من مصر إلى إيطاليا: البحر من أمامنا والموت أيضاً 2/1
العدد 158 | 04 أيلول 2014
نجيب مظلوم


ربما يظن البعض أن رحلة محفوفة بالمخاطر عبر البحر في قارب متهالك لبضعة أيام، قد تكون مغامرة خطرة، ما أن تجتازها حتى تنتهي كل مخاوفك. لكن مخاوف وهواجس البعض الآخر تبدأ عند خروجه من ذلك القارب. هذا ما حدث معي على الأقل، بعد رحلة بحريه شاقة، قررت فيها امتطاء البحر بطريقة غير شرعية إلى أوروبا، انطلاقاً من مصر وصولاً إلى بوابة دخول أوروبا: إيطاليا. لم يأخذ القرار أكثر من يوم واحد تحسباً لأي مضاعفات عاطفية قد تمنعه، ودخل حيز التنفيذ يوم 11/6/2014.

في الواقع لم تكن هذه رحلتي الأولى خارج سورية، إلا أنها كانت الرحلة الأولى التي أقوم بها بطريقة غير شرعية. أنا القادم من ست سنوات أمضيتها في دراسة القانون في “كلية الحقوق” بدمشق، إلا أن شغف الصحافة أخذني بعيداً عن شاطئ القانون رغم تخرجي ودراسة دبلوم القانون الدولي وماجستير الاقتصاد السياسي، ورماني في بحر الحقيقة المتلاطم الذي احترفت تصويره بقلمي، ثم تلمست خطواته بكاميرتي بحثاً عن الحكاية الحقيقية.

لا أخفي أن فضولي الصحفي كان واحداً من دوافع سفري بهذه الطريقة، ورغبتي بمشاركة المهاجرين رحلة المصاعب وعبور جسر الحياة والموت بحثاً عن حلم في العيش الآمن في رحلة كان من المفترض أن تستمر 6 أيام لكنها امتدت 11 يوماً. 

 

سعر الموت

تختلف أسعار الرحلات بحسب الموسم وحسب العرض والطلب، وعادة تكون في أشهر الصيف فقط، بسبب طول المسافة، والخوف من تقلبات البحر في الخريف والشتاء. ويتراوح سعر الرحلة اليوم (قد تختلف الأسعار حالياً والسعر يعود إلى تاريخ الرحلة) من مصر إلى إيطاليا بين 1800 إلى 2000 دولار، وذلك حسب معرفتك بالمصادر الأكثر قرباً من المهرب الكبير. تشمل الأسعار المسافرين الكبار فقط، بينما يسافر الصغار مع ذويهم بالمجان. بعد أن كانت تصل الأسعار الى 5000 دولار في السنة الماضية، ويُعزى انخفاض الأسعار إلى زيادة عدد رحلات تركيا اليونان بسبب قلة مخاطرها سواء البحرية أو لجهة رد فعل السلطات التركية، إلا أن الطريق من اليونان إلى أوروبا أكثر تكلفة في النهاية، وذلك لاستحالة العبور براً بسبب حدودها مع أوروبا الشرقية، ما يفرض على المسافر الانتظار في اليونان ريثما يتم تأمين بطاقة أوروبية له تتيح  إمكانية السفر جواً، وهذا يزيد الكلفة سواء لجهة تزوير البطاقة أو تكاليف الانتظار.

سماسرة مراكب الموت في الأصل من الجنسية المصرية، لكن مع الوقت دخل سماسرة سوريون على الخط، خاصة بعد الكوارث التي حصلت العام الماضي (2013) من تسليم السماسرة للناس إلى السلطات المصرية وبعض عمليات نهب أموال المسافرين، إذ طوّر السماسرة السوريون طرق تأمين الرحلة على الركاب، من قبيل عدم قبض ثمن الرحلة إلى أن يصل الراكب الى الشواطئ الإيطالية، حيث يوضع المبلغ المتفق عليه عند كفيل يقبله الطرفين، وعادة يكون صاحب متجر ينتظر هاتف المسافر كي يسلم المبلغ المتفق عليه، إلا أن هذا التطور لم يكن مجانياً فقد رفع سعر الرحلة ليتراوح بين 2200 و 2800 دولار، بحجة أن رحلاتهم أكثر أماناً و”إنسانية” وأكثر ضماناً في طرق الدفع، ولكن في النهاية جميع السماسرة المصريون والسوريون يعملون تحت سلطة بضع أشخاص نافذين، أبرزهم يُعرَف بلقب “الدكتور”، ومعظم قوارب التهريب تخضع لسلطاتهم، ولهم طرقهم الخاصة في التعامل مع الحكومة المصرية وباقي حكومات دول المتوسط!!

 

باب الأغراض

أولى النصائح هو حصر الأغراض بحقيبة كتف فيها بعض الملابس والتمر والماء، ويمكن إضافة بضع علب مرتديلا وجبنة، وبضع تفاحات خضر أو بضع ليمونات لتخفف حالة الغثيان. أما الموبايل والأوراق الثبوتية فعليك أن تحرص على تغليفها  بالنايلون واللاصق كي لا تبتل، ويتوجب أن تكون في حقيبة صغيرة لا تفارق رقبتك طيلة الوقت. وفي باب الملابس يستحب أن تحمل بيجامة سميكة، وشورت، وجاكيت بطاقية، وزوجين من الملابس الداخلية أو ثلاثة، وتي شيرت، وقبعة للشمس، وصندلاً، وكيس نوم (لخفة وزنه وقدرته على الحماية أثناء العواصف)، وفي باب المعدات الطبية يجب أن تتضمن معداتك واقياً شمسياً، وكريما للحروق (فالشمس تكون حادة جدا في البحر)، وحبوب “انتنال” للإسهال، وحبوب “درامينيكس” لدوار البحر (التي يتوجب تناولها قبل ١٢ ساعة من النزول الى البحر وحبتين بعد الصعود الى المركب -لها تأثير منوم)، وحبوب “باربيران” للغثيان (التي تؤخذ فيما بعد عند الشعور بالغثيان)، إضافة لمعقم أو مناديل معطرة أو بودرة، لا أكثر ولا أقل لأنك قد تضطر للتخلي عن حقيبتك كما فعلت أنا. لكن وللضرورة يجب على المرأة الحامل أن تستشير طبيبها اذا ما أصرت على الذهاب، وعليها التزود بمضاد إجهاض (وتركيبته الطبية بروجيسترون، بحسب وصف طبيب المركب مشكورا). ملاحظة أخيره: أثناء النزول إلى المياه، وقبل الصعود إلى المركب، يمكن لبضع جرعات من مياه البحر أن تقيك دوار البحر.

 

الرحلة: رواية السماسرة

بعض السماسرة يجعل من “البحر طحينة” للمسافر، حتى يظن بعض المهاجرين أن هنالك أوقاتاً لوجبات الطعام التي تحوي ما لذّ وطاب توزّع على الركاب، حيث تبدأ الرواية بأنهم سينطلقون بمراكب صيد صغيرة من شاطئ ما مسافة قصيرة إلى مراكب أكبر، والتي بدورها تعبر الحدود في زمن لا يتجاوز الساعتين، وصولاً إلى مركب حديدي كبير يبحر حتى مسافة قريبة من شواطئ ايطاليا حيث تنتظرهم البوارج الإيطالية، وذلك في مدة تتراوح بين 4 إلى 6 أيام. ويطمئن المسافرون عبر حجز شاليهات سياحية لهم قبيل السفر ليوم أو بضعة أيام، على شواطئ الاسكندرية أو محيطها.

 

الرحلة: كما عشتها

في المقلب الآخر، صرت مسافراً وعندي روايتي.

كان مقرراً للرحلة أن تنطلق من القاهرة في اليوم التالي عبر “ميكروباصات” إلى الاسكندرية، حيث وصلنا عصر اليوم الى شاطئ شعبي غرب المدينة لتتوافد ميكرو باصات أخرى قادمة من مناطق مختلفة. خصص لنا المهربون 12 شاليه، كل منها يضم 12 شاباً أو 4 عائلات، وكان مساء اليوم هو احتمال الانطلاق لكن تم تأجيل الموعد إلى اليوم التالي أي الخميس في 12/6/2014، إلا أن أحد سماسرة الموت اجتمع بنا وأخبرنا أن الرحلة ستتأجل إلى مساء السبت كي لا “نتخزن” في البحر والمقصود بالتخزين هنا هو الإبقاء على المسافرين في مراكب في عرض البحر قبالة السواحل المصرية ريثما تكتمل أعداد القادمين، من أجل انطلاق الرحلة.  

 

في انتظار غودو: حياة الشاليهات

كنا حوالي ١٢ شخصاً بين رجل وشاب ومراهق في شاليه واحدة مكونة من غرفتي نوم وصالون كبير، وشرفة كبيرة ومطلة على البحر مباشرة. بدأت حفلة التعارف بين الأشخاص تباعاً، وسؤال التعارف الأبرز كان إلى أين تنوي طلب اللجوء ولماذا؟ وما فائدة هذا البلد عن ذاك؟ وأيها أكثر دفئاً؟ … الخ.  ثم أخرج كل منا صرّة أكله وأخذ يعزم الآخر. فاجأنا أبو دلامة وأخوه أبو نزير بإبريق الشاي الكهربائي، الذي رافقنا طول الرحلة، لكنه ظل من دون استعمال في المركب، وإنما اقتصر الأمر على تعبئته للمجموعة من قدر الشاي هناك. الغريب بالأمر أن هؤلاء الأشخاص الذين كانوا في ذلك الشاليه هم من أصبحوا فيما بعد شلة المركب، إضافة إلى بضعة أشخاص لا يمكن إلا التوقف عندهم لما قدّموه على سطح المركب.

 

نقطة الانطلاق

يوم 14-6-2014 انطلق من المجمع البحري غرب الإسكندرية عند السابعة مساءً 10 ميكروباصات، في كل منها حوالي 16 راكباً باتجاه الغرب على طريق مرسى مطروح. سرنا مسافة ساعتين ونصف تقريباً. بعدها أخذت الميكروباصات طريقاً جانبياً في حقول القصب، لتتوقف عند نقطة إنزال في مزرعة -حدث في رحلات أخرى الإبقاء على المسافرين في المزرعة ليوم أو يومين قبل الإبحار، وهي نقطة مقفرة فيها رجال مسلحون يضفون على الجو أسباباً أخرى للخوف -سمعنا فيما بعد عن محاولات تحرش بالنساء في رحلات أخرى، حتى أنه وقعت حادثة اغتصاب واطلاق نار- ليتم بعد ذلك إنزالنا من الميكروباصات، وتحميلنا في شاحنتين متوسطتين كما “الأغنام”. وضع المهربون فوقنا شادراً وسارت بنا مسافة نصف ساعة قبل أن تعود الشاحنتان إلى الطريق العام، ثم إلى طريق ترابي يوصل إلى منطقة قريبة من الشاطئ، حيث نزلنا وتجمعنا قرب باب “عزبة”، ليبدأ هناك ماراثون الهرولة باتجاه الشاطئ لمسافة تبلغ كيلومتراً ونصف الكيلومتر، أكثر من نصف المسافة كانت لرمال كثيفة تثقل خطواتنا وأحمالنا، إلى أن وصلنا البحر وغصنا حتى الخاصرة في مضينا نحو مركبي صيد صغيرين كانا بانتظارنا، حمل كل واحد منهما 15 شخصاً (ربما تكون القوارب أصغر مما ذكرت وأكثر عدداً، ويمكن أن ينقلب الواحد منها أثناء عملية التحميل ولكن سرعان ما يتم تجليسه)، ويمكن أن لرجال خفر السواحل الراجلين أن يلقوا القبض على آخر الصاعدين ليسجنوه بضعة أسابيع في سجون مصرية تفتقر الحد الأدنى من الإنسانية. 

في نهاية الماراثون وصلنا مركب صيد يبعد مسافة دقائق في البحر، وهناك جلسنا في انتظار البقية، إلى أن وصلت حمولة مركبنا إلى 150 راكباَ بينهم 65 مراهقاً مصرياً، وكلنا يجلس القرفصاء بسبب ضيق المركب بالأعداد الغفيرة، ويتملكنا الإرهاق والتعب نتيجة الركض والحمولة وعملية التنقل.

 

عشاء “فيتا” 

بعد طول انتظار أبحر القارب بنا وقد اشتد برد الليل في عرض البحر، وزاد من البرد بللنا وتعبنا من الركض فوق الرمال، لنعدّ الدقائق بانتظار الساعتين علهما تنقضيا بسرعة، إلا أن الساعات مرّت وانقضى الليل، ولفحتنا شمس النهار الحادة ونحن من دون سقف يحمينا، ولا مكان لقضاء الحاجة فيما كان الطاقم المؤلف من 4 أشخاص سليطي اللسان يطعموننا الخبز اليابس مع جبنة الفيتا المالحة ويقدمون لنا بعض الماء. 

بدأ بعض الركاب بالتقيؤ على حواف المركب، وأحياناً فوق بعضهم البعض خصوصاً أن كثيراً منهم لم يأخذ حبوب دوار البحر، مضافاً إلى ذلك بكاء الأطفال وتذمر النساء والرجال، وبعد عشر ساعات التقينا بمركب آخر كمركبنا يحمل باقي الركاب.

