لأنّك في زمان ما كنتِ تعمّدين الأطفال والثورات والقتلى، يمضي إلى أيامه متلفتًا حولهُ مثل سارق أو قاتل أو عاشق، لأنّه يراك في الوجوه والأعناق والعناق. وقد رأوه يأخذ الطمأنينة بين يديهِ، ويتلمّس كيفما استطاع الدروب والزوايا والأقواس، ثم ينظر حوله من غير ذاكرة أو رجاء، ينده في الفلاة، يخاطب الأشجار والحشائش والينابيع. كان يتابع آثاركِ، ويعرف، أنّك في مكان عميق من قلبهِ، تتلمّسين الأشجار والحشائش والينابيع، وتندهين في الجهات، ريثما يدركك.

وريثما يدركك اعتكفَ على اليأس، لا لأنّ “اليأس بعض فضائل العشاق” بل لأنّه يائس أصيل. يبتكر المعارك ويخسرها، يبتكر الصداقات ليحطمها، يبتكر الحبّ ثم يهينهُ، يلحق بالجمال مثل أفّاقٍ لأنّه لا يجيد ابتكاره وإنّما يتلمّس معرفته، لذلك، لذلك، راح يداوم على الالتصاق بكِ، بآثاركِ، باسمكِ وبالشفاه التي ترددهُ والآذان التي تسمعهُ، بأسوارك العالية وبما تحرسين وراءها. عندما سمعهم، وهو يُقلّب الأحجار بين يديهِ مثل تائه وغريب. عندما سمعهم يتحدثون عنهُ في ساحات القرى والأديرة، حَدَسَ أنّهم يهمّون بمساعدتهِ، يهمّون باللحاق بكِ والتقاط آثاركِ، يهمّون بالدفاعِ عنهُ ويفكرون، إن وجدوكِ بين الحمام أو في سلال الورد أو في النسائم، يفكرون باعتقالكِ! راح مثل فاسقٍ مجنون، يتخيلك خائفة، منزوية على الحقول في الحقول، منزوية على الخطايا في الخطايا، منزوية على الأضواء في الأضواء. تمسكين بأشجار السرو والصنوبر، وأنتِ تتوقعين خروجهم عليكِ في كلّ حين، وفي كلّ حين كانت عيناكِ تبرقان، تعتصرين ثدييكِ وتعضين على شفاهكِ، تدفعين بركبتيك إلى الصخور وبأثوابكِ إلى الوحل، يتخيلك تخرجين من أعشاشكِ مثلما تفور المياه من الينابيع، وتأخذين في طريقكِ إلى الجهات العواصف والآهات. لذا، وجدوهُ يصون عزلتهُ كلما أظهروا تعاطفهم معه، يمتنع عن الوشايةِ بكِ، إذا ما دفعوه إلى الحديث يتلكأ، قبل أن يفرّ من أمامهم مثلما يفرّ الحسون من بين أيدي الهواة، ويواجه عند الشطآن أسئلتهُ عنكِ وعن ذاتهِ، يلّوح بقنديل صدئ للأمواج والنوارس، يلّوح بشالٍ مهترئ للطيور والسحاب، لا حبال تمتد لتسري بهِ، لا يندفع إلى الماء ويسير فوقهُ، وهو قادرٌ، وإنّما يلمحكِ تحيطينِ بهِ في لحظات يأسهِ، إنّك إبّهار وعزلة، يراكِ في الأشياء والأمكنة، ويكسو كلماتهِ عنكِ لحمًا وعواطف، ريثما يدركُ أنّك منذ البداية، كنتِ لحمًا وعواطفًا وأشواقًا.

*****

خاص بأوكسجين

 


روائي وكاتب من سورية. من رواياته "حقول الذرة"" 2017rn"