مجدرة
العدد 169 | 21 آذار 2015
سهى عواد


إنه يوم الجمعة. وضعت الطنجرة على النار، ثم القليل من الزيت. أتناول البصل المقطع مربعات صغيرة وأنزله إلى الطنجرة، ثم أقلّبه بملعقتي الخشبية.. لقد أسوّد طرفها.. أظنني بحاجة إلى واحدة جديدة. أكتب بأحرف عربية “ملعقة خشبية” على الدفتر الصغير المعلق على باب البراد، إنه دفتر الحاجيات. أو دفتر البقاء. 

في يوم الجمعة، نأكل المجدرة. في يوم الجمعة لا نأكل اللحم، لأن المسيح صلب في هذا اليوم. مجرد عادة قديمة تربيت عليها، تغييرها غير ضروري، على ما أعتقد. أنزل العدس المنقّى والمغسول في الطنجرة. أضع الماء. أغلق الطنجرة. وأذهب لتفقد الغسالة. هذه كهرباء مولدة أم كهرباء الدولة؟ أتساءل قبل أن أضغط زر التشغيل. قبل أن أخطئ، قبل أن أتناول اللحمة، قبل أن أصلب المسيح من جديد، دعوني أوضح المسألة. كهرباء المولدة لن تتحمل الغسالة أما كهرباء الدولة فبلى. في لبنان لم تستطع الدولة أن تؤمن الكهرباء أربع وعشرين ساعة في اليوم، لذلك نلجأ إلى اشتراك المولدة الجزئي. ندفع فاتورتين، نصلب مسيحيين هنا: واحد خاص، وآخر عام، واحد يقوم، وآخر يظل ميتًا. مؤخرا أصبحت مهووسة أمبيرات. أحب أن أعرف كل قطعة كهربائية كم تصرف من “الأمبيرات”. وأجمع عدد الأمبرات وأقارنها بالعشرة أمبير التي يوفرها المولد قبل أن آخذ قرار بتشغيل الآلة أو لا. حسابات كهذه تشغلني كل النهار وأشكر ربي أنني لا أعاني من الوسواس القهري المعروف بالـOCD  فأنا لا أعد البلاطات وأنا ماشية، ولا أقطّع الجمل إلى مقاطع صوتية وأنا أتحدث، ولا أعيد المحادثات في رأسي ،والأهم أنني لا أغسل يدي كلما صافحت أحدا. حسنا في أغلب المرات. أنا أعد الأمبيرات فقط. وأتأمل كم من الطاقة أحتاج لأعيش. كل ما أفعله، أفعله من أجل الكوكب. لا أعرف من أين أتت هذه الفكرة. ربما من حديث جارنا عن توليد الكهرباء من الطاقة الشمسية. ذكر الكوكب وكيف أصبحت حياته مرهونة بالكوكب. يقول زوجي إنه كائن فضائي. وأنا أجده غريبا بعض الشيء. أذكر مرة كان يتحدث إلى أزهاره وهو يرويها. ربما يفعل هذا من أجل الكوكب أيضًا. الجنون في سبيل الكوكب. وكأن الكوكب يرغب في سماع أحاديث بين انسان وزهرة. أتذكر قصة هكذه. قرأتها في المدرسة. تشبه عائلة الكاتب اسم قديس. يتحدث عن علاقة حب بين طفل ووردة. أكثر ما كان يقهرني في القصة كانت الصحراء. لمَ كان على الأمير – أظنه كان أميرا نعم  – أن يحط رحاله في الصحراء. ما هذا الحظ السيء؟! لو حط في مدرسة مثلا أو في بيت فيه أولاد ألم يكن أفضل؟ لو تعرّف على أصدقاء من عمره ألم يكن سينسى الزهرة؟ ولكن القصة ليست هكذا. القصة عن فرادة الزهرة لأنه أحبها. يريدوننا أن نفهم الحب في هذا العمر المبكر وعلاقة الانسان بالزهر والفرادة وكيف أن الثعبان أكل الفيل وأختبأ في القبعة. 

العدس ما زال قاسيا. أغلق الطنجرة. أتذكر أن علّي البدء بالسلطة التي سترافق المجدرة الشهية. زوجي يحب أن يتناول المجدرة والسلطة في الصحن نفسه. أنا لا أجد أن على الأكل الاختلاط ،وذلك حفاظا على خصوصية كل طعم. يحب زوجي أن ينام على شراشف بيضاء أيضا. أما أنا فلا. الملاءات البيضاء مخصصة للمرض والموت. يقول دائما: أعطيني شراشف بيضاء. أريد أن أنام. كيف؟ هل يقول لي هكذا حقا؟ على الأرجح أنني أتخيل. أو سمعت هذه الجملة في مكان آخر. أن يطلب شراشف بيضاء ويستلقي. أن يطلب شراشف بيضاء ويموت. بسرعة أترك الملعة الخشبية من يدي وأذهب إلى غرفة النوم. أزيح الغطاء وأتأكد أن الشراشف بيضاء. ارتاح. أتنفس بهدوء. وابتسم. الشراشف بيضاء والحمد الله. الشراشف بيضاء. أرتب السرير كما كان. أنظر إلى المرآة. ثمة بقعة أزيلها بـ “تشيرتي”. أتأكد من نظافة المرآة أمامي. ابتسم لها. ألوّح. ربما تبتسم لي هي أيضاً. أغلق باب الغرفة ورائي. ويأتي السؤال من جديد؟ ما لون الملاءات يا لمى؟ هل فعلا أبيض؟ هل تأكدت؟ هل الملاءات التي رأيتها الآن هي في غرفتك أم في مكان آخر؟ هل زالت البقعة؟ تأكدي الآن. ادخلي الغرفة من جديد. أدخل الغرفة من جديد. وهذه المرة بدل السرير المزدوج يكون السرير مفرداً، والملاءات حمراء. بذهول تام أنظر إلى المرأة فأجدها تلّوح لي، ولا ابتسم. أخرج فقط من الغرفة. أعود إلى المطبخ وأحاول البدء بتحضي السلطة من دون أن أفكر ما الذي حدث للتو. وأتذكر فجأة أن لا خضار، لا بندورة ولا خيار. كيف تكون سلطة من دون أبوين. سلطة لقيطة. أكتب سلطة لقيطة على دفتر البقاء. وأقرر أن أذهب لشراء الخضار من الخضرجي في آخر الشارع. أخفف النار على الطبخة. أتأكد أنها ستحمل العشر دقائق التي سأذهب خلالها لشراء الخضار عبر زيادة الماء. لا آخذ سوى المفتاح وعشرة آلاف ليرة. أضعها في جيب الجنيز الخلفي. أضع نظاراتي الشمسية وأذهب. 

أنزل درج البناية بسرعة. ألتقي بـ”تانت” رفقا بكنزتها السوداء وفوقها قلادة من ذهب تنتهي بقونة للعذراء. هذه القونة مشهورة جداً بين نساء هذا الجيل، الجيل الذي ولد بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، وقد تكون شعارهم، أو رمزا ما يتبادولنه بصمت، فقط للتأكيد، للموافقة. أنت كنت هنا أيضًا. في هذا المكان، في هذا الزمان، وأنجبت الأولاد و ماتوا وتلبسين الآن الأسود وتضعين هذه القلادة وهذه القونة وتقصين شعرك قصيرا جدا وتدعين كل من تعرفين لشرب القهوة ريثما يمر النهار. أتخيل أحيانا أنهن سيقمن بتوريث تلك القلادات إلى حفيداتهن، وأن الحفيدات سيلبسن تلك الأيقونات وبعض الثياب الواسعة ويقمن بتصوير العديد من “فيديهوات الراب” في المنزل. سأحب أن أرى وجه “تانت” رفقا في هذه اللحظة وهي تترحم على فيروز وعلى اعتبار رثة الشفاه معيار اً للجمال. 

كيفك “تانت” رفقا؟

أهلا. حولي. بسقيك قهوة؟

مستعجلة. بركي غير مرة. 

ليكي كان بدي اسألك، من يومين سمعت صوت غريب عندك بالبيت، كأنو صوت رجال. أنا قلت بدي دق الباب. اطمن. بس رجعت قلت أنو أنا ما خصني. 

ولو يا تانت رفقا بكون زوجي.

آه، ايه زوجك. نسيت أنا. صايرة خرفانة أنا. 

ولا يهمك

صايرة أتذكر اشيا صارت معي زمان متل أختي. خبرتك أنا عن أختي يا سهى؟

يمكن خبرتنيني

أختي كانت كتير حلوة. قمر. كان عندها شعر أشقر حلو كتير، تعملو جدولة. ماتت صيبة عين، كان عمرها 14 سنة، كانت عم ترقص بعرس بالضيعة، عم ترقص ومبسوطة بالساحة، ولابسة أبيض وتبرم وتبرم، وشعرها يبرم وراها. وما لقينها إلى وقعت. أخدتها أمي على البيت، تطلعت أختي بأمي وقالتلها جبيلي شرشف أبيض، بدي نام، وماتت. لما غيرولها تيابها كان في شكل عين كبيرة على صدرها، وعرفنا أنها كانت صيبة عين. 

الله يرحمها “تانت” رفقا 

بس ما عم بتذكر شو كان اسمها أختي 

بكرا بتتذكري. أنا لازم فل. بدي أنزل جيب خضرة. 

أنا بقول هيدا هنري. عيونو زرق وما فاروقها. المحتال. 

باي “تانت” رفقا.                                                                                                                        

أتعجب كيف تذكرت “تانت” رفقا اسم هنري ونسيت اسم أختها. أعتقد أننا نتذكر دائما اسم القاتل قبل اسم الضحية، لأنه هو من قام بالفعل. هو من قام بالحركة، تخيل الفكرة. حمل السلاح. طارد. انتظر. خنق. رمى. اغتصب. طعن. ضغط الزناد. سمم. أشعل. شد شرايين عينيه. ودع الروح في طريقها إلى الخارج. قال: وداعا أيتها الروح. حاول التقاطتها. رأى يديه تنبضان بالحياة، وقلبه يسكر بالأدرينالينن. إنها العنصر الحيوي. الحركة، المبادرة، الخطوة الأولى. كلنا نعرف من هو هتلر مثلا، والقليل جدا يعرف عن ضحاياه. العالم كأنما مرهون بالحركة. العالم آلة خياطة بحاجة إلى دواسة دائمة الحركة لتحوك الأحداث. والعالم بلا أحداث مضجر. مضجر. العدالة والحق والرحمة كلها مبادئ كلها قطع قماش. الحركة هي الأهم. هي ما تجعل منها ثوبا. وحركة القاتل كما حركة البطل، فعل طاقة. فعل أخذ وعطاء. عملية تجارية. أمر بجانب محل الفاكهة، الألوان والأشكال معروضة على هيئة الشهية، التفاح بصناديق متدرجة، بجانبه البرتقال وبعض الجنارك، معروضين كأنما ثمة تنزيلات على الألوان. كلها في صناديق خشبية، تقف عارضة سيقانها على الطريق، إنه بغاء الفاكهة، سيكون اسما جيدا لمحل الفاكهة.

 يقف البائع داخل محله، يزن كيلو بندورة على ميزانه للمرأة الأربعينية بينما ينظر إلى صدرها. بحركة لا ارادية أسرق تفاحة حمراء. وأمشي. لا أركض. أمشي فقط. فأنا لم أرتكب سوءًا، أردت فقط أن أقوم بمبادرة. أن ألعب بطاقة العالم قليلا. أن أقول صباح الخير أيتها الكارما، هل أنت فعلا موجودة؟ أم أنك مثل الله تختفين وتظهرين كما يحلو لك كأنك في مسرحية ودورك ثانوي جدًا. يؤنبني عقلي. تذكري الصلب يا لمى. والتضحية. تذكري الامتناع عن أكل اللحمة نهار الجمعة. تذكري المجدرة. 

أقضم تفاحتي بهدوء وقد ابتعدت قدر المستطاع عن محل الخضار. أقف على الرصيف. وأفكر أن البائع لربما رآني. كيف سأعود؟ ومن أين سأشتري خضار السلطة الآن؟ ضيّعي الوقت بعد. انفثيه في الهواء، كأنما شمعة. اطفئي الوقت. أنتبه أنني لا أضع ساعة. كأنني خارج سلطة الوقت. البشر لا يرون الوقت. صحيح. لكنه يراهم. يشدهم بشعرهم أحياناً ويقرص خدودهم على شكل تجاعيد وشعر أبيض. 

أقرر أنني سأذهب إلى محل الخضار في الشارع الثاني. بعيد بعض الشيء لكنني لن أتأخر. لن أترك مجدرتي حبيبتي تموت مثل “تانت” رفقا، مع أنني تحدثت إليها هذا الصباح لكنني أتذكر تفاصيل جنازتها بالكامل، وابنتها الشقراء ترتدي قلادتها. أتذكر كيف حُمِل نعشها إلى المقبرة. كنت ألبس كعبا أسود و”بنتلون” و”جاكيت” أسودين، وأحسست أنني في فيلم ايطالي، وقررت أن ألبس هكذا أسبوعاً كاملاً، ربما يزيد ذلك من خطورتي. 

أمشي على الرصيف، متحسسة العشرة آلاف ليرة في جيبي الخلفي كل خمس دقائق، والمفاتيح في الجيبة الأمامية، وأعدد برأسي ما علي شراؤه من خضار: بندورة، خيار، خس، نعنع وحامض. 

بندورة، خيار، خس، نعنع وحامض. حامض. 

بندورة، خيار، خس، نعنع وحامض. حامض.

بندورة، خيار، خس، نعنع وحامض. حامض.

أرى امرأة ستينية تحمل بعض أكياس البلاستيك البيضاء متمهلة في خطوتها. ترتدي كنزة بيضاء ناعمة فتلتقي عينانا وأرغب بالابتسام، لكنني ومن دون أي تفكير أقفز صوبها، أضع يداي على كتفيها وأهزها، أصرخ في وجهها: بندورة، خيار، خس، نعنع وحامض. حامض. بندورة، خيار، خس، نعنع وحامض. حامض.

أفلتها. تقع أكياسها البلستيكية البيضاء على الأرض بينما تهرب منها أغراضها. المرأة بحالة صدمة تحاول أن تفهم ما حصل، بينما أتابع سيري دون أن ألتفت  إلى الوراء. فأنا أحب محادثة الغرباء. أحب العفوية وتجنب الأحاديث الصغيرة، وأحب قدرتي على صدمهم. 

أمر بمحل الخضار. أدخله. لا يتمتع بحيوية المحل السابق. ولا ينظر البائع إلى صدري بل يحدق في عيني طويلا ويسألني ما اذا كنت بخير. أبتسم. وأقرر أن أشتري الكثير الكثير من الخضار لتحضير أكبر سلطة على الاطلاق لزوجي، بدافع الحب. استنكارا لعملية الصلب، وانقاذا للكوكب. 

أضع يدي البيضاء – التي لم تعد قادرة على احتواء عروقي – على مكتبه المهترىء. أضع كل ثقلي عليها وألوي جسدي. أترك قدمي تلف على ساقي المشدودة. أضع نظاراتي من جديد، وأقرّب وجهي من وجه البائع المتحير. أضع اصبعاي على شواربه الرمادية وأكمش بهما خصلة صغيرة وأقول: بدي أشتري كل الخضرة يلي عندك، يتمتم شيئا حول تأكدي من طلبي وشيئا آخر عن كيفية نقلها بالسيارة وشيئا آخر عن الأموال. 

أنقل اصبعاي وأطبق بهما فمه. وأخلع خاتمي الألماسي على المكتب، لأنني أتذكر أني لا أملك سوى عشرة آلاف ليرة.،وأقول له إنني سأرسل أحدًا ليقل الخضار إلى البيت وأنهم باسم رفقا. أعتقد أنني سأرسل هنري لأنه صاحب مبادرة. 

أخرج من المحل منتصرة، متوهجة، كبطل هولويدي فجرّ لتوه مركزًا للارهابين. وأشمر عن زنودي لأكشف عن عضلاتي، وأقرر أن أخلع قميصي نهائيا كي لا يعتقد أحد أن ذراعاي أجمل ما فيي. أبقى بالجينز. 

لن أرجع الآن إلى البيت. بل سأمشي قليلا بعد. فزوجي يحب المجدرة محترقة تمامًا، مثله.

___________________________

كاتبة من لبنان 

الصورة من فيلم “تمبكتو” للمخرج الموريتاني عبدالرحمن سيساكو الذي تقرأون عنه ضمن مواد هذا العدد

*****

خاص بأوكسجين