ما العمل!
العدد 288 | 6-6-2024
زهير وسلاس


صباح الفجاءة المكررة

أيام دون أي جديد

صباح أعيد فيه ترتيب الحجارة والحصى

والكُسارة المكسَّرة.

 

تنقشع الصورة من الحلَك شيئاً فشيئا. أستيقظ. كمن همَّت به غفوة في مأواً مريب. أحدّق في الجدران وعلّاقة الملابس مستنطقاَ، بلمحات ذاهلة، المساحات والفراغ:

هل كنت في ذاتي طوال الليل؟

يؤنسني سماع نباح الكلاب الضالة في العراء.

هل اليوم هو الاثنين حقا؟

لا أحد يعلم! ولا أحد يريد أن يعلم!

رسائل خليلتي تفك التحامي مع سكون الخواء.

 

أتناول شاياً ورغيفاً على عجل. أفتش في كل الأصباح عن شيء ما. أسحب لباساً ما من مسند الكرسي. أدخن سيجارتين بتأنٍ. ألاحظ فتاتاً على المنضدة. أبحث عن جوارب، أوراق، حزام.. أفرغ حقيبة في آنية فخار. أفتش عن كل شيء ربما! عدا أناي؛ إذ ليس لدي ما يكفي من الوقت كي أنصت لفحيح ثعبان وديع يقبع في جحور دواخلي.

 

لي آراء سامة حول كل شيء تقريباً. ولذا، أتركها على وسادتي مع الكوابيس. أروي نباتاتي بعناية، وأطعم نملاَ يتوانى عن عمله بعض الفتات. أستمتع بأنغام شماميان وفيروز، مراقباً ساعة رسغي، حاسداً الصخور والتلال.

 

أجر جسدي مغادراً حدودي الخاصة، حاملاً حقيبة فارغة على سبيل الرفقة. كلاب الأزقة الخلفية تعرفني، تعرف أوقات مروري وتحتفي بي. أنتظر ظهور وسيلة نقل. الأشجار الجرداء والأرصفة والمصطبات الإسمنتية تعرفني. أستقل سيارة نقل سري <<خطاف>> وأذهب مع الرياح.

أناظر من النافذة، وصورتي المنعكسة على زجاجها، تداخل الغيوم مع أشعة الشمس، أمهات يصحبن أبنائهن إلى المدرسة، بائع تبغ رخيص وحارس مرآب سيارات… يتضخم، حينئذ، صدى صوت أناي بدواخلي ممزوجاً ببعض كلمات والدي:

“الحياة بسيطة جداً، ومعقدة للغاية.

رهانات وانتظارات،

جميلة وبشعة…

الحياة هي فقط حياة.

مشط شعرك كل يوم… حاول أن تفهم فقط؛ الفهم ينجيك من كروب ثقيلة على القلب.. لمّع حذاءك جيداً.. تعلم أشياء لا تحبها.. لا بأس بقول كلام لا يعني لك شيء.. لا تنسَ أن تستمتع بالحياة…”

أقفزُ مترجلاً من السيارة.

أمشي ما يقارب الخمسين متراً، أمشي متأهباً، سأقذف نفسي إلى مساحات ممتدة، منحصرة، مساحات مشتركة. كانت تمرينات هذا الصباح مفيدة. وافقتني، من الغرفة إلى حدود اللحظة، تلك المناجاة المتناثرة. تلقفتها جيداً، تراكمت في دواخلي أكثر مع مرور الأيام كما تتراكم الشوائب والرواسب في المداخن العتيقة.

أقف هنا الآن، في عالم من الأشياء والأشخاص… أنفق حزمة من الإتكيت اليومي. كالضحك بلا داع… أؤدي وئيداً على خشبة من خشبات المعابر.. أبتسم للخزانة أيضاً. أتأمل ستائر عاتمة تحجب ضوء الصباح. تبدو لي، أحياناً، الكلمات التي أنطقها غير مفهومة! الستائر تتطاير جراء الرياح. يبدو لي، أحياناً، الستائر وحدها تشبهني هنا!

أحاول القيام بعملي على نحو جيد

أحمل حقيبتي وأهرع

دافعاً جسدي

كعربة في الخُبَّة.

 

أجلس الآن صامتاً هائماً. في نهاية المساءات، في عالم من الأشياء والصور.. أجلس حول طاولة مع أناي، في مقهى شعبي ضاج يرتاده المسافرون… قبالة الحافلات والمارة ولافتات المحال التجارية ومباريات كرة قدم على شاشات التلفزيون… هنا، حيث أجد قليلاً من السلام بجوار كرسي شاغر. أبحلق في الحسناوات يتمايلن بكعوبهن العالية، أطفال، ممتلئين بالحياة، يلعبون… ومصلون يؤدون صلاة المغرب في الهواء الطلق بمحاذاة سوق تقليدي…

يسعدني قضاء الوقت هنا وعيني على هذا الزخم.

بعد مرور الكثير من الأوقات المتشابهة.

بعد أن شربت أقداحاً من السخافة الكاملة.

أحتسي الآن أكواباً من القهوة المركزة، وأدخن السجائر. أقرأ، أكتب، أو أستمع لموسيقى جاز قديمة.. محاولاً نسف سماجة يوم خلته يومين.

 

أنهض مغادراً بعد أن ليّل الليل وساد الصمت، الإنارة العمومية القديمة “الصفراء” على أشدها تضفي شاعرية فياضة، حفيف الأشجار يرتل دماثة سمعي. أمشي ساكتاً كأي متسكع غريب. أطوي الشوارع الخالية متسائلاً:

لماذا لم أفكر من قبل في تسلق صخرة عملاقة؟

يتبدّى لي هذا العمل مجدٍ أكثر!

ربما المساحة بين أناي وأنا تضيق؛ فأتطابق مع ذواتي أكثر!

 

ما العمل!

أخادع أناي من أجل أنا؟

أتخلى عن أنا من أجل أناي؟

أناي وجود في الوراء

أناي أصداء من غبار عالق

في مكان ما

في الدواخل

أحياناً يظهر

ويختفي أحيناً

ولا أعرف السبب، أو ربما أعرف! وذلك سواء.

 

أنا كيان فيزيائي

شيء مذكور

شكل من الأشكال

تجسيد…

رسم أدركه الواقع

يتلاءم

يتحسس ويلمس الأشياء…

يهرب

يرتفع

يدخن غليوناً فوق قمم

يتلاشى

يسقط

يختفي في عدم.

 

أناي وأنا

عالم واحد متشابك

كأغصان شجرة

كبيت العنكبوت

أناي قلق كامل وجميل

أنا ظل أناي

أناي سر أنا

أناي سر في أنا.

ماذا هنالك؟

أعود إلى غرفة أيامي الظليلة كما يعود المحقق الكسول إلى مسرح الجريمة. أعلّق معطفاً وقبعة غامضة خلف الباب. علّاقة الملابس الخالية على الحائط تذكرني بأفكاري الوجودية، تهاجمني بأسئلة كبرى. أشيائي المكومة فوق بعضها تحتضن ذكرياتي النحيفة. أتذكر كيف كنت متيما بالسماء! بصدق وإخلاص. أحسست أن بودي تذكر شيء ما ولم أفلح في استذكاره. شغلت التلفاز على سبيل الألفة… إذا بي، أفزع بنشرات وأنباء عاجلة؛ شعب يباد على المباشر! أمهات يبحثن عن أشلاء أبنائهن، أطفال حالمون بين أنقاض الحياة… هذا يملأ صدري بالضيق. ماذا هنالك؟ ما الذي يحدث؟ ما هذا العبث؟ أهذه هي الحياة! ما العمل! ماذا أقول؟ لا أنتظر أجوبة قصيرة ومريحة على أسئلة كهذه. كله بلا طائل. كل شيء متنافر وعشوائي غالباً. الحياة ليست عادلة. وكذلك الموت. يؤسفني كل ذلك.

*****

خاص بأوكسجين