في مقال نشره الصحفي ستيفن سباركس على موقع “مراجعات الأدب الغرائبي” بتاريخ 14 يونيو 2014 يُوصَـف الروائي والناقد والمترجم والصحفي الفرنسي مارسيل شواب (1867-1905) بأنّه رجل المستقبل. يقول سباركس أنّ تاريخ الأدب العالمي حافل بعشرات الكُتّاب والشعراء الكبار الذين تعرّضوا -أثناء حياتهم- للإهمال أو التجاهل أو النسيان من قبل نقّادهم المعاصرين، لكنّ شواب كان على العكس تمامًا، إذ حظي الرجل بشهرة هائلة وانتشار واسعين على المستوييْن الجماهيري والنقدي أثناء حياته، إلا أنّه تعرّض للإهمال والنسيان بعد وفاته في سنّ مبكرة .
يقول سباركس: “مارسيل شواب واحد من الأدباء الذين تعتقد أنك لا تقرأ لهم، ولكنه وبفضل أعماله المميزة تجده داخل أعمال أدباء آخرين تأثّروا به مثل بورخيس، وأومبرتو إيكو وإيتالو كالفينو وغيرهم. فبورخيس يعترف في أكثر من لقاءٍ أنه كتب مجموعة “التاريخ الكوني للعار” تحت تأثير مباشر من كتاب شواب الشهير “حيوات مُتخيّلة”. وينطبق الأمر ذاته على كتاب المخلوقات الوهمية، وغيرها.
في كتاب “حيوات مُتخيّلة”، وهو كتاب ينتمي إلى جنس الأدب الغرائبي، يرسم شواب في إطار قصصيّ لا يخلو من لمحات رعب وتشويق، حيوات بعض الشعراء القدامى، والآلهة، والسفّاحين، والقراصنة. يتألفّ الكتاب، الذي نُشر في حلقات على صفحات جريدة Le Journalفي الفترة من سنة 1894 حتى 1895، من اثنين وعشرين بورتريه متخيّل لاثنتين وعشرين شخصية، أغلبها تاريخيّ، ومزوّد بصورٍ لحيوات الأشخاص الذين تحكي عنهم قصص الكتاب. يحاول شواب في هذا الكتاب استعادة شخصيات تاريخية مغمورة، ليبعثها في قالب سرديّ جديد، مؤسسًا بذلك لسلالة أدبية جديدة، ظهرت وتطورّت في أوروبا بعد رحيله. حيث نلاحظ تأثرًا واضحًا لدى إيتالو كالفينو بأسلوب شواب القصصي في روايتيه “مدن غير مرئية” و”قلعة المصائر المتقاطعة”. لمارسيل شواب دراسة صغيرة حول تاريخ الكتب المفقودة، (لم أعثر على ترجمة كاملة للدراسة إلى الغة الإنجليزية)، حاول فيها استقصاء تاريخ المؤلّفات العظيمة التي فُقِدت على مدار التاريخ، مُحاولًا استعادتها أو تخيّل مضمونها، وهي الفكرة التي كرّس لها أومبيرتو إيكو أغلب أعماله، أعني موضوع الولع بالكتابة عن أعمال مفقودة (كما في رواية اسم الوردة والجزء المفقود من كتاب أرسطو “فن الشعر”، وهو الجزء المتعلق بالكوميديا)، أو بتقصي تاريخ كتابٍ تحوم حوله الشبهات التاريخية (مثل بروتوكولات حكماء صهيون في رواية مقـبـرة براج)، أو بتأليف كتاب منحول، يكتبه ثلاثة أصدقاء بهدف تزجية أوقاتهم (كما في رواية بندول فوكو).
في أدب مارسيل شواب ملمح آخر مهم؛ وهو رغبته في تحويل الكتابة إلى وسيلة لردّ الجميل، أو دربًا لاستعادة المفقود، فيصير الأدب هجمة مُرتدّة ضد فعل الموت، وتصبح الكتابة ترجمة وفيّة لرغبة الإنسان الأزلية في القيام برحلة إلى عالم الموتى لاستعادتهم إلى عالم الأحياء، على نحو ما فعل دانتي آليجيري في الكوميديا الإلهية، التي كتبها بأجزائها الثلاثة الضخمة المعقّدة ليستعيد لمحةً من معشوقته بياتريس. فالحصول على نظرة عابرة أو ابتسامة خاطفة مِـن الراحلين مسألة شاقّة، لكنها جديرة بالتعب والمغامرة. يتجلّى ذلك بوضوح في رواية شواب “كتاب مونيل”، التي نُشرت للمرة الأولى سنة 1894، فاعتبرها الوسط الأدبي وقت ظهورها “إنجيل المذهب الرمزي” الجديد في فرنسا، وأشاد بها أدباء كبار من أمثال أندريه جيد وألفريد جاري، ثم صدرت ترجمتها إلى الإنجليزية سنة 2012 عن دار Wakefield.
تضرب هذه الرواية على الوتر المحبّب إلى نفس شواب؛ فهي خليط من الأحلام والحكايات الخرافية والشذرات التأملية. إلا أنها تحاول اختصار غاية الأدب، بأنه محاولة لاستعادة المفقود من خلال الكلمات، التي تبقى بعد مَـن كتبها ومَـنْ كُتِبتْ عنه. الجميل أنّ محاولة الاستعادة نفسها لا تُستكمَلُ دون تجربة، ولا دون رحلة، وهو ما حققه شواب في الرواية. أصل القصّة حقيقيّ، وهي إعادة تخيّل لعلاقة شواب بفتاة ليل اسمها لويزا، كان قد تعرّف إليها سنة 1891 وهام بحبها قبل وفاتها بين ذراعيه بعد فترة قصيرة من معرفـتـهـما. يُحاول شواب في الرواية إعادة حبيبته المفقودة إلى الحياة من خلال ثلاثة فصول.
أسماء الفصول بالترتيب: كلمات مونيل، وأخوات مونيل ومونيل. الفصول الثلاثة أنشودة رثـاء مُهداة إلى الحبيبة المفقودة؛ فالفصل الأول قصيدة طويلة، تعثر فيها مونيل على السارد (شواب) بمحض الصدفة، فـتحدِّثه عن دور فتيات الليل البريئات في إسعاد البشر، مُـسـتـدعــيةً شخصية “سونيا” من رواية الجريمة والعقاب لدوستويفسكي للتدليل على نُبل موقفها، أو ربما هو تبرير قدّمه شواب لمسلك محبوبته في الحياة، ففتيات الليل ملائكة مثلهن مثل الممرضات أو الأمهات اللاتي ترعــيـن أبناء غيرهنّ.
في الفصل الثاني من الرواية يحكي شواب، دونما التزام بحبكة أو تسلسلٍ سرديّ، قصصًا شعبية خرافية تشبه حكايات السندريلا وحكايات الأخوين جريم، وهي حكايات متشظية، لا رابط بينها، ولا تهدف سوى للتسرية عن مونيل/لويزا وإسعاد أوقاتها. وفي الفصل الثالث تظهر مونيل من جديد في دور بائعة مصابيح، تعيش وسط مجموعة من الأطفال، لا يفعلون شيئًا سوى اللعب، تاركين العمل والشقاء جانبًا. الفصل رمزٌ واضح للطفولة التي انتهتْ إليها مونيل أو لويزا.
في ختام الرواية يكون الموت هو النهاية الطبيعية المحتومة؛ فيختتم شواب روايته بالكلمات التالية:
“..وصلتُ مكانًا مظلمًا وضيقًا، لكنه مفعم بروائح البنفسج الحزين. لم يكن أمامي سبيل لتحاشي الوصول إلى ذلك المكان الذي كان أشبه بمـمـشى طـويل، مرّرتُ بأناملي على وجه كنتُ أعرفه يومًا، بدا له الوجه غارقًا تحت أطراف أصابعي، عندها صرتُ على يقين أنني عثرت على مونيل.. نائمة وحدها في هذا المكان المُظلم.”.
يقول مترجم الكتاب كيت شولتر في مقدمّة الرواية: ” لقد علّمتـه المعشوقة المفقودة مونيل أن يرى الحياة من منظور مختلف، أن يعثر على السعادة الحقيقية في القصص والحكايات وفي لُـعـب الأطفال. علّمته أيضًا، ربما دون أن تنطق كلمة واحدة، أنّ الأكاذيب البريئة التي نؤمن بها في الطفولة (يقصد الحكايات) ليست مضلّلة ولا مؤذية، بل نافعة ومُـبـهـجـة، وأنّ اليقين الذي نظن أنفسنا قد بلغناه في مرحلة النضوج، هو الشيء المؤذي بعينه، هو الشيء الذي لا طائل من ورائه”.
*****
خاص بأوكسجين