لغة الوجه
العدد 285 | 1-4-2024
فكري عمر


تُوحي هيأته لمن يتعاملون معه للمرة الأولى بأنه تائه في عالم آخر. يُصرِّح بعضهم في وجهه بهذا الرأي وهو يضحك من دون أي إحساس بالخجل، على حين يُفضِّل آخرون التلميح بالغمز واللمز رغم أنه يَقِظٌ، ودقيق الملاحظة. بتكرار الاتهام صار يلتمس لهم العذر مُدركًا أن دليل الإدانة الظالم راقدٌ فوق ملامح وجهه بعينيه الضيقتين المسحوبتين، وشفته السفلى المتدلية قليلًا، وصوته الخفيض أمام من يكبرونه سنًا، وإطراقه غالبًا إلى الأرض إذا حَدَّق أحدٌ ما في عينيه.

تراه إذا دخلت المكتب في أي يوم منكبًا على الأوراق يُنجز المطلوب فيها بدأب، ودون شكوى. أعطت طريقته هذه في العمل للبعض، بأنهم أمام رجل ساذج، وحمار شغل. وهكذا يُحمَّل أعباءً إضافية بصدر رحب. يتصنع تصديق الظروف الفجائية التي يؤلفها الزملاء؛ ليلقوا بمهامهم فوق كتفيه. يبتسم لمشاهدهم التمثيلية، وحماسهم في التجول هنا وهناك، والصياح لأقل مشكلة دون إنجازٍ يُذكر بينما يحل مشاكله بصمت. تفيض عيناه بلمعة التسامح أحيانًا مع الغرباء الذين لم يعرفوه بعد، ففي مكان عمله الدائم يشيد بعض الزملاء به في مواقف مختلفة كونهم خبروا الحقيقة باقترابهم منه، واستطاعوا مجابهة الآخرين بها، فتراجع الانطباع وحل مكانه الحكم المبني على التجربة.

وقد ينال استحسانًا، ثم يتراجع صاحبة بعد لحظات فيقول: “جميل يا أستاذ سليم، لكن خليك مركِّز في الشغل”. يتلقف إعجابه كصيد ثمين طال انتظاره. لكن حادثة صغيرة في كل لقاءاته الأولى كانت تزيد بركانه الداخلي اشتعالًا، فأكثر ما يكرهه من الكلمات “ركِّز – انتبه – صحصح”. يسمعها جميعاً من زملاء الانتداب المؤقت في البداية. حين تذوب المسافات بين من يجمعهم هذا العمل بعد يومين، أو ثلاثة يطلقون النكات وهم يشربون الشاي والسجائر، ويتبادلون تعليقات سياسية، وفجأة تتكرر الفجيعة، يميل نحوه رئيسه المؤقت قائلًا: “لكنك لا زلت صغيرًا على حالة النسيان، والغفلة التي تعيشها”. يرد كابحًا سخطه: “وجهي هو الذي يعطى انطباعات معاكسة لحقيقتي، وخجلي التلقائي يزيد الطين بِلّه”. وأبدًا لم يلتفت أحدهم لهذا الدفاع، ولا أبه له. يود لو يصيح في وجه الجميع: “إذا أخطأت حاسبوني حساباً عسيراً. أنا من أصحح أخطائكم، أو أمحوها من دون أن أخبركم، أو أجرحكم”…

– ما الذي حدث يومها بالضبط؟! سأله المحقق.

– في المرة الأخيرة وصلت إلى الحافة. ربما كان لأخطاء رئيس العمل الكثيرة التي عالجتها بصمت دور في هذا. وجدته يبتسم ظافراً في اليوم الأخير بعد إنجاز المهمة وهو يؤكد، مُحدِّقاً فيّ، أن الله سترنا من المصائب التي وقع فيها الآخرون رغم ما نحن فيه، وهو يقصدني طبعاً. أخبرته أن عملي وكفاءتي هما السبب الأول والأخير لإنقاذنا… عكس ما يعتقد.

– وهل يسوؤك ستر الله لنا جميعًا؟! قال المحقق.

– الحكاية أنني اغتاظ دائمًا ويجن جنوني من مقابلة حُسْن المعاملة والكفاءة بالجحود والإهانة.

– ما الإهانة في ذلك يا أستاذ، هل أنت مؤمن بالله، أم لا؟

عجب من تحريف المحقق لمقصده مثلما حَرَّفه رئيس عمله المؤقت، وككل مرة تحدث له مشكلة، لكن نظرة الاستياء لم تمنعه من إكمال دفاعه:

– كان الاحتقان سيزول لو دخل المساعد الثاني كثير السب واللعن والهزار، ليهتف: “خير يا جماعة؟”، فتنفك تعبيرات وجوهنا المعقودة، ثم نتواعد على أمل كاذب بلقاء قريب بعد تبادل أرقام هواتف لن نتحادث من خلالها ولا مرة بعد انتهاء الندب، لكن المساعد تأخر، وجو الهدوء الذي ساد فجأة أيقظ حماساً دينياً حين فسَّر رئيس العمل المؤقت عبارتي على غير ما قصدته. لعله ظن أن تركي كلامي المارق دون رد سيمحي من صحائفه حسنات الحج الذي تباهى به أمام كل من رآه أثناء عملنا. قال لي: “أنت يا أستاذ تجاوزت كل حد. كلامك غير مقبول في حق ربنا”. أمسك ذراعي بقوة، فنزعتها غاضباً. ظن أني سأضربه، فأمسك بطوقي وخنقني دفاعاً مسبقاً عن نفسه، أنا الذي فوجئت وضرب عيني برق دفعته، فاشتبكنا، ليأتي الزملاء على طلبه النجدة. هذه كل تفاصيل الواقعة.

قال المحقق: لا زلت تتكلم كلاماً غريباً. صحيح أنكم أنجزتم أموركم دون شكاوى أو أخطاء تُذكر، لكن رئيسك لم يتسامح بشأن اعتدائك عليه بالضرب، والدفع، والزملاء الذين كانوا معك شهدوا ضدك.

– وكل ما حكيت عن مظلمتي، ألا يستحق التفكير والتعاطف؟

– كلامك غريب، الأفضل ألا ندرجه في التحقيق؛ لأنه كلام مضحك، سيدخلك في فضائح ومتاعب وظيفية لا حد لها. سنخفف الجزاء قدر الإمكان لنتلافى تحويلك إلى جهة اختصاص تُراجِع قواك …”. كبح المحقق كلمته الأخيرة.

هنا وقف العالم لثانية عن الدوران. مات كل أمل لديه في أن ألا ينقلب الحوار إلى منحى آخر، وفى أن يفهمه أحدهم الآن بالحجرة الصغيرة بما هو عليه لا بما تمليه عليهم أهواؤهم وانطباعاتهم الأولى، ولا بأي مكان آخر يُنتدب لمهمة فيه. أطاح بالأوراق، واستطاع الوصول، في لمحة خاطفة، إلى ياقة المحقق وائداً الابتسامة الساخرة التي وُلدت على وجهه في مهدها، وهو يصيح بصوت جريح: “أأنا الذي أحتاج إلى مراجعة قواي العقلية يا أولاد المجانين؟!”.

*****

خاص بأوكسجين