أقسام دماغي موزعة بالتساوي بين الأخبار والجبهات وعملي ومنزلي وأصدقائي الذين سافروا. اتنقل بين محطات التلفاز وعيني الأخرى على أمي التي تغفو قبل أن أفتح معها حديثاً، قلت بيني وبين نفسي “أنا يلي خليت الكهربا تنقطع” لكثرت ما حسدتها في الفترة الأخيرة.
اليوم عدت إلى طاولتي الوحيدة لأنجز عملي المتراكم وأنا التي كنت قد خططت لسهرةٍ لطيفة مع أمي لكنّ الكهرباء وأمي لم يتضامنا معي.
كلّ ما أخطط له ينتهي بلحظةٍ غير متوقعة. تعلّمت مؤخراً أن أتلافى التخطيط وأن أتحايل على قوانين “مورفي” لسوء الحظ التي أراهن على أنّها قوانيٌن بهيئةٍ ما – ربّما بشرية_ ، تملك أذاناً صاغيةً جداً، تصالحت معها بعض الشيء بعد أن أصبحت أشخّص حالتي أو لنقل حالاتي التي انشطرت كثيراً بعد إصابتي بالاكتئاب. أعاني مثلاً من قصورٍ في النظر، درجة ونصف في كلّ عين، قال الطبيب إنّ عليّ ارتداء نظارتي مدّةً طويلة ليثبت النقص لأنه في ازديادٍ دائم، هذا النقص امتدّ لأعضاء الجسم الأخرى، أعاني من قصورٍ في النظر إلى كلّ شيء ولا أحبّ أن أرتدي النظارة الطبية: قصور في السمع، قصور في الفرح، في التفكير، في الفهم، “ليس بالغباء”، فالغباء مجهودٌ شخصيّ وليس معاناة.
لا أعلم لمَ لديّ خللٌ بالتعبير عن الأمور، أعتقد أنّ ذلك حصل منذ أن قصصت شعري ذات مرّة مع أخوتي الصبية وجلست على الخشبة لأطال المرآة لدى حلاق الشبّان.
حينما أفرح أقضم أظافري، وحينما أحزن أضحك، وحينما أحبّ أحداً أجعله يكرهني، أعتقد أيضاً أنّ أكل البطيخ برغيف الخبز هو سببٌ لذلك، حتى “نافورة المياه” التي كانت تنتصب وسط رأسي في الصف الأول كانت تشبه الجزرة ألومها أيضاً، وألوم أصابعي الممتلئة غير المتناسقة وجبيني العريض جداً الذي لا “غرّة” تناسبه، أعرف أمراً صحيحاً لم أخلّ به، وهو أنني لم أكذب بما أسلفت.
أعاني أيضاً من رهاب الأماكن المنخفضة.. هل جربت يوماً أن تكون في أعلى ناطحات وادي الخوف مثلاً؟
الأماكن المرتفعة جميلة، ممتعة وشيقة تنظر منها إلى الأسفل لترى كلّ ما هو جميل وأعاني رهاب لحظات الفرح… لتفكيري الدائم بالنهاية بعد غياب ضحكاتهم وأصواتهم وتحولها لصدى يجول في الذاكرة..وأعاني رهاب الأماكن المفتوحة، فالمغلقة واضحة، ورهاب المعلوم، فالمجهول قد يكون لطيفاً.
قالت صديقتي لي مرّةً “أنتِ طاعنةٌ في الأمنيات” … لم أخفها سراً بأنني على علم بذلك …ورغم أنّ بعض أمنياتي شابها البياض إلاّ أنّ التفكير بـ” صبغة الحداثة” بعيدٌ عنيّ… الشيب جميل …وهل يوجدُ أجملُ من أمنيةٍ تشيخُ معك.. أنت دائماً تحتاج لأمنية.. إن حققت كلّ ما تريده ستموت حتماً من انعدام الرغبة بالاستمرار..
لذلك دعْ أمنيةً واحدة على الاقل…تسير معك حتى النهاية.. ولا تقلق هي كروحك.. ستحوم بعد وفوق جسدك حتماً.
سيعلمك الاكتئاب أيضاً الهشاشة في بعض المواقف. ستتعلم لاحقاً أنّ الرمل يصنع أجمل القطع الزجاجية الفاخرة. ستتعلم أنّ العنب يصنع النبيذ.. أعلم أنه كلامٌ مبتذل لكن ذكر نفسك به، ستتحول في النهاية إلى لا شيء ذكر نفسك بهذا أيضاً.
هكذا هنا، في بلدّ يصدّرُ الاكتئاب تتعلم أن تموت من الفرح من دون وجوده في الأجواء، ستكون في أوضاعٍ مزرية، كلّ ما في الأمر أنّ المسألة مسألة صمود، ولا تخلط كثيراً بين الواقع والأحلام، سينالك العقاب.
ستنغمس في قائمة الفوضى أحياناً، لن تملك شجاعة الحذف والمضي أحياناً، وقد تنقذك مزحة أو حتى اسطوانة قديمة، ستقارن وتفشل، لكنك ستتابع.
“اتبع الخيارات التي تخيفك”، ستكون لطيفةً في النهاية، واسرف في المحاولات، المحاولات شهيّة، غالباً ستتسرب إليك من حيث لا تدري.
إن لم تستطع الرسم، دفاتر “المانديلا” الجميلة ستتيح لك التلوين، لا تقلق، لا تقلق من شيء، كلّ خطأ ترتكبه سيكون مفيداً من ناحيةٍ ما، ربّما لتعلم الصواب بعدها، المهم هنا ألاّ يطلق عليك “الاكتئاب” النار فيرديك شجاعاً بائساً.
إحداهن فقدت بعض ألوانها بعد أن شدتها رمال ذلك الأخير، كانت تلك الفتاة النحيلة تظهر ضمن مقطع مسجل انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي، لا أذكر متى ولا أذكر كلماتها الأجنبية السريعة جيداً، جل ما أذكره بكائها العنيف وبعض هذه السطور التي ترجمتها بصعوبة لشدّة ما كانت تبكي “الاكتئاب متعدد الأشكال، قد تراه صغيراً كيراع على كفّ دب، في اليوم التالي قد يكون هو الدب ذاته، أحياناً أُظهر نفسي ميتة ليتركني الدب وحدي، نعم أنا أصدق تلك القصة عن الدببة.
أنا أطلق على الأيام السيئة اسم الأيام السوداء، أمي تقول “حاولي أن تضيئي الشموع” ، عندما أضيء الشموع أرى أنوار الشوارع، أرى اللهب، أرى بريق ذاكرةٍ أقصر من وقت الظهيرة، ذاكرةٍ أقف بجