ما أصعب العناوين
العدد 188 | 01 آذار 2016
عبدالله الزعبي


إلى تيسير السبول

 

يقبع في الجنوب

ويخفق به حزنه

حياته تتعلق

بضغطة صغيرة على الزناد

أوقد فكرة مطفأة

فاحترق رأسه

وقالوا مات منتحرا.

**

مثله

لا يهمني جسد الإنسان

يهمني ظله:

المرأة البيضاء

ظلها أسود،

والمصباح على السور

قطة نائمة.

أقبع في الشمال

ويخفق بي حزن الجنوب.

**

ليس وجودا

وليس عدما

هذا الذي نعيش

إنه شيء ثالث،

أحتاج نفساً طويلاً

لأصف هذا النفس القصير

ولن أفلح بالنهاية،

الأشياء

كل الأشياء

تحمل على أكتافها مدة للصلاحية

حتى الأصدقاء والحبيبات

وحتى الذات،

سري الكبير في البئر

سري الكبير في بطن يوسف.

سوف أظل أسأل:

ما فائدة الدنيا الضيقة

إذا كان حذائي واسعاً؟

وما هي وحدة قياس الحياة؟

الحياة ضحك على اللحى،

والكون الكبير أضيق من جسدي؛

حين أنام

حين أضع رأسي على الوسادة

– لا أنام –

يكون رأسي في الأرض

وفي نبتون قدماي.

سوف أبكي وسوف أضحك إذاً

أنا الضاحك، أنا البكّاء

اضحكوا عليّ وابكوا معي

اضحكوا معي وابكوا علي.

سوف أظل قاعداً

هنا

في العتمة

وحدي

حتى يقول الليل:

هذه امرأتي

خذها

إنها لك.

ثم أمام عينيه السوداوين الحالكتين

أضاجع امرأته البيضاء الساطعة

بقبلة واحدة،

بقبلة واحدة أنهي هذا الليل

وأفقأ حدقتيه الوقحتين،

بقبلة واحدة أنجب أجمل امرأة في العالم

ذلك أن القبل تجيء بالمواليد

كما لا يقول المثل

وكما لا تقول العادات والتقاليد.

**

ولن أبكي أبداً

أن لا تبكي يعني أنك أكثر حزناً 

وأن تجد نفسك هو الضياع.

تافه من يتصالح مع نفسه،

من يمد يده ويصافح كفها المريضة

في قصعة من دم المواشي،

من لا يغرس سيفه فيها

وتغرس رمحها فيه.

**

كلما رفعت له الوسطى وقلت: خذ.

قال: هات.

سوف أقرأ كل شيء

لا لشيء

إنما لأستحقر ذاتي.

في رأسي الكثير من القصائد

التي لن أكتبها أبداً،

القصائد بكاء.

فيا امرئ القيس خذني من يدي إلى النار

خذني من يدي إلى النار يا امرئ القيس.

**

المرة الوحيدة التي انتظروني بها

كانت عند الولادة

وبعدها لم ينتظرني أحد،

المرة الوحيدة التي انتظروني بها

لم ينتظروني بها،

كل ما مررت به كان تجربة موغلة في السوء

تجربة كان لا بد منها

كما يقولون،

أنا لم أقل شيئاً

سوى أن

الأجساد لا تتحد إلا

في الجنس.

وقليل وحدي

وقليل مع الجماعة،

الموت كثير

والزاهد في الدنيا عدمي.

**

نص بكلمة واحدة

وهامش يطرز صفحات كثيرة:

نحن!.

باب السعادة من حديد

وهو مع ذلك مقطوع من شجرة.

**

قلت لأمندا: هذه الحياة صعبة وتافهة.

قالت أمندا: هذه الحياة صعبة وتافهة!.

البساطة 

كيف لي أن أشرحها ببساطة؟.

أن نشرب القهوة العربية المرة

كي نحلي أيامنا،

أن أقول:

خرجت قبل قليل من الحمام،

دخلت قبل قليل إلى الحمام.

