وحشتني I Miss You Vs
العدد 249 | 14 تشرين الثاني 2019
منة الله عبد المنعم


 

أتردد كثيرا قبل أن أرسل لصديقي الخيالي، الذي لم يعد خيالياً، أنني سعدت لمصادفته في الشارع ثم أجدني أكتب رسالة طويلة باﻹنجليزية. في عهد غير مدون بالإبقاء على الود يحافظ صديقي المفضل على طرح أسئلة باﻹنجليزية بين حين وآخر، عندما طفح الكيل بأعز صديقاتي من غيابي صبت غضبها عليّ أخيرا لكن باﻹنجليزية، وكثيرا ما تأتيني من اللا شيء رسائل متتالية باﻹنجليزية عن مشكلة لا ألم بأبعادها لكن أصبح وصاحبتها صديقتين في هذا الخصوص. بينما نتجول ليلا ووسط حوار عامي صاحت رفيقتنا: I hate myself. ﻷقف متسائلة: لماذا الإنجليزية؟  أنفضل التعبير عن أنفسنا بها أم نهرب من أنفسنا فيها؟ 

 

عند بناء مواقف كاملة من خلال لغة غير اللغة الأصلية نبذل جهدا بمحاولة اختيار الألفاظ الأقرب لمقصدنا، والتدقيق في القواعد اللغوية مع مراجعة دلالات المصطلحات، ووضع مدى تجاوب الطرف الآخر مع اللغة في الاعتبار. كل هذا التحليل يمنحنا وقتا لنستوعب الحالة التي نعبّر عنها، متحسسين حدود النُدَب من دون أن نمسها مباشرة، أما في لغتنا الأم نغرق في بحرها منتقيي الألفاظ التي قد تكشف جروحنا مباشرة رغم ذلك.

 

في التعبير عن أنفسنا يقف مثلث: اللغة، الثقافة، المشاعر. المشاعر ابنة الثقافة واللغة واجهتهما؛ فاﻷمر ليس مجرد حصيلة لغوية بل خلفية ثقافية مكتسبة من النصوص والتجارب التي ننشأ عليها، بجانب التجربة الذاتية في هيئة ذكريات، لذلك لا يمكننا التعبير عن أنفسنا بوضوح تام في لغة أجنبية مهما بلغ اتقاننا لها، بل عندما نفعل نكون شخصيات مختلفة؛ حيث يتم تفعيل التحليل العقلي وتثبيط نظيره العاطفي، فنصبح بصورة ما أقل خجلا من إخفاقاتنا وأكثر استعدادا للاعتراف بضعفنا والركون للواقع، تطرح تجاربنا بنوع من الانفصال والتجرد، حتى أن الكاتب الذي يعتاد أن يكتب بلغته الأم إذا سرد نفس القصة بلغته الثانية نجد شكلا جديدا لها، زاوية مختلفة للحدث والبناء، فقد بدل ملقاطه. 

 

اللافت في الأمر أنه ليست شخصياتنا فقط التي تتأثر بل مبادؤنا، ففي معضلة النفعية الشهيرة، عندما طُلِب من أشخاص الاختيار بين إنقاذ الخمسة أفراد مقابل الدفع بروح واحدة تحت عربة القطار كان من يتم سؤالهم في لغاتهم الثانية يعتدون بالمنفعة الأكبر ولا يمانعون التضحية بهذه النفس، بينما الأشخاص أنفسهم عندما سئلوا بلغاتهم الأصلية رفضوا أو وترددوا، فاللغة الأجنبية تجعلنا أكثر ميلا للنفعية بل ولكسر المحرمات نتيجة تقليل نفورنا العاطفي، إذ يمكن للشخص إنكار حدث ما أخلاقيا في لغته الأم والتصديق عليه في لغة أخرى، وقد يكذب في لغته الثانية بثبات ولا ينجح في إخفاء الأمر في اللغة الأولى، فيما يطلق عليه: متلازمة التأثير الأخلاقي للغة الأجنبية( MFLE).

 

 يفسر الطب ذلك بأن تجاربنا تؤثر على تطور المسارات العصبية في مناطق الدماغ المسؤولة عن التحكم في العواطف وتنظيمها، وخبراتنا تساعد في تشكيل القشرة الأمامية وهي مركز الإدراك والتفكير وبمثابة معمل لصنع القرار والتحكم في الانفعالات، مع  دور اللغة الأم الأساسي في تجاربنا اليومية وارتباطها المشترك بين العقل والعاطفة يتم تفعيل المثلث المذكور: اللغة والثقافة والمشاعر، بينما لا تنجح اللغة الأجنبية في تضفير الأمور على هذا النحو حيث تدخل على مركز التحليل معطى مجرد كمعادلة منطقية. وعليه فالدلالات النفسية للألفاظ تتبدل كلما استبدلنا لفظ أجنبي بمقابله في العربية، ففي الشتائم نجد ألفاظا باﻹنجليزية مستساغة وكثيرة الاستخدام بينما التي تحمل نفس المعنى بالعربية تثير نفورا في المجالس، وكذلك بشأن التعبيرات الجنسية، فزر النفور الأخلاقي والمحرمات يعطل لعدم مروره على المثلث المذكور.

 

   هذا يخبرك أن خفقان قلبك عند “وحشتني” وعدم التفاته  لل”you're missed” ليس بأمر شخصي؛ فإذا اعترفت لفتاة بـ: أنا أحبك، سيتورد وجهها وتتلعثم في الكلام ولا نسبتعد أن تفسد عليك الأمر بإلقاء فكاهة في غير محلها أو تغيير الموضوع، أما إذا اخترت البدء بـ:  I love you قد تحتاج أن تقرص خدودها ﻹضفاء بعض الحمرة، ليس لبلادة فيها بل لأن عقلها تناول المعطى مباشرة ولم يمر على الفرن العاطفي، ويلاحظ ذلك عند إبلاغ المرضى وذويهم بتطورات سلبية أو أخبار صادمة، يجد الأطباء أن استخدام لغتهم الثانية يجعل الأمور أهون، كمجتمعاتنا العربية وتعاملها مع لفظتي cancer والسرطان فاﻷولى متداولة كأنك تتحدث عن نزلة برد، بينما الثانية تضطرب لها القلوب وقد تباغتك جدتك: “اسمه المرض الوحش”.

*****

خاص بأوكسجين