من رواية “تزوّجتُ شيوعيّاً”
العدد 241 | 03 شباط 2019
فيليب روث


…. بين حين وآخر، أعود بذاكرتي وأُفكِّر في حياتي كأنّها خطاب طويل كنتُ أستمعُ إليه. أحياناً يكون الخطاب أصليّاً، ممتعاً، وأحياناً قذارة زائفة (خطاب شخص مجهول)، وأحياناً مسعوراً، أحياناً واقعياً، وأحياناً أشبه بشوكة أو إبرة حادّة، واستمعتُ إليه فترة طويلة بقدر ما أتذكّر: كيف أُفكّر، كيف لا أُفكِّر؛ كيف أتصرّف، كيف لا أتصرّف؛ مَنْ أحتقر ومَنْ يُثير إعجابي، ماذا أعانق ومتى أهرب؛ ما هو الجذل، وما هو الجدير بالثناء، وما هو الحل، وما هو الشرير، وما هو التافه، وكيفَ أبقى نقيّاً في الروح. يبدو إنَّ الحديث معي لا يُشكّل عائقاً لأي شخص. ربما هذا نتيجة تجوالي على مدى سنين أبدو كأنني أبحث عمَّن يتحدث معي. ولكن كائناً ما كان السبب، فإنَّ كتاب حياتي هو كتابٌ من الأصوات. وعندما أتساءل كيف وصلت إلى حيثُ أنا، والجواب يُفاجئني: إنّه “الإصغاء”.

   أيمكن أنَّ ذلك كان الدراما الخفيّة؟ أكان كل ما تبقّى حفلاً تنكّرياً يُخفي السوء الذي كنتُ مُنهمكاً به بعناد؟ والإصغاء إليهم، الإصغاء إلى أحاديثهم. أي إلى الظاهرة الجامحة الصِرف. إلى كل شخص يفهم التجربة ليس بوصفها شيئاً يجب اكتسابه بل كشيء يجب اكتسابه من أجل التحدُّث عنه. لماذا؟ لماذا يُريدون مني أنْ أُصغي إليهم وإلى أناشيدهم؟ أين وُضِعَ قرار استخدامي هكذا؟ أم أنني كنتُ كذلك منذ البداية، بالميل كما بالاختيار، كنتُ مجرد أُذُنٍ تبحث عن كلمة؟

