ورعٌ أقلّ
العدد 167 | 24 شباط 2015
خافيير مارياس/ ترجمة: أماني لازار


كنت في أشد الحاجة للنقود حتى أني تقدَّمت منذ يومين لاختبار سينمائي بهدف المشاركة في فيلم “بورنو” وصعقت لدى رؤيتي ذلك العدد الكبير من النساء اللاتي رغبنَ في الحصول على واحد من تلك الأدوار التي لا تشتمل على الحوار قطعاً، أو بالأحرى الأدوار التي لا تتطلب سوى الصياح. ذهبت إلى هناك خجلةً متحرِّجة، أقول لنفسي بأنه يتوجب عليَّ تأمين الغذاء لابنتي، وأن الأمر لم يكن على ذلك القدر من الأهمية فمن غير المرجَّح أن يشاهد الفيلم أيٌّ من معارفي، بالرغم من علمي أن الجميع دوماً يكتشفون ما حدث في نهاية الأمر. ارتبت مع ذلك، من أني لن أكون أبداً شديدة الأهمية مستقبلاً ما يجعلني أتعرض للابتزاز بشأن ماضيّ. إلى جانب أن هناك ما يكفي سلفاً لهذا. 

عندما رأيت الطوابير داخل المنزل، على الدَّرج وفي غرفة الانتظار (كانت اختبارات الشاشة مثل التصوير السينمائي، تعقد في منزل مؤلفٍ من ثلاث طبقات، في مكان ما حول توربيديرو توكومان، وهي منطقة لا أعرفها)، ساورني الخوف من أنهم لن يختاروني، ولو أني حتى ذلك الحين كنت أخشى أن يفعلوا، وكان ما آمله حقيقة هو ألا يفعلوا، وأني لن أكون جميلة في نظرهم إلى حد يمكّنهم من قبولي، أو ذات موهبة جيدة بما يكفي لمنحي الدور. لم يكن ذلك ممكناً، فلطالما كنت محط الأنظار دوماً، طوال حياتي، أنا لا أغالي فهذه حقيقة، ولم يكن في هذا الكثير لصالحي.

“من المرجح ألّا أحصل على هذا العمل أيضاً،” فكرت عندما رأيت جميع النساء الطامحات.” إلا إذا كان الفيلم يتضمن مشهد جنس جماعي هائل يحتاجون فيه لعدد كبير من الممثلين.”كان هناك الكثير من الفتيات في عمري ومنهن أيضاً من يصغرنني أو يكبرنني، سيدات لهنَّ مظهر مألوف جداً، ربما هن أمَّهات مثلي، لكن أمهات لهن أولاد، يتعذر إصلاح محيط خصورهن، تلبسن جميعاً تنانير قصيرة وكعوب عالية وستر ضيقة سيئة الصنع، كما هي ملابسي، وقد كان هذا سخيفاً بحق، طالما أننا سنظهر عراة، ما إذا تمّ اختيارنا. منهن من اصطحبن أطفالهن معهن، وكانوا يذرعون الدرج صعوداً ونزولاً، وقد كانت نساء أخريات يلعبن معهم حين يمرون بهن.

كان هناك الكثير من الطالبات أيضاً، ببناطيل الجينز والقمصان القصيرة الأكمام، لابد أن لهنَّ أهلاً، ما الذي يفكر به الأهل فيما لو تم اختيار بناتهن وصادف أن شاهدوا الفيلم يوماً ما، حتى لو تم بيعه فقط على أشرطة الفيديو، ليفعلوا ما يشاؤون بها بعد ذلك، ففي النهاية سيتم عرضه على شاشة التلفزيون في ساعات الصباح القليلة، وأب مؤرق قادر على فعل أي شيء، وأم أقل بقليل. الناس بحاجة حقيقةً وهناك الكثير من العاطلين عن العمل: يغوصون في أرائكهم أمام التلفزيون ويشاهدون أي شيء يعرض بهدف قتل الوقت والفراغ، لا شيء يصدمهم، فعندما لا يكون لديك شيء، يبدو كل شيء مقبولاً، تبدو الوحشية طبيعية ويصبح أي ورع أخلاقي نسياً منسياً، وفي آخر الأمر، لا يتسبب هذا النوع من القذارة بأي أذى، بل يمكن أن يكون مسلياً أحياناً. يمكنك أن تطّلع على بعض الأمور.

خرج رجلان من الغرفة العلوية التي كانوا يجرون فيها اختبارات الشاشة، خلف غرفة الانتظار، وعندما شاهدوا الطابور، أمسكا رأسيهما بأيديهما وقررا تفحصه بروية-بالتدريج-. ” يمكنك الذهاب،” قالوا لإحدى السيدات. ” أنت لست مناسبة، لست ملائمة، ما من فائدة من الانتظار،” قالوا لنساء أخريات، وكذلك لشابات بدون شديدات الخجل وبالغات السمنة، خاطبونا جميعا بـ ” أنتِ”. وطلبوا أيضاً من فتاة أن تبرز بطاقتها الشخصية. ” لم أجلبها معي،” قالت. ” إذن بإمكانك أن تخرجي، لا نريد أية مشاكل مع فتيات لم يبلغنَ السن القانونية بعد،” قال الرجل الأطول، الذي دعاه الآخر “مير”. للرجل الأقصر شارب وبدا أكثر تهذيباً وأكثر مراعاة لشعور الآخرين. اختصروا الطابور إلى ثلاثة أرباعه، فكان هناك فقط ثماني أو تسع فتيات ودخلنا جميعاً الواحدة تلو الأخرى. خرجت الفتاة التي تتقدمني بعد بضع دقائق باكية، لا أعرف ما إذا كان بكاؤها ناجم عن رفضهم لها أو لأنهم جعلوها تقوم بشيء مهين. ربما قد تسلوا بجسدها. لكن ما إذا دخلت من أجل هذه الأمور، لا بد أن تكون على علم بما قد ينتظرها. لم يفعلوا لي شيئاً، أولاً طلبوا مني كالعادة أن أخلع ملابسي قطعةً فقطعة. كانوا جالسين إلى طاولة، مير والرجل القصير ورجل آخر له شعر مربوط كذيل الفرس، لجنة تحكيم ثلاثية، ومن ثم زوج من التقنيين، ورجل واقف ببنطال أحمر، ووجه كالقرد، وذراعين مطويين، لا أعرف ما الذي كان يفعله، ربما كان صديقاً تم إدخاله لحضور الجلسة، متلصص، مهووس جنسي، بدا مثل شخص مهووس بالجنس. صوروا بعض أفلام الفيديو، تفرسوا بي جيداً، من هذه الناحية وتلك الناحية، مباشرة وعبر الشاشة، استديري، ارفعي يديك، كالعادة، من الواضح أنني كنت محرجة قليلاً، لكني شعرت برغبة بالضحك عندما رأيتهم يدونون بجدية الملاحظات على بطاقات، كما لو أنهم مدرسون في امتحان شفهي، يا إلهي.

” يمكنك أن ترتدي ملابسك،” قالوا فيما بعد.” كوني هنا بعد غدٍ في الساعة العاشرة. لكن تأكدي من أن تحصلي على قدر جيد من النوم، لا تعودي بهالات داكنة تحت عينيكِ، إنها تظهر فعلاً على الشاشة.”  قال مير ذلك، وكان محقاً، بالفعل هناك هالات تحت عيني، نمت نوماً قلقاً طوال الليل وأنا أفكر باختبار الشاشة. كنت على وشك المغادرة عندما ناداني الرجل ذو الشعر المربوط كذيل الفرس، الذي دعاه الآخران كوستاردوري، ” هيه،” قال،” فقط كوني هنا دون أي مفاجأة أو مشاكل كي لا تخيبينا في اللحظة الأخيرة: سيكون عليك القيام بالقليل من الفرنسي، القليل من الكوبي والمضاجعة، تمام؟” 

التفتَ نحو الرجل الطويل ليؤكد هذا: ” ليس عليها أن تفعل أي شيء يوناني، أليس كذلك؟” ” لا، ليس معها، ألا ترى أنها مبتدئة،” قال مير.  فرد الرئيس يديه وصالبهما ثانية مبادلاً بينهما، منزعجاً، يا إلهي، أي منظر كان له ببنطاله الأحمر. حاولت أن أتذكر بسرعة، سمعت هذه المصطلحات، أو رأيتها في الإعلانات الجنسية في الصحف، ربما عرفت معناها نوعاً ما. لا يوجد يوناني كما قالوا، لكن هذا لا يهم، على الأقل حالياً. كان من الواضح أن الفرنسي هو الجنس الفموي، لكن الكوبي؟

” ماذا تعني بالكوبي؟” سألت.

 نظر الرجل القصير نحوي مستنكراً.

” تعرفين،” قال، ورفع يديه إلى ثدييه غير الموجودين. لم أكن واثقة من أني فهمت تماماً، لكن تجرأت على طرح سؤال آخر: 

” هل اخترتم شريكي؟” شعرت بأني راغبة بالقول ” زميلي الممثل”، لكني فكرت أنهم قد يظنون بأنني أسخر. 

” نعم، ستلتقيه بعد غدٍ. لا تقلقي، هو صاحب خبرة كبيرة وسيتولى القيادة.” ذلك كان التعبير الذي استعمله الرجل القصير، كما لو أنه يصف قاعة للرقص، في حين كان من المنطقي أن يقول: ” سأتولى القيادة.”

ها أنا قد عدت، وأنا مجدداً في غرفة الانتظار، بانتظار أن يبدأ التصوير مع شريكي الذي قدم للتو، صافحني. جلسنا على الأريكة الضيقة قليلاً، كانت صغيرة جداً حتى أنه انتقل فجأة إلى الكرسي المقابل رغبة في الحصول على راحة أكبر. كان الرجال الطويل والقصير وصاحب الشعر المربوط كذيل الفرس والتقنيين يصورون زوجاً آخر (كنت آمل ألا يكون هناك ذلك المهووس بالجنس، لقد أخافني بعينيه المنتفختين، وأنفه المفلطح وبنطاله الشنيع). في الأفلام، كما سمعت، يُصوّر كل شيء في الفيلم للأبد ويتأخر كل شيء أثناء ذلك، وهكذا قالوا لنا أن ننتظر ونتعارف وهذا ما كان سخيفاً.” لا أعرف هذا الرجل مطلقاً وبعد عدة دقائق سأمارس معه الجنس الفموي،” فكرت ولم أستطع التوقف عن التفكير في تلك الكلمات الدقيقة.

” ما الفكرة من تعارفنا ومحادثتنا.” تجرأت بالكاد على النظر إليه، فعلت ذلك بطرف عيني، هجمة مشؤومة من التواضع إلى حد ما. عندما قدموني إليه قالوا: ” هذا لورين، شريكك.” كنت أفضل لو سموه ” شريكي في البطولة”، لكني أفترض بأن في ذلك بعض التباهي. كان عمره يناهز الثلاثين، يرتدي بنطالاً وقبعة و”جزمة” راعي بقر، يبالغ الممثلون دوماً في “تأمركهم”، حتى وإن كانوا لا يظهرون سوى في أفلام “بورنو”. هكذا يبدأ الكثير منهم، ربما يصبح ممثلاً كبيراً يوماً ما. لم يكن سيء المظهر على الإطلاق، مستخفاً بالمظاهر، من النوع الرياضي، من يذهب إلى النادي الرياضي باستمرار، له أنف معقوف قليلاً وعينان رماديتان، هادئتان وباردتان، وفم ظريف، لكن ربما لن يكون ذلك الفم الظريف هو ما سيتوجب عليَّ تقبيله.

 بدا غير متأثر تماماً، كان جالساً مصالباً ساقيه مثل الكاوبوي وكان يتصفح جريدة، لم يكترث بي كثيراً. ابتسم عندما تم تقديمنا لبعضنا البعض، كان هناك فراغات بين أسنانه منحت وجهه منظراً طفولياً. بعدها خلع قبعته، لكنه أعادها في الحال، ربما قد يبقيها أثناء التصوير. قدم لي بعض الحلوى المصنوعة من السوس، لكني رفضت، كان يمص اثنتين في آن، ربما من الأفضل ألا نتبادل القبل على الإطلاق. ارتدى في رسغه طوقاً مصنوعاً من جلد الفيل، كان ضيقاً جداً. هي ليست بالسوار تماماً. أفترض أنه بدا عصرياً، بينما بدوت فجأة موضة قديمة بتنورتي الضيقة، ثوبي الضيق الأسود وكعبي، لا أعرف ما الذي دعاني لارتداء أعلى كعب لدي، ربما، لو انتبهوا له، لرغبوا بألا أخلعه، يحب الكثير من الرجال رؤية النساء بهذا الشكل، عاريات وبكعوب عالية، جميع تلك التخيلات طفولية بعض الشيء، هو بقبعته وأنا بكعبي العالي. أدركت بأني كنت أشد تنورتي قليلاً للأسفل، لأنها كانت ترتفع عندما أجلس، وهذا جعلني أبدو سخيفة. حتى شريكي في البطولة لم ينتبه لفخذي، وقد كان على حق، فخلال فترة  قصيرة، لن يكون هناك تنورة، ولا أي شيء.

” اعذرني،” قلت حينها، ” لقد قمت بمثل هذا العمل من قبل أليس كذلك؟” 

 نظر من فوق الصحيفة، لكنه لم يضعها جانباً، كما لو أنه لم يكن واثقاً من رغبته في أن يشرع بمحادثة حقيقية، أو بالأحرى كما لو أنه كان واثقاً من أنه لا يريد.

” نعم،” قال،” لكن ليس إلى حد كبير، مرتان، لا، ثلاث مرات، منذ فترة وجيزة. لكن لا تقلقي، إنسي أمر الكاميرا مباشرة. قالوا لي أنك هنا للمرة الأولى.” كنت ممتنةً لأنه عبر عن الأمر بتلك الطريقة، بدلاً من أن يدعوني مبتدئة كما فعل مير الطويل الأصلع. ” لا تشعري بالحرج، هذا قاتل، فقط اتبعيني وحاولي أن تستمتعي قدر استطاعتك، ولا تكترثي للآخرين.” 

” سهل القول وصعب التطبيق،” أجبت.”  آمل أن يكونوا صبورين فيما لو توترت. أنا عصبية بعض الشيء.”

      ابتسم الممثل لورنزو لي ابتسامه عريضة. كان يقرأ صفحات الرياضة. بدا واثقاً بنفسه إذ قال:

” انظري، أنت لن تلحظي حتى أنهم يصورون. سأعتني بذلك.” قال ذلك بنبرة تنم عن الصراحة وليس الفخر، لأن ليس ذلك ما كان يقلقني، لكن ما أقلقني أنه لم يخطر له أن مراقبة الناس ليست هي السبب الرئيسي لإثارة أعصابي في موقع التصوير.

” صحيح، ” قلت، لم أجرؤ على التشكيك به، ربما من الخوف.” سيكون هناك استراحات أليس كذلك؟ بسبب اللقطات المختلفة وهلم جراً. وما الذي يحدث حينها؟ ما الذي تفعله فيما بينهما؟”

” لا شيء، يمكنك أن ترتدي الثوب لو تحبين وتشربي الكوكا كولا. لا تقلقي،” قال ثانية.” هناك أمور أسوأ. وبالتأكيد هناك بضعة صفوف من الكوكا لو رغبت.”

” أوه، إذن هناك أشياء أكثر سوءاً؟” قلت مستفزة قليلاً بسبب بروده المفرط. ” من الواضح أني لم أصادفها بعد، هيا أخبرني المزيد.” أخيراً وضع الصحيفة وأضاف بسرعة: ” أنا لا أقول ذلك بسببك. لم أقصدك، هل تفهمين ذلك، أتفهمين؟  أنا أفعل ذلك من أجل المال، لكنك لن تقولي لي بأنه مع ذلك ليس أمراً فظيعاً تماماً ما أقوم به. حسناً، أنا لا أعرف رأيك، لكن هذا من ناحيتي.”

      تجاهل لورين محاولاتي في عدم إهانته وركز على ما قلته سابقاً. نظر إليَّ بعينيه الهادئتين، لكنه بدا الآن ساخطاً بعض الشيء، كما لو أنه قد استفز أو كما لو أنه كان شخصاً ليس لديه أية قابلية للشعور بالاستفزاز، ولم أعرف أي نبرة صوت أستعمل. كانت عيناه الرماديتان متوسعتين قليلاً أيضاً، بعيدتان تماماً عن أنفه المعقوف، الذي بدا أنه يشد شفتيه للأعلى، بمنخرين من النوع الذي يبدو صاحبهما دوماً كما لو أنه يعاني من البرد.

” هناك أمر سيء،” قال. ” وسأخبرك عنه الآن. عملي السابق كان أكثر سوءاً، لا يعني هذا أني سأستمر في هذا العمل إلى الأبد، لكن لا بأس في أن تمضي به إلى أن يلوح شيء ما في الأفق، وليس لديك فكرة كم ستكون المقارنة عظيمة مع ما كنت أفعله سابقاً.”

” ماذا كنت تفعل إذن؟  هل رمى أحدهم السكاكين عليك في السيرك؟”

لا أعرف لمَ قلت ذلك. لابد أنه بدا مسيئاً كما لو أن الممثل لورنزو حتماً ينتمي لمنزلة أدنى في عالم الترفيه. في النهاية، كنت أفعل تماماً ما يفعله، وخسرت عملي منذ سنتين وزوجي السابق اختفى ورحل، وابنةٌ عليَّ أن أعتني بها. ربما كان له ابنةً أيضاً. أضف إلى ذلك أنه لا يوجد عروض مثل تلك الآن، تلك القبعة القديمة، لم يعد هناك الكثير من فرق السيرك الآن.

      ” انظري، أيتها المتذاكية،” قال، لكن بدون أدنى تأنيب ودون أن ينوي إهانتي، لست واثقة إذا ما كان ذلك واضحاً لأنه كان شديد التسامح أو لأنه لم يكن بارعاً. قالها بطريقة الأطفال في المدرسة: ” لا، أيتها المتذاكية. كنت حارساً.”

” حارساً؟ ماذا تعني بحارس؟ حارس ماذا؟” هذه كانت آخر كلمة توقعت أن أسمعها من شفتيه ولم أتمكن من إخفاء مفاجأتي، التي قد تبدو مسيئة. نظرت ممعنة في وجهه، حارس، بدا مثل شخص خارج من فيلم من أفلام “الويسترن”.

لمس حافة قبعته بارتباك، كما لو أنه يسويها.

” حسناً، أقصد، هناك شخص تحت حراستي وحمايتي. كما لو أني مرافق، لكن بشكل مختلف.”

” أوه، مرافق شخصي،” قلت، وارتسم على وجهي تعبير ينم عن أني أضعه في منزلة أدنى.” وما السيء في ذلك؟ كان عليك باستمرار أن تمنع الرصاصات من إصابة رئيسك أو شيء ما؟” لم يكن لدي سبب لعدائيتي نحوه، لكني واصلت الإجابة بهذا الشكل الصلف، ربما كنت قد بدأت أشعر بالاشمئزاز من فكرة أني قريباً سيتوجب عليَّ ممارسة الجنس الفموي دون تمهيد معه، كان الوقت يمر. نظرت كرهاً إلى عضوه، وفي الحال أبعدت نظري. فكرت به ثانية مستعملة ذلك الفعل، ” أمصُّه،” يجعل هذا العصر الحديث لجميعنا لساناً بذيئاً، أو ربما لا نهتم كثيراً لو كنا كذلك، أو ربما هو الفقر وحسب: طالما أنك تملك القليل من المال فلديك ورع أقل أيضاً. وعندما نتقدم في العمر لا يبقى لنا من الحياة سوى القليل، ولن يكون أمامنا الكثير.

” لا، لم أكن حارساً من ذلك النوع، لست بلطجياً،” قال،” لست على الإطلاق، ضعي جانباً سخريتي، لكن لنتحدث بجدية، بصراحة، بشفافية. كان عليَّ أن أراقب مريضة، أن أمنعها من إيذاء نفسها، كان أمراً صعباً. عليك مراقبتها أربعاً وعشرين ساعة يومياً، أن تكوني متنبهة طوال الوقت ولا يمكنك دوماً أن تنجحي في ذلك.”

” من تكون؟ ما الذي حدث لها؟” 

خلع لورين قبعته وخبط قمتها بساعده الأيمن، بالطريقة التي يفعلها الكاوبوي في الأفلام. ربما كانت إيماءة تعبر عن الوقار. كان شعره خفيفاً.

” كانت ابنة رجل ثري، مليونيراً كبيراً، لا يصدق، واحد من رجال الأعمال الذين لا يعرفون كم يملكون من المال. لابد أنك تعرفين اسمه، لكن من الأفضل ألا أخبرك. كانت الابنة مجنونة، هستيرية لديها ميول انتحارية، كانت تقدم بين الحين والآخر على قتل نفسها. تعيش لأسابيع حياة طبيعية كما يبدو وثم فجأة من دون سابق إنذار تقطع أوردة معصميها في الحمام. كانت مجنونة تماماً. لم يرغبوا في إدخالها المستشفى لأن هذا سيكون قاسياً جداً، وسيعرف العالم بمجمله وزوجته بالأمر في النهاية، في حين أن بعض الناس، الناس الذين كانوا أكثر قرباً منها، عرفوا بمحاولات الانتحار. لذا وظفوني رغبة في منع حدوث ذلك، وهكذا نعم كنت حارساً شخصياً لكن ليس لأحميها من الآخرين كما يفعل الحراس الشخصيون عادة لكن لأحميها من نفسها. اعتبرني أصدقاؤها حارساً شخصياً عادياً، لكني لم أكن كذلك. كان عملي مختلفاً، أكثر شبهاً بالوصي.” 

فكرت بأنه ربما عرف تلك الكلمة لأنه تكبد العناء ليجد الكلمة التي تصف دوره. تعرف عليها عندما وجدها.

” أرى،” قلت.” وذلك كان أسوأ من هذا. كم عمرها؟ لمَ لم يأتوا بممرضة تعتني بها؟”

مرر لورين ظاهر يده تحت ذقنه، بالاتجاه المعاكس، كما لو أنه أدرك فجأة بأنه لم يحلق جيداً. كان سيقبلني في كل مكان. لكن كان يبدو لي أنه قد حلق حلاقة جيدة، كنت أشعر بالغواية في أن ألمس وجهه لكني لم أجرؤ، فقد يعتبرها ملاطفة.

” لنفس السبب، لأن الممرضة أكثر وضوحاً، ما الذي تفعله شابة طوال اليوم مع ممرضة تتسكع في المكان؟ يمكنك أن تفهميها أن لديها حارساً شخصياً، كون والدها فاحش الثراء. يمكنها أن تعيش حياة طبيعية، كما ترين، كانت تذهب إلى الجامعة، في العشرين من عمرها، ذهبت إلى الحفلات، وبالتأكيد إلى الطبيب النفسي أيضاً، لكنها لم تكن مكتئبة طوال اليوم أو ما شابه، لا. كانت لتبدو طبيعية لفترة، وودودة. تنتابها فجأة هجمة وكانت دوماً هجمة انتحارية، ولا يمكنك أبداً أن تعرفي ما الذي حصل.

لم يكن هناك أدوات حادة في غرفة نومها، لا مقصات، لا مديات، لا شيء، لا أحزمة يمكنها أن تشنق نفسها بها، ما من حبوب في أي مكان، ولا حتى الاسبرين، ما من أحذية بكعوب عالية أيضاً، كانت أمها تحرص دوماً ألا يكونوا بالغي الحدة منذ أن خدشت ابنتها خديها بواحد منها، كان عليهم أن يجروا لها عملية تجميلية، لا يمكنك أن تعرف، لكنها جرحت نفسها جرحاً بليغاً فادحاً. لم يكن مسموحاً لها أن تنتعل أحذية فهي أسلحة حقيقية بالفعل. بهذا المعنى، عاملوها كسجينة، ليس مسموحاً بأدوات خطرة. كان أبيها على وشك أن يخلع نظارتيه الشمسيتين عندما رأى الجزء الثالث من فيلم العراب الذي يقتل فيه شخص رجلاً آخر بنظارتيه، بالحافة الحادة للذراع، صدقاً، كانوا يفتشون الرجل تفتيشاً كاملاً بحثاً ومضى وقطع حنجرة الرجل الآخر بذلك. هل رأيت العراب 3؟”

” لا لم أفعل. رأيت الجزء الأول.”

” يمكنني أن أعيرك إياه، إن رغبت،” قال لورين بدماثة. ” إنه الأفضل بين الثلاثة إلى حد كبير.”

       ” لا أملك جهاز فيديو. هيا أكمل،” قلت، خائفة من أن يُفتح الباب في أية لحظة ليكشف عن وجه مير الطويل أو الوجه الهزيل لكاستردوري أو شارب الرجل القصير، ليطلبوا منا أن نبدأ بتصوير مشاهدنا.  لن نكون قادرين على الكلام أثناءها، ليس بنفس الطريقة، كان علينا أن نركز، ونواصل العمل.

      ” على أية حال، كان عليَّ أن أبقى حولها طوال اليوم وأنام بنصف إغماضة، كانت غرفتي مجاورة لغرفتها، وكان يصل بينهما باب أملك مفتاحه، تعلمين، كما يحدث في الفنادق أحياناً، كان المنزل ضخماً. لكن بالتأكيد هناك طرق لا تعد ولا تحصى يمكنك أن تؤذي نفسك بواسطتها، إذا ما أراد المرء فعلاً أن يقتل نفسه، سيفعل ذلك في النهاية، تماماً كالقاتل، إذا ما أراد شخص قتل آخر، سينتهي إلى فعل ذلك مهما كانت ضحيته محمية، حتى لو كان رئيس الوزراء، أو الملك، إذا ما قرر شخص القتل ولا يهتم للنتائج سيقتل، لا شي يمكنك فعله بهذا الشأن ليس لديهم شيئاً ليخسرونه، لو لم يهتموا بما سيحدث فيما بعد.

 انظري إلى كنيدي، انظري إلى الهند، هناك بالكاد سياسي واحد باقٍ على قيد الحياة هناك. حسناً، إنه نفس الأمر مع من يريد قتل نفسه. الإقدام على الانتحار يثير بي الضحك. كانت الأميرة سترمي نفسها برعونة على السلم المتحرك في متجر كبير لنمسك بها وجرح بليغ في جبهتها وخدوش في ساقيها، من حسن الحظ أني كنت هناك.  أو أنها كانت سترمي بنفسها على واجهة العرض، على نافذة المتجر في وسط الشارع، ليس لديك فكرة كيف يكون هذا، مغطاة بالجروح تلتصق بها مئات الشظايا من الزجاج ، في حالة من الجنون التام، وتعوي من شدة الألم، لأنك لو لم تتمكني من قتل نفسك فهذا يتسبب بألم حقيقي.

لم يتمكنوا من حبسها أيضاً، لأن هذا لم يكن فيه شفاءها. كنت أرى الخطر في كل مكان، هذا رعب حقيقي، أن تري العالم كله كتهديد، لا شيء بريء وكل شيء ضدك، رأيت أعداء في أكثر الأشياء المسالمة، كان على تخيلاتي أن تسبق تخيلاتها، كان عليَّ أن أمسك بذراعها في كل مرة نعبر فيها الطريق، واثقاً من أنها لن تقترب من أي نوافذ عالية، شديد الحذر في أحواض السباحة، أخرجها من الحوض بعيداً عن أي عامل قد يحمل قضيباً وهو يمشي لأنها قد تحاول أن تخوزق نفسها به، حسناً هكذا كنت أرى الأشياء، كانت قادرة على أي شيء، بدأت بالارتياب بكل شيء، الناس، الأشياء، الجدران.”- “هكذا كنت عندما كانت ابنتي صغيرة،” فكرت، ” أنا لا زلت كذلك حتى الآن إلى حد ما، ولم أرتح تماماً. أعرف كيف يكون هذا. نعم، إنه مريع.”-” مرة، حاولت أن ترمي نفسها تحت حوافر الأحصنة في السبط الأخير في السباقات، لحسن الحظ، استطعت أن اختطفها من كاحلها عندما كانت على وشك أن تدوس على المسار، خاطرت فقد كنت أراهن وانزلقت مبتعدة عني، يا إلهي، يا لهذا الرعب الذي شعرت به حتى وجدتها تركض نحو الأحصنة.”

