شرعتُ في كتابة هذا الدليل والوقائع محاولاً ألا أتبيَّن تاريخ اليوم الذي أنا فيه!
بدا الأمر ممكناً وأنا أكتب في دفتر صغير! نعم كان ممكناً، طالما أن القلم مستسلمٌ لإبهامي وسبابتي، وما أمامي من أوراق تستقبل ببياض ناصع ما أخطُّه عليها، تارةً يعجبني، وأخرى لا يعجبني. أكتب على هذه الصفحة، وأخربش على أخرى. أكتب مقطعاً له سياقٌ متماسك ومتسق، ثم أكتب عبارات خبط عشواء وكيفما اتفق!
حين انتقلت إلى شاشة الكمبيوتر بات تجاهل الزمن أمراً مستحيلاً. تاريخ اليوم والساعة وكل متعلقات الزمن حاضرة يمين أسفل الشاشة! أكتب والساعة على دأبها تمرر الثواني والدقائق والساعات.
ليكنْ!
إنها محض أرقام!
أعود وأردد بثقة مطلقة: إنها محض أرقام، وكل ما يحمله كتاب أوكسجين الذي بين أيديكم يصرخ بذلك، فهو أولاً يهزأ بالزمن ولا يأبه به، ويتخذ منطقاً مغايراً لمنطقه، ضارباً عرض الحائط بمساره ونسقه، وهو يحوِّل الماضي إلى حاضر، ويعود بالزمن ليمضي به قُدُماً، مأخوذاً بعاطفةٍ قوية، ومشاعرُ تبدو للوهلة الأولى مشوشةً من شدّة اتساقها، كتلك التي يثيرها عصفورٌ صغير ملوّن، تحيطه بيديك هلعاً، تريد أن تطبق عليه جرّاء جماله، وكلك خوف أن تهصرَه من شدّة الحب.
إنّ العاطفة القوية تلك، والتناقضات البهية التي يثيرها الجمال والحب، منفصلةٌ عن الزمن، وفيها من القوة ما يجعلها عصيَّةً عليه، وهي بذلك تخلق منطقها، منطق كتاب أوكسجين الخاص، فهو ينقل تجربة موقع أوكسجين من الإلكتروني والشاشات التي لا يفارقها الزمن إلى الورقي، على عكس السائد، والتبشير اليومي بانقراض الورقي. وهو أيضاً الكتاب/المجلة، المجلة/الكتاب، فالمحتوى كاملاً من مجلة أوكسجين الإلكترونية، ومنتقىً من مواد الأعداد العشرين الأولى (من 218 مادة من دون الترجمات وهي 22 ترجمة) الصادرة عام 2005، وقد قمت بتنسيقها وترتيبها وتبويبها هنا متبعاً هيكلية كتاب سردي وشعري أوكسجيني، كل فصل يتضمن عدداً من المواد اجتمعت تحت عنوان واحد، ولنكون في النهاية أمام كتابٍ متكامل ومتناغم من تأليف أوائل من خاضوا هذه التجربة ومحترفها الإبداعي المتواصل حتى تاريخه.
وهكذا، فإن هذا الكتاب يستعيد ما مرّ عليه أكثر من 17 عاماً، وتوصيفه بأنه وثيقة جمالية تاريخية لا يفيه حقه، بل هو تجسيد لصراع الجمال مع التاريخ، وانتصار الأول على الثاني، ودليلي الوحيد على ذلك هو ما ستقرؤون فيما يلي، فوصف العاطفة المهيمنة على هذا الكتاب بالقوة آتٍ أيضاً من قوة الحلم الذي تأسستْ عليه مجلة أوكسجين، من قوة ما اجترحته للتعبير عن الحياة، وتقديم سردية خاصة بها، مجسدةً بيانها الأول:
تتطلبُ القدرة على الحلم وبناء التطلّعات والامتثال للجسد والطفولة والبراءة، إلى جرعاتٍ كبيرة من المشيئة، وانحيازٍ للمساحات التي تتسع لأحلامنا وتطلعاتنا ورغباتنا وحواسنا وشهواتنا.
ليس هرباً، بل لجوءاً مؤقتاً إلى واقعٍ افتراضي، نفترض من أرضه الافتراضية على أملٍ أو شقاء أننا معاً سنمنحه واقعه ووقعه وصوته: ناشذاً، متسقاً، مضطرباً، متلعثماً، صارخاً، هامساً، هادراً، لكنه يؤسس ويتأسس، ويعاود من حيث تهدّم بأسسٍ جديدة لنزوعٍ لا رادَّ له نحو الحرية، نحو الإبداع، نحو حرية الإبداع، وإبداع الحرية.
إنها هامشٌ بعد أن سحق المتْنُ كل الهوامش، واتسع وتضخم وتمادى بحيث لم يترك ذرّةَ أوكسجين واحدة لمن ينتوي أن يتنفس بحرية.
ليس لنا علاقةٌ بأحد، ولا نكنُّ بالولاء إلا للحياة والحرية والإبداع، ولا نعتمد في تمويلنا إلا على أنفسنا… إنها ومجدداً أرضٌ افتراضية نزرعها معاً وننتظر.
إنّ كل كلمة وردت في هذا البيان الصادر في 19 حزيران/يونيو 2005، ظلّت الحقيقة المهيمنة على كل ما نُشر في أوكسجين، ابتداءً من العدد الأول وصولاً إلى آخر عدد صادر وأنا أكتب هذا الدليل، ولعل التغيير الذي يحدثه هذا الكتاب ماثل بأن الأرض الافتراضية ستمسي ورقية، وبالتالي الانتقال إلى وسيط آخر، كما هو الحال عند الانتقال من المكتوب إلى المرئي أو من الشفاهي إلى الكتابي، ما استدعى بناء تصور كامل يؤسس لكتاب واحد من تأليف جماعي، فصوله متناغمة ومكملة لبعضها البعض، مستبعداً الاختيار من الترجمات التي لم يكدْ يخلو منها عدد من الأعداد.
———————–
مقتطف من مقدمة كتاب أوكسجين 1 الصادر أخيراً عن “محترف أوكسجين للنشر.”
*****
خاص بأوكسجين