ليلة من العمل
العدد 196 | 10 آب 2016
هرمن هسّه


   ليلة يوم السبت تلك كانت هامة بالنسبة إليّ. كنت قد بدّدتُ عدة ليالٍ خلال الأسبوع، ليلتين مع الموسيقى، وليلة مع الأصدقاء، وليلة مع المرض، وضياع ليلة في المعتاد يعني بالنسبة إليّ ضياع عمل يوم كامل، بما أنَّ عملي يكون أفضل في الساعات المتأخّرة. كنت أعايش تأليف رواية طويلة منذ حوالي عامين ووصلتُ مؤخراً إلى مرحلة حرجة من المغزى الأساسي للكتاب. وأتذكّر جيداً قبل بضع سنوات (وكنا في الفصل نفسه من العام) عندما كانت رواية “ذئب السهوب” في حالة الاستعصاء الخطر نفسه. في عالم الكتابة كما خبرته، لا وجود لطريقة عقلانية حقاً للكتابة، بالاعتماد على قوة الإرادة والاجتهاد في العمل. بالنسبة إليّ الرواية تبدأ بالتجسُّد في اللحظة التي أرى فيها شخصية تأخذ شكلاً، وتستطيع أنْ تكون لفترة من الوقت رمزاً لتجاربي، وأفكاري، ومشاكلي، وحاملة لها. وظهور تلك الشخصية الخيالية (كبيتر كامنتزيند، وكنلب، ودميان، وسيدهارتا، وهاري هيللر، إلى آخره) هي اللحظة الخلاقة التي يخرج منها كل شيء آخر. إنَّ أعمالي النثرية كلها تقريباً هي سير حياة أرواح؛ ومركز الاهتمام فيها كلها ليس الحبكة، والتعقيدات، والتشويق، بل هي في الأساس مونولوجات؛ وتلك الشخصية الأسطورية، الشخص الواحد، يُفحَص من خلال صلته بالعالم وبنفسه. تلك الأعمال النثرية تُسمّى “روايات”. في الحقيقة، هي ليست روايات على الإطلاق، لا تشبه في شيء قدوتها العظيمة، المقدّسة في عينيّ منذ عهد شبابي. فكتاب نوفاليس ” هاينريش فون أوفتردينغن”، على سبيل المثال، أو كتاب هولدرلن “هايبريون” هي روايات.

   وهكذا مرة أخرى أعيش الفترة الوجيزة، الجميلة، الصعبة والمُثيرة، التي تجتاز القصة خلالها أزمتها، الفترة التي تقف فيها أمامي أفكاري كلها، وتقلبات مزاجي التي لها صِلة بالشخصية “الأسطورية”، بوضوح تام، وجلاء، وإلحاح. إنَّ المادة الخام كلها، كل التجارب والأفكار، التي يُصارع الكتاب كي يمنحها شكلاً في ذلك الوقت (وهو ليس بالوقت الطويل!) تكون في حالة تدفّق، انصهار – ويجب القبض على المادة وتشكيلها في الحال، وإلا فات الأوان. كل كتب من كتبي مرّ بمثل تلك الفترة، حتى تلك التي لم تكتمل أبداً ولم تُنشَر. في حالة هذه الأخيرة لم أجنِ الحصاد، وفجأة حانت اللحظة التي بدأتْ عندها شخصية قصتي ومشكلتها تتراجع وتفقد إلحاحها ومغزاها، تماماً كما أنَّ الآن لم يعُد لروايات “كامنتزيند” و ” كنولب” و “دميان” أي وجود واقعي بالنسبة إليّ. بهذه الطريقة وبمناسبات عديدة ضاع عمل شهور طويلة وكان لا بدّ من رميه.

   والآن أمسية يوم السبت هذه تخصّني وتخص عملي، وقد أمضيت الردح الأكبر من النهار في الاستعداد لها. ومع حلول الساعة الثامنة أخرجت وجبة عشائي من برودة الغرفة المجاورة، وهي برطمان من اللبنة وثمرة موز، ثم جلست مع مصباح طاولة الكتابة الصغير وأمسكت بقلمي.

   لم أتحمّس للعمل، ولكن كان لابد منه. منذ يوم قبل أمس لم أتطلع إلى ساعات عمل هذا اليوم، في الحقيقة كنتُ أخشاها. لأنَّ قصتي عن غولدموند كانت قد توقفت عند نقطة حسّاسة، عند الموقع من القصة حيث تحتل الأحداث نفسها المسرح، وتعلو وتيرة الإثارة. إنني أشعر بامتعاض شديد من الأحداث “المُثيرة”، خاصة في كتبي. ولطالما تجنبتها قدر الإمكان. ولكن هذه لا يمكن تفاديها. إنَّ تجربة غولدموند التي ينبغي أنْ أسردها هنا ليست مُلفّقة أو لا لزوم لها بل تنتمي إلى الإلهام الأهمّ والأكثر أصالة وتدخل في صميم نسيج شخصية غولدموند؛ إنها جزء من جوهره.

   جلستُ على مدى ثلاث ساعات على طاولة الكتابة أتعذّب بصفحة “مُثيرة” واحدة، أحاول أنْ أكتبها بأبسط شكل ممكن، بإيجاز، وبأقلّ قدر من الإثارة. لا أعلم إنْ كنت نجحت في ذلك؛ غالباً لا يتبيَّن المرء هذا إلا لاحقاً. جلست، مُنهكاً ومُحبطاً، ساعات طوال أمام الصفحة التي ملأتها بالخربشات، يُعذّبني سيل من الأفكار المألوفة وغير الحاسمة. أكانت تلك الليالي من الكتابة، هذا الخلق البطيء لشخصية كانت قد بدأتْ كرؤيا قبل حوالي عامين – أكان هذا العمل المُثير للأعصاب، المُشبِع واليائس حقاً بلا معنى ولا يستحق العناء؟ أكان ضرورياً أنْ تتبع كامنتزيند، وكنلب، وفيراغوث، وكلينسور، وذئب السهوب، شخصية أخرى، تجسيد آخر، تجسيد لفظي بمزيج مختلف نوعاً ما ومنوّع لكياني؟

   هذا ما كنت أفعل، وفعلته طوال حياتي، وكان يُسمّى في العصور الأولى بالتأليف، ولم يخطر في بال أحد أنه شيء قيِّم ويترك تأثيراً شبيهاً بالسفر في مجاهل إفريقيا أو بلعب التنس. أما اليوم فيُسمّى “الرومانسية” مع نبرة انتقاص واضحة. لِمَ يجب أنْ تكون الرومانسية شيئاً متدنياً؟ ألم تشغل الرومانسية أفضل العقول في ألمانيا – نوفاليس، هولدرلين، برينتانو، موريكه، وكل الموسيقيين الألمان بدءاً ببيتهوفن مروراً بشوبرت وانتهاءً بهوغو فولف؟ بل إنَّ العديد من الشعراء المُحدثين استخدموا الوصف السخيف وإنْ كان مقصوداً ويا للسخرية “التصنُّع” وأطلقوه على ما كان يُسمّى ذات يوم الشِعر من ثم الرومانسية. كانوا بذلك يعنون شيئاً “بورجوازياً”، شيئاَ عتيق الطراز ومنبوذاً، عاطفياً برهافة وبصورة معقّدة، شيئاً يبدو في أيامنا الرائعة سخيفاً وأحمق، مناسَبة للضحك. إنهم يقولون هذا عن كل ما يرتفع فوق المستوى الحالي للعقل والروح. وكأنَّ الحياة الروحية لألمانيا وأوروبا على مدى قرن من الزمان، وكأنَّ توق ورؤيا شليغل، وشوبنهاور، ونيتشه، وحلم شومان وفيبر، وشِعر آيشندورف وشتيفتر، عهدٌ ولّى وانقضى، طراز عفا عليه الزمن بالنسبة إلينا ويستحق الاستهجان، ولحسن الحظ أنه انقرض منذ أمدٍ بعيد ! لكنَّ هذا الحلم لا صِلة له بأي طراز سائد، أو بسحر وأناقة أشياء تافهة، بل كان تفحّصاً لألفيّ عام من المسيحية، لألف عام من التعصُّب الألماني، وكان لا بدّ أنْ تكون له صِلة بمفهوم الجنس البشري. لماذا يتم الاستخفاف بهذا هذه الأيام، لماذا تعتبره الطبقات العليا في أمتنا شيئاً سخيفاً؟ لماذا تكرّست الملايين للياقة البدنية وأيضاً لإنفاق مبالغ ضخمة من المال على تدريب عقولنا الروتيني، ولم يتبقَّ غير ضيق الصدر والضحك نجربهما لتثقيف أرواحنا؟

   أهذا العقل هو الذي قال: “ماذا سيستفيد الإنسان، إذا ربح العالم كله، وخسر روحه؟” – أكان ذلك العقل رومانسياً حقاً أو حتى “متصنّعاً”؟ أكان حقاً مُهملاً، منبوذاً، مُستبدلاً بآخر أفضل، فات أوانه، وأصبح مَثار الضحك؟ هل أودعت عبارة “الحياة الحالية” المصانع، وأسواق البورصة، وأراضي الملاعب وصالات القمار، وفي حانات المدن الكبرى وحلبات الرقص، أكانت تلك الحياة حقاً أفضل، وأكثر عقلانية، ومرغوبة أكثر من حياة الشعب الذي أنتج الباغافاد-غيتا  أو الكاتدرائيات الغوطيّة؟ لاشك في أنَّ لحياة هذه الأيام وصرعاتها أنْ توجد، إنها جيدة، وتعني التغيُّر ومحاولة الإتيان بشيء جديد – ولكن هل من اللائق والضروري اعتبار كل ما جرى في الماضي، بدءاً بيسوع المسيح مروراً بشوبرت وكورو، أحمقاً، وبائداً، وباطلاً، ومُثيراً للسخرية؟ أكانت تلك الكراهية الصارخة، والعنيفة، والجامحة، لكل ما سبقها حقاً برهاناً على قوة هذا العهد الجديد؟ ألم يكن هو الوسطي بعمق، المملوء بالخوف، الذي مال إلى تلك التدابير الدفاعية بصورة مُبالَغ فيها؟

   والآن في هذه الساعة من الليل سمحتُ لهذه الأسئلة مرة أخرى بالتدفق على عقلي، ليس لكي أُجيب عنها، لأنني طوال حياتي وأنا أعرف الإجابات – بل لكي أمتصّ العناء وأتذوّق من جديد طعمها المُرّ. في تلك الأثناء رأيتُ كنولب، وسيدهارتا، وذئب السهوب وغولدموند، يمثلون أمامي، إخوة حقيقيون لي، أقربائي الأقربون، لكنهم غير مُكرّرين، كلهم يطرحون أسئلة ويُعانون، ومع ذلك بالنسبة إليّ هم أفضل ما أنتجته الحياة، لقد حيّيتهم وتقبّلتهم وعرفت من جديد أنَّ غموض سلوكي لن يمنعني أبداً عن الاستمرار فيه. لقد أدركتُ من جديد أنَّ حظ المحظوظين، وكل الأرقام القياسية وصحة الرياضيين، كل أموال أصحاب البنوك، كل مشاهير الملاكمين لن يعنون لي أي شيء لو أنني ضحّيت من أجله حتى بأضأل جزء من عنادي وشغفي. أدركتُ أيضاً أنَّ الأُسس التاريخية والعقلية لقيمة جهودي ” الرومانسية ” لم تكن لها أي أهمية، وأنني في الحقيقة سوف أستمر في أداء ألعابي وفي إبداع شخصياتي رُغماً عن كل عقل، كل أخلاق، وكل حكمة تقول عكس ذلك.

   مع هذا اليقين لجأتُ إلى السرير، قوياً كعملاق.

___________________________________

كتب هسّه هذا النص عام 1928 أثناء كتابته رواية “نرسيس وغولدموند” التي صدرت بالعربية بترجمة أسامة منزلجي عام 1996.

*****

خاص بأوكسجين