   قال لي ليو ” إنَّ السياسة هي المُعمِّم الأكبر، والأدب هو المُميِّز الأكبر، وليسا فقط على علاقة متعاكسة فيما بينهما – إنَّ الصِلة بينهما عِدائيّة. بالنسبة إلى السياسة، الأدب شيء منحطّ، رخو، لا لزوم له، ومُضجِر، وعنيد، وبليد، ولا معنى له ولا ينبغي أنْ يوجَد. لمَ؟ لأنَّ دافع التعميم هو الأدب. كيف يمكنك أنْ تكون فنّاناً وتُنكِر الرهافة؟ ولكن كيف يمكنكَ أنْ تكون رجل سياسة وتسمح بوجود رهافة؟ إنّ مهمّتكَ كفنّان هي إبراز الرهافة. مهمّتكَ هي ألّا تُبسِّط الأمور. وإذا اخترتَ أنْ تكتب بأبسط الأساليب، بأسلوب هيمنغواي، تبقى المهمّة هي إضفاء الرهافة، وتفسير التعقيد، التلميح إلى التعقيد. ليس محو التعقيد، وليس إنكار التعقيد، بل أنْ ترى أين، داخل التعقيد، يكمن الكائن البشري المُعذَّب. أنْ تسمح بحدوث العماء، للسماح له بالوقوع. يجب أنْ تدعه يحدث. وإلّا فإنَّ مَا تُنتجه هو دعاوة سياسيّة، إنْ لم تكن لصالح حزب سياسيّ، لحركةٍ سياسيّة، فهو دعاوة سياسيّة غبيّة للحياة نفسها – للحياة كما ربما تُفضِّل هي أنْ تُعرَف. خلال السنوات الخمس، أو الست الأولى من الثورات الروسيّة هتف الثوريون، “حبٌ حرّ، سوف يسود الحب الحرّ! “، ولكنْ حالما استلموا السُلطة، لم يتمكنوا من السماح به. إذ ما هو الحبّ الحرّ؟ إنّه العماء. وهم لم يكونوا يرغبون في انتشار العماء. فليس من أجل هذا صنعوا ثورتهم المجيدة. إنهم يريدون شيئاً مُنضبطًا بعناية، مُنظَّماً، قابلاً للتوقُّع بأسلوبٍ عِلميّ، إذا أمكن. إنَّ الحبّ الحرّ يُشوِّش التنظيم، ويُخرِّب ماكينتهم الثقافيّة، والسياسيّة والاجتماعيّة. والفن أيضاً يُشوّش التنظيم. والأدب يُشوِّش التنظيم. ليس لأنَّ مواقفه ليست مع أو ضد بشكلٍ صارخ، أو حتى مع أو ضد برهافة. إنّه يُشوِّش التنظيم لأنّه ليس تعميميّاً. إنَّ الطبيعة الجوهريّة للتميُّز هي أنْ يكون متميِّزاً، والطبيعة الجوهريّة للتميُّز هي رفض التكيُّف. إنْ تعريف الشيوعيّة هو: تعميم المُعاناة. والأدب هو: تخصيص المُعاناة. بذلك الاستقطاب تكمن العِدائيّة. وفي الحِفاظ على حيويّة التخصيص في عالمٍ يُبسِّط، ويُعمِّم تبدأ المعركة. لستَ مُضطراً إلى الكتابة لكي تُشرِّع الشيوعيّة، ولستَ في حاجة إلى أنْ تكتب لكي تُشرِّع الرأسماليّة. فأنت خارج الاثنين. إذا كنتَ كاتباً فلن تتحالف مع هذه ولا مع تلك. نعم، أنت ترى الفروق، وحتماً ترى أنَّ هذا الهراء أفضل قليلاً من ذاك، أو أنَّ ذلك أفضل قليلاً من هذا. لعلّه أفضل بكثير. لكنّكَ ترى الهراء. أنت لستَ موظّفاً حكومياً. ولستَ متعصّباً. ولستَ مؤمناً. أنت شخص يتعامل بأسلوبٍ شديد الاختلاف مع العالم ومع ما يحدث في العالم. إنَّ المُتعصّب يُنتِجُ إيماناً، إيماناً كبيراً سوف يُغيِّر العالم، والفنان يُنتجُ سلعة لا مكان لها في العالم. لا فائدة منها. إنَّ الفنان، الفنّان الجادّ، يُنتجُ إلى العالم شيئاً لم يكن موجوداً من قبل حتى من البداية. وعندما خلق الله كل تلك لأشياء في سبعة أيام، الطيور، والأنهار، والكائن البشري، لم تتوفر لديه عشر دقائق يُخصّصها للأدب، “ثم كان الأدب. بعض الناس سوف يُحبّونه، والبعض الآخر سوف يُمسّون به، ويُريدون إنتاجه…”. كلا. كلا. هو لم يقُل ذلك. ولو أنّك سألتَ الله حينئذ، “هل سيكون هناك سمكريون؟”، “نعم، سوف يكون. لأنّه سوف يكون لديهم منازل، وسوف يحتاجون إلى سمكريين”، “وهل سيكون هناك أطبّاء؟”، “نعم. لأنهم سوف يمرضون، وسوف يحتاجون إلى أطباء ليصفوا لهم بعض الأقراص”، “والأدب؟”، “الأدب؟  عمَّ تتكلَّم؟ ما فائدة هذا؟ ما موقعه؟ أرجوك، أنا أخلقُ كوناً، وليس جامعة. ليس أدباً”.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

رواية ” تزوّجتُ شيوعيّاً ” لفيليب روث سوف تصدر عن دار المدى في موسم عام 2019.  

*****

خاص بأوكسجين

 

 


مساهمات أخرى للكاتب/ة: