مونولوج
كانت أعضاؤكَ تنقصُ بينما يُظلِّلني طائرٌ من قماش.
انثرْ له حبوبكَ على الأرض. دعْهُ يتلقطها بمنقاره.
نجني..
رافقني الطائر طيلة الطريق، ووقف على كتفي حين تغمّدكَ التراب.
هل رأيتَهُ؟
أقسم بأنه طار من ثوبها حين تعرّت، وبقي يحوم قرب السقف وأنا أتلقّط مساماتها.
لم يغرّد.
قيل إن الخياط تركه يغرّد لستّة أيّام، وفي السابع سأله بحزم أن يصمت، فصمت، وحينها واراه في نسيج ثوبها.
أُقسم أنه يُحلِّق الآن فوق رأسي.
ناجيتُكَ.
لم تجبْ، بل ابتسمتَ ابتسامتَكَ تلك، التي تطفو متى خذلكَ أمرٌ ما، فتهزأ به، وها هي الحياة برمّتها تخذلكَ، ولا تبالي.
وقتٌ طويلٌ أمضاه الخيّاط في صُنع الثوب، عرفتُ أنه أصبح جاهزاً من دون أن يتّصل بكَ، سألتني أن أُحضره وأوصله لهدى.
– هدية بلا مناسبة تعني أنها هي المناسبة.
تلعثمتْ. وما توقّفتْ عن الكلام كما لو أنها تردِّد مونولوجاً:
– هذه مناسبة تتفوّق على عيد ميلادي..
وصارت تضحكُ بصخب، ثم قالتْ لي:
– غادر الآن. دعني أحتفل؟
لم تخرجْ منها الألحان. سمعتها تردّد كلمات غريبة، مِن تلك التي يستخدمها الشعراء الغابرون، ولم يكن من جامع بينها سوى جزالتها المتناقضة تماماً، ورقّتها.
حينها عرفت أنها عاشقة. أنتَ قلتَ لي إن الحبّ مونولوج، كلٌّ يكلّم نفسه، فيُنصتُ الآخر.
أنا أُنصتُ الآن.
أنا أتنصّتُ.
أقرع الباب مجدّداً.
لا تفتح.
أكرّر قرعَ الباب بإلحاح أكبر، تصرخ من خلف الباب:
– ارحلْ.. اتركني..
قلتُ:
– الثوب منه.. أنا أوصلتُهُ فقط.
– هو منكَ. هو أراد له أن يكون منكَ، يا سافل.
أيقظ نعتي بالسافل كلّ ما هربتُ منه منذ زمن طويل، أيقظ المحظور برمّته، مرّ الداكن والمشرق متداخلَيْن، متواشجَيْن، وعادت قَدَمَاي واهنَتَيْن، وقد كنتُ قوّيتُهما بألا تحفلا بأثقال القلب، عادت هدى تتلألأ في سمائي الموحشة، وبيني وبينها بابٌ تافه.
هُرعتُ إلى المستشفى. وصلتُ غرفتكَ، وكان السرير شاغراً، والغرفة مُلمَّعة، ما من أثر يدلُّ عليكَ، على أهبة الاستعداد لاستقبال مريض آخر، لا يراد له أن يستشعر موت مَنْ كان يشغلها قبله.
هل متّ؟
أحيتكَ الممرضة:
– لقد ذهب إلى البيت..
قلتُ:
– الموت مونولوج أيضاً..
استغرقتُ طويلاً في الطريق إليكَ. كانوا يُشيِّعون الشهداء، والمُشيِّعون يثقبون السماء بالرصاص.
ستُمطر لا محالة، لابد أن يتسرّب شيء من السماء، لقد أُصيبتْ بعدد لا متناهٍ من الطلقات، وصعدتْ إليها تلك الأرواح كلها.
أمطرتْ. شغّلتُ المسّاحات.
المسّاحات كما المنوّم!
قالت لي يوماً أمّي:
– كان أبوكَ يضعكَ في سيّارته، يشغّل المسّاحات سواء هطل المطر أم لم يهطل، تُحرِّك رأسكَ معها، تنام..
أنا مُنوَّم مغناطيسياً الآن.
اجتزتُ الحواجز كلها.
وصلتُ بيتكَ.
الحديقة مُهملةٌ. الباب الحديدي موارب، كذا الباب أمامي، وهو يقودني إليكَ على هدي النحيب.
كان نجدت ينتحب في حضنكَ، وكنتَ جالساً على رأس طاولة الصالون المترامية، وعلى جبهتكَ لاصق أسود، ينزل مائلاً على عينكَ اليمنى وصولاً إلى وجنتكَ، محدّقاً بثبات بالباب، كما لو أنكَ وحدكَ لا تسمع نحيباً ولا نعيقاً.
استقبلتَني بابتسامتكَ. بادلتُكَ الابتسام. انتقلتَ إلى الضحك حين رأيتَ اللاصق، فصرتَ تضحك، وصارت ضحكاتنا تمتزج ونحيب نجدت، الذي انتفض كالملسوع، وصار يصرخ مخاطباً إيّاي:
– سيموت، سيموت!
وأنا كنتُ مأخوذاً باللاصق الأسود، وقلتُ لكَ:
– متْ، وسأضعها على صورتكَ!
زاد ذلك من ضحككَ، وأنا أيضاً واصلتُ الضحك، لكن منسوبه لديّ صار يقلّ، وأنا أستوعب ما قاله نجدت!
– هل ستموت؟
رحتَ تتلقط كلماتكَ، وأنتَ تُخفِّف من صخب الضحك..
– لم يبقَ.. لديّ.. أعضاء..
انحسرتْ آخر موجات الضحك، فأضفتَ:
– أفكّر بالأمر! يكفي ما عشتُ!
تلفتُّ حولي مرَّتَيْن أو ثلاثاً، كانت المزهرية على ما هي عليه فوق البيانو وباقة النرجس اليابسة فيها. وكان نجدت ينظر إليّ بثبات وإلحاح، يطالبني بأن أقول شيئاً، وأنا حسبتُها كما في كل مرّة محض كلام.
– ما هذا الذي على الطاولة؟
– كما ترى!
رأيتُ كرّاساتٍ زرقاءَ متشابهةً تماماً موضوعةً فوق بعضها البعض، وأقراصاً مدمجةً، وألبوماتِ صور، ومصنّفات مليئةً بالأوراق.
– هل يمكن؟
– هي لكَ؟
– لي؟
ما إن قُرع الباب حتّى اكتشفتُ أني أوصدتُهُ خلفي.
هدى هنا! من أين دخلتْ؟
ما تحرّك الباب، ما انفتح. سمعتُهُ يُقرَع فقط.
لقد انتهتْ من احتفالها، وارتدتِ الثوب، والطائر مستكين تماماً في منتصفه منتصفها. وقفتْ بيننا، نظرتْ إليّ، ثم إليكَ. حين جلستْ على الكرسي، أدركتْ أن زمناً طويلاً مرّ وأنا واقف على قَدَمي. جلستُ إلى الطاولة مقابلها، ونزعتَ أنتَ الشريط الأسود عن وجهكَ، وأنهيتَ حدادكَ على نفسكَ.
تنَّفستُ الصعداء.
انقضى أمر موتكَ.
كنتُ أحدِّق في رأس طائرها القماشيّ، وما بدا منه من فوق الطاولة، والسؤالُ ينحت أعماقي وأعضائي: هل سامحتْني؟ هل نسيتْ؟ وصرتُ أنظر إليهما، كما لو أني أخاطبهما، هي وطائرها، وبدتْ نظرتها مُشجّعة لأسألَ جهراً، وأنظاركَ موجّهة نحوي، كما لو أنها غير موجودة.
بدّد نجدتْ جهودي كلها، ذكّرنا صوتُهُ بوجوده، الأداةُ الوحيدة التي تدلّ عليه، ومضى يقول مجدّداً:
– سيموتُ، سيموتُ!
لم يطلْ مكوثها طويلاً.
خاطبتْني قائلة:
– أَخبرْني حين يموت!
لوّحتْ لكَ قبل أن تخرج من الباب مسرعة، لكنكَ لم تبادلها التلويحة بمثلها، لم تُبدِ ما يشي بأنكَ رأيتَهَا تغادر. هل أدركتَ مجيئها لتفطن لذهابها؟
ما تحرّك الباب، ما انفتح، ما وُورِب.
نهضتُ لألحقَ بها. أمسكتَ يدي، استبقيتَني.
هنيهات، ونهضتَ عن كرسيّكَ قائلاً:
– أريد أن أنامَ قبل أن أموتَ..
كنتُ سأقول لكَ الموتُ نومٌ أيضاً، لكنكَ سبقتَني، وقلتَ:
– عسى أن أموتَ وأنا نائم، مضى زمنٌ طويل لم أنمْ فيه نوماً عميقاً..
صارت تتردّد موسيقا باغنيني من غرفة نومكَ في الطابق الثاني. يبدو أنكَ تركتَ بابها مفتوحاً. نظرتُ حولي، فإذا بنجدت واقفٌ قريباً منّي، تأكّدتُ للمرّة الألف أنه شبحٌ. حدّقتُ فيه، فقال:
– هل تأمر بشيء؟
– ويسكي، فقط ويسكي!
صرتُ أقلّب الكرّاسات. ظهر خطُّكَ الأنيق المشدود الواثق، فتفحصتُهُ من دون الكلمات والعبارات. لم أتهجَّ أو ألفظْ شيئاً مما خططتَهُ برونق أرستقراطي.
خطُّكَ يُشبهُكَ، يُشبهُ حياتَكَ، ما من شيء عاديّ إلا صيَّرتَهُ جليلاً فارهاً عاصفاً:
الحزنُ تراجيديا.
الفرحُ كوميديا.
لا تريد أن تتساوى مع مَنْ حولكَ في مأساة عامّة، تختطّ مأساتكَ الخاصّة، تمزج بينهما، تُصيِّرهما أمثولةً، وتُغرقني معكَ.
ثمّ أيّ موت هذا الذي تهجسُ به؟ كلّنا عرضة له في هذه الحرب اللعينة! ألا يكفي انتصاركَ على السرطان، لقد سحقتَهُ سحقاً، حسب تعبيركَ. وسمعتَ الطبيب يقول لكَ:
ما من أحد انتصر في هذه الأيّام سواكَ، لكَ أن ترفعَ رايتكَ على مثانتكَ المُحرّرة من السرطان..
وضع نجدت زجاجة الويسكي على الطاولة. انتفضتُ هلعاً.
– هل تأمر بشيء آخر؟
لم أجبْهُ. لم أُردِ الحديث مع شبح. مضى أم لم يمضِ، لا أعرف! انتبهتُ إلى أن القنّينة من دون كأس. لم أطلبْها منه، صرتُ أعبّ من الزجاجة.
خرجتُ إلى الحديقة.
بحثتُ عن هدى وأنا متأكّد من أنها ذهبتْ. تفقّدتُ الأشجار العارية عسى طائر ثوبها حطّ على غصن من الأغصان!
هل يغرّدُ لأستدلَّ عليها؟
كيف له ذلك والخيّاط ألزمَهُ الصمتَ؟
هل سامحتْني؟ هل نسيتْ؟
أن أراها مرَّتَيْن في اليوم ذاته شيء لم يحصلْ منذ زمن. لا بدّ من سبب لذلك.
هُرعتُ عائداً إلى البيت.
ركضتُ صاعداً الدرجَ إلى غرفة نوم إبراهيم.
_________________________________
الفصل الأول من رواية “كلاب المناطق المحررة” الصادرة أخيراً عن “منشورات المتوسط” في ميلانو.
*****
خاص بأوكسجين