توقف الممثل لورنزو شفهياً، لكن ليس عقلياً، استطعت أن أرى أنه كان لا يزال يفكر بما كان يقوله وما سيقوله.” يمكنني أن أؤكد لك، أنه كان أكثر سوءاً من هذا، ضغط رهيب، قلق مستمر، لا سيما بعد أن ضاجعتها، ضاجعتها مرتين: حسناً، الباب الواصل، وبحوزتي المفتاح، أمضيت الليالي دوماً نصف مستيقظ ومتوثب، كان شيئاً لا مفر منه. إلى جانب أنه عندما أكون معها لم يكن هناك خطر، لا شيء يمكن أن يحدث لها وأنا فوقها وذراعي حولها، وأنا فوقها كانت آمنه، كما ترين.”-” الجنس هو المكان الأكثر أمناً،” فكرت،” تتحكم بالآخر، تبقيه مشلولاً وآمناً.”

كان قد مضى وقت طويل منذ أن كنت في ذلك المكان الآمن. – ” لكن بالتأكيد، تضاجع امرأة مرتين وتتعلق بها. حسناً، ليس ذلك التعلق، كان لدي حبيبة أيضاً، لكن ليس لأن من المتوجب عليّ ذلك، لكن الأمر مختلف، لقد لمستها، قبلتها ولم تعد تنظر إليها بنفس الطريقة أبداً، وهي عاملتك بحب أيضاً.” تساءلت فيما إذا كنت سأعامله بحب بعد الجلسة التي تنتظرنا. أو سيتعلق بي بسبب ذلك. لم أقاطعه.” لذا بعيداً عن الضغط الذي ينطوي عليه العمل، كان هناك أيضاً القلق، لا أقول الذعر، لا أريد أن يحدث لها أي شيء، ذلك كان آخر شيء في العالم أرغبه. باختصار، كان مزعجاً حقيقة، عدا ذلك، مهمة سهلة.”

” مزعج” و ” مهمة سهلة”، تسمع تلك الكلمات أقل وأقل، بدتا فكهتان في الغالب.

” نعم،” قلت. ” ما الذي حدث، هل اشمأزت؟” سألت، غير متوقعة منه أن يجيب مؤكداً. في الواقع، قد قال لي ما حدث وتوقف متفكراً قبل أن يخبرني بالبقية.

 وضع لورين قبعته وتنفس بصعوبة من خلال المنخرين الرطبين كما لو كان يستجمع القوة قبل أن يفعل شيئاً يتطلب جهداً. غطت حافة قبعته عينيه الرماديتين الباردتين، لم يكن وجهه الآن سوى أنف وشفتين، الشفتان الظريفتان اللتان لن أقبلهما. لم يكن هناك قبل على الفم في أفلام “البورنو”.

” لا، خسرت عملي. فشلت. ذبحت الأميرة نفسها في مطبخ منزلها منذ ثلاثة أسابيع، عند منتصف الليل، ولم أسمعها تغادر غرفة النوم حتى، ما رأيك في ذلك؟ بقيت دون أحد أعتني به، كارثة، كارثة محققة” للحظة، كانت تستولي عليَّ فكرة أن الممثل لورنزو كان ربما يتصرف رغبة في إلهائي وإراحة أعصابي. فكرت للحظة بفتاتي الصغيرة، التي تركتها مع إحدى الجارات. وقف، مشى حول الغرفة، في نفس الوقت شد بنطاله الجينز. توقف بجانب الباب المغلق الذي سنعبر من خلاله. فكرت بأنه كان سيلكمه، لكنه لم يفعل. قال بعصبية: ” متى سنبدأ، ليس لدي كل اليوم لأمضيه منتظراً.”

___________________________________________

وُلدَ خافيير مارياس في مدريد عام 1951. له أكثر من اثنتي عشرة رواية وتُرجِمَت أعماله إلى أربعين لغة، كما حصد عدداً كبيراً من الجوائز العالمية. من رواياته “ملك الزمان”، و”القرن”، و”كل الأرواح”، و”قلب أبيض جداً”، و”فكر فيّ غداً أثناء المعركة”.

 اللوحة للفنان التشكيلي السوري الدكتور غسان السباعي وقد رحل منذ أيام (1939 – 2015)

*****

خاص بأوكسجين