مرت 32 ساعة، وبعد كثير من اتصالات “الثريا” التقينا بمركب حديدي بطول 28 متراً، لتبدأ عملية الصعود إلى الخلاص، إلا أنها كانت لحظات مرعبة بسبب تلاطم الأمواج مما جعل القاربين يلتصقان تارة وتارة يبتعدان في ارتفاع وانخفاض، لتنزلق قدم امرأة بين القاربين حيث كان يمكن أن تنهرس فيما لو ارتطم القاربان في اللحظة نفسها لكن الحظ كان إلى جانبها، فيما خدش الحظ قدم رجل بحديد المركب.  

 

مركب الخلاص

هو مركب صيد مطلي بلونين أحدهما أزرق إلا أنه لم يوحِ بالأمل أو الرقة أبداً، ربما بسبب صدأ الحديد في نصفه الآخر، أما شكله من الداخل فمؤلف من عنبرين كبيرين، أسفله مخصص لتخزين طعام الطاقم والسمك الذي يتم اصطياده، فيما سطح المركب من الخلف يحمل تلة من الشباك وماكينة كبيرة لرفعها من البحر، وبَكرة كبيرة للجر صدئة بالكامل.

تفصل مؤخرة المركب عن المقدمة ثلاث غرف للبحارة ومطبخ صغير وحمام واحد وممرين، يوجد في المقدمة سلم إلى الأعلى حيث قمرة القيادة التي تتضمن غرفة نوم صغيرة للقبطان، خلفها مؤخرة أخرى للمركب فوق مؤخرة الطابق الأسفل لكنها أصغر منها ولا تغطيها بالكامل، وتحمل تلة من الصناديق الخشبية التي توضع فيها الأسماك عادة.

طاقم المركب مؤلف من قبطان أربعيني و15 بحاراً يتكلمون بلهجة تجمع بين المصرية والليبية، وزعوا علينا الصناديق الخشبية (السحارات المخصصة للسمك) لننام عليها، وانتشرنا في أرجاء المركب، العائلات في الغرف بالأسفل وفي الممرات ومؤخرة المركب، والشباب في المقدمة المكشوفة والمؤخرة العليا المكشوفة أيضاً، وبين جهتي قمرة القيادة.

 

خدمات بلا نجوم

كان الفطور متشابهاَ حيث الحلاوة والمربى مع الخبز الرديء وكذلك العشاء، أو قليلا من الجبن المالح أو مرتديلا مع الخبز الرديء نفسه، وطبعا كل شيء بكميات قليلة. أما الغداء فكان بعد قضاء الليلة الاولى مكوناً من الأرز وفوقه بضع أسماك صغيرة مقلية تشبه السردين (في حال هياج البحر تكون رائحة السمك المقلي من أهم محفزات الإقياء). في اليوم الثاني الكمية نفسها من الأرز لكن مع قريدس الصغير، وقد ساعد البحارة المصريين في تقشيره شاب من اللاذقية يلقب (أبو نادر)، أما في اليوم الثالث فبعض المعكرونة، وفي اليوم الرابع رز مع علب تونة، وفي الخامس كان الغذاء كما اليوم الأول فانتشرت رائحة قلي السمك رغم سوء الأحوال الجوية وبالتالي انتشرت حمى القيئ والدوار، وفي اليوم السادس بعض الجبن مع الخبز بسبب استمرار ارتفاع الأمواج، أما الشراب فكان الماء النظيف بداية وبعض الشاي صباحاً أو عصراً، لكن سرعان ما صار الماء المذاب من الثلج بنكهة الأسماك الزنخة، وأحيانا بنكهة المازوت الذي يُسحب خلال عملية تبريد المحرك بمياه البحر وتصفية المياه من الملح، أما “التواليت” فرفاهية قد تتاح لك مرة واحدة في النهار خصوصاً مع وجود 300 شخص على سطح المركب نصفهم أطفال ونساء وعجائز.

 

حياة المركب

بعد يومين من الإبحار كانت أعراض الغثيان قد بدأت بالانحسار خاصة على سطح المركب، فروائح القلي من جهة ورائحة المرحاض من جهة أخرى تجعل حالة الغثيان مستمرة لدى نساء ومراهقين في الغرف وممرات المركب السفلى، لكن المشكلة الكبرى على سطح المركب هي حدة الشمس في النهار والرياح الباردة في الليل، فحاول الشباب الاحتماء من برد الليل بالأغطية والاقتراب من بعضهم البعض، والاحتماء من شمس النهار باستعمال تلك الاغطية كواقيات شمس بعد تعليقها على الأعمدة، إضافة الى الاحتماء في الأماكن الظليلة، وإن كان يجب التناوب على هذه الأماكن إلا أن أنانية البعض كانت قد حالت دون ذلك، وأنا واحد منهم، وذلك لاحتراقي بأشعة الشمس في المركب المتوسط، وهذا لا يعد عذراً بطبيعة الحال. 

كان البعض يقضي وقته بلعب الورق، والبعض بالغناء، فكابي أبحر بصوته الشجي، وساعدته أحياناً، وكذلك أبو عبدو وأبو كاسم وأحمد وسامي، أو بقراءة الشعر، والبعض اشتهر بالخطابة الدينية والقصص المروية كسامي ابن مدينة نوى حتى أنه لُقّب بالشيخ سامي، وكان هناك شابين مع عائلتيهما هما أبو نادر وقريبه أبو خالد من مدينة اللاذقية، يساعدان العوائل في أسفل السفينة، بعد أن عجز رجالهم عن مساعدتهم بسبب الدوار الذي نال من بعضهم وقلة مروءة بعضهم الآخر، فيما كان المراهقون المصريون أقل حظاً من الباقين، فقد تحملوا حرارة الشمس وبرودة الليل بلا أغطية، ومن الملاحظات في هذه الرحلة وفي رحلات مشابهة، بأن الأطفال دون عمر التاسعة لا يصابون بتاتاً بدوار البحر، ولا أعرف السبب العلمي لهذه الحالة على وجه الدقة. 

 

6 أيام إلى اللا مكان !!

بعد يومين من الإبحار اكتشفنا بأننا على مركب مؤقت لأن المركب الذي يفترض أن يقلنا لم يأتِ بعد، فتم الاستنجاد بهذا المركب ريثما يتم تأمين مركب آخر لنا، ولانتظار المركب الجديد كان القبطان يزجي الوقت في الإبحار بالمياه الدولية بين مصر وليبيا رائحاً غادياً، وفي اليوم الرابع لصعودنا على متنه اتجه إلى نقطة بين مرسى مطروح والحدود الليبية لنرى ليلاً المركب الذي يفترض أن يوصلنا الى إيطاليا. مركب خشبي بطول 17 متر وعنابر صغيرة قيل إن المراهقين المصريين سيوضعون بها، وسطح يحوي قمرة قيادة مع حمام صغير، ويغطي مؤخرة المركب سطح رقيق لا يحتمل ثقل أكثر من عشرين شخصاً، وتحت قيادة ثلاثة بحارة مراهقين.

رفضت مع بعض المهاجرين صعود 300 شخصٍ على سطح هذا المركب، لكن آخرين قبلوا لأنهم كانوا يخشون الرجوع ودخول السجون المصرية، وعلى رأسهم كان “الشيخ سامي” مستغلا خطبه الدينية في إقناع الناس، فتعهد القبطان نتيجة اعتراضنا أن نبقى على متن مركبه لغاية الوصول قريباً من المياه الإقليمية الإيطالية، ومن هناك نستقل المركب الصغير ويبتعدـ فيما نطلب نحن النجدة عن طريق هاتف الثريا لتصل البوارج البحرية الإيطالية بعد ساعتين أو ثلاث، ومن لا يريد منا النزول يرجعه معه.

وافقنا على مضض بعد أن حاولنا إقناعه بأن نبقى على متن قاربه ويسلمه، ولكنه رفض متحججاً بعدم استعداده لتسليم مركبه وبحارته، لكن السبب الأساسي على ما أعتقد هو أن المهرب الأكبر “الدكتور” لا يسلم مركباً كبيراً يساوي مليون جنيه مصري اذا لم يكن عدد ركابه يتجاوز الـــ 600، وعلى اعتبار أن هذا العدد لم يتأمن فقرروا نقلنا على مركب صغير.

اليومان الأخيران على متن القارب الحديدي كانا سيئين للغاية، فالأمواج وصلت قرابة 4 أمتار وسرعة الرياح شديدة، فعاد دوار البحر مع الغثيان وحالات الإغماء بسبب المياه السيئة، وبعد مزاعم عن اقترابنا من المياه الإقليمية الإيطالية نزلنا أخيراً بعد هدوء البحر إلى المركب الصغير، ولكن كان مؤشر الـ GBS على هاتفي وهاتف الدكتور فراس يشير إلى أننا جنوب جزيرة كريت، أي على بعد أميال كثيرة من الحدود الإقليمية الإيطالية. 

حاولت إقناع الناس بعدم النزول ولكن سبق السيف العذل، وكان امتعاض البحارة منا واضحاً تماماً.

(يتبع في العدد المقبل)

________________________

صحفي وكاتب من سورية

 

الصورة من أعمال التشكيلي السوري اسماعيل الرفاعي

*****

خاص بأوكسجين