وأن حياة الإنسان تتعلق

بضغطة صغيرة على زر السيفون.

**

مثل رغيف الشعير

مأكول مذموم

قلبي.

أكرهني وأحب الآخرين

لكن الآخرين

لا يحبون سوی أنفسهم.

أقول لهم:

– أنا أعرف الطريق.

ثم أحمل مزماري

وأسير بهم نحو الهاوية.

– وجميعكم من عظام رقبتي

جميعكم دون استثناء من عظام رقبتي

المكسورة،

وإنني أعدكم  لن أنشر ديواني:

بصقات.

فآه ما أصعب المنبر

وما أقل حياءنا.

**

قلبي وما يهوى

قلبي ويهوى.

الريح تداعب شعر أمندا

وتشفط دخان سيجارتي.

شامة لئيمة على نهدها

شامة لئيمة

وأنا جائع وطيب.

أدير الأغاني حتى أدفأ عظامي

وحتى لا أنسى

أن احتكاك نهد بنهد يولد شرراً

أن أول من أشعل النار كان امرأة.

فبا أيتها المرأة التي تداعب الريح شعرها:

لا تذلي الجمال أكثر من ذلك

لا تذلي الجمال

إنه يلعق كعب حذاءك العالي

ويلهث مثل الكلب

ويلهث مثل التمام

كذلك تلهث هذي القصيدة

ناقصةً كالكمال.

**

لوحة سريالية لأمندا بمعطف شتوي

ووشاح

وشعر مرسل مع الريح،

وأنا أتسمّر مثل ضريح.

أمندا التي تلهث شفاهها بكثير من القبل..

والبصقات!

في يدها مطرقة

وحاولت أن أقنعها بأن صدري ليس سنداناً

حاولت

ولم أفلح

غجرية سمراء

ما خانت “منحة الشمس”(1)

اصطدمت بها خطأً

واعتذرت

فتفهمت

وكدت أقع في حبها

لولا كنت مستعجلاً،

من لا يحبها

لا يحب الله،

لم يخلقها الخالق من طين

ولا من نور

أو نار

كتبها كتابة

فنبتت للدفتر أجنحة

فغرد ثم طار،

ليست بشراً

ليست من البشر

ربما أنها قطة سيامية

أو كلبة صغيرة وجميلة

أما أنا

فكلب بلدي أجرب.

أنا الذي

وابن الذين

امرأة كاملة تظل تومض في دماغي مثل “كان”

أرضي بور

وأشجاري يابسة

والزهور التي تحبينها

 ذابلة

فتعالي

وأحبيني يحببك الله

وخذيني حيث لا أحد

وسوسيني إلی حتفي

كما تساس الحمير إلی الحراثة.

**

يا إلهي الوضّاء المنطفئ

يا حمّال الأوجه

لقد أشرقت الشمس اليوم

وأغربت

ثم انسكب ضوء القمر.

.

.

ماتت أمندا

لا بل قامت القيامة

وإذا قامت وفي يد أحدكم حبيبة

فليقبلها.

رباه

يا رباه 

أمهلني قليلاً 

ريثما أزرع قبلة في وجه

التي أوثرها على نفسي ولو كان بي خصاصة،

أمهل العاشقين

أمهلهم رويدا

ماتت أمندا.

**

هي ذي الأطوار الثلاثة،

هي ذي:

الطور الأول:

يخرج الإنسان من رحم أمه

رافعاً الإصبع الوسطى في وجه العالم

لكن هذه الإصبع الثورية

لا تكون إلا من نصيبه.

الطور الثاني:

ينوع الإنسان في عباداته:

يعبد رب العائلة،

ورب العمل،

ورب السماوات والأرض.

ويلعن الجميع عندما يغضب.

أما الحرب فلا رب لها يلعنه الإنسان

وتخرج الحشود عليه

الحرب

ذات إلهية

رب من أقانيم ثلاثة:

رب العائلة

ورب العمل

ورب السماوات والأرض..

المحتلة.

الطور الثالث:

تذهب حياة الإنسان في العمل والمواصلات

ثم في النهاية لا يصل أبداً.

فيا أيها الإنسان “الضلّيل”(2)

يا “ناقف الحنظل”(2):

اسهر طوال الليل

واذهب إلى الوظيفة نائماً.

ويا أربابنا المتحدة الواحدة

يا أقانيمنا الثلاثة السعيدة:

لا تقسموا الصفر على المالانهاية

أرجوكم،

كل إنسان معارض بالضرورة.

لاتقسموه

مجرم كبير من يقتل الشهوة

الشهوة طازجة ولا تؤكل

الشهوة طازجة فلا تطبخوها.

لكنني..

ها إنني

ثور مجنّح،

فيا داعش

اقطعوا رأسي

وحطموا جسدي بالمطارق.

– أرحني بها يا بلال.

ثم سرعان ما يمتشق بلال المسدس

ويفرغ رصاصة في رأسي من مسافة الصفر.

**

هكذا

في القطب المتجمد الجنوبي 

لا يذوب الثلج

فلا يتكشّف التراب الذي تحته ولا يرى

لا يعرف ولا يدرك

مثلي تماماً

مدفون في قاع الكوكب المأفون

في قعر الأقطاب كلها

والحياة تجثم على صدري

ولا تذوب.

والحياة جميلة جداً

جميلة جداً هذي الحياة

مثل نكتة بذيئة.

وإن أمنيتي الوحيدة فيها

أن أصير حراثاً على حمار وحشي.

– أتيت لأبحث عن ذاتي

أيها العالم الذي يفتقر إلى الموضوعية،

وعندما أموت احفروا قبري في أرض الواقع.

ويرن صوت في البعيد:

– هكذا “أنت منذ اليوم”(3)

منذ الأمس

منذ الأزل.

ويرد صوتي في القريب:

– وهكذا

أقتل من يقول أن الحياة حلوة

لأريه أن الموت أحلی.

**

وهكذا سوف أنسى

ربما كان عليّ أن أموت حتى تصدقوني..

وأنسى،

نزولاً عند رغبة الأصدقاء

أيها الأصدقاء

نزولاً عند رغبتكم

صعوداً إلى اللاشيء

– لا أحب هذه المفردة

لكن صعوداً إلى اللاشيء –

اعذروني

صعوداً إلى اللاشيء

أغادر ثم أنسى

أنام

لأنك

واحر قلبي عليك

تغادر ثم تنسى

تنام

“لكم أنت تنسى”(4)

وكم أنت تنسى

“عليك السلام”(4).

______________________________________

(1) في قصيدة “غجرية” يقول تيسير السبول: لم تخوني منحة الشمس/ فهذا الوجه أسمر.

(2) يقول امرؤ القيس، الملك الضلّيل، في معلقته: كأني غداة البين يوم تحملوا/ لدى سمرات الحي ناقف حنظل.

(3) “أنت منذ اليوم”: رواية تيسير السبول الوحيدة، صدرت عام 1968، وفازت بالمشاطرة مع رواية “الكابوس” لأمين شنار بجائزة الرواية العربية بعد الهزيمة التي نظمتها دار النهار اللبنانية للنشر.

(4) “لكم أنت تنسى” و “عليك السلام”: إشارات تم اقتباسها من قصيدة وداعية، أخيرة، غير معنونة، وجدت في جيب تيسير السبول بعد انتحاره، وقد اتفق بعد ذلك أن صار اسمها “قصيدة بلا عنوان”.

____________________________________

شاعر من الأردن

اللوحة من أعمال التشكيلي السوري نذير نبعة الذي فارقنا في 22 شباط 2016

*****

خاص بأوكسجين


شاعر من الأردن.

مساهمات أخرى للكاتب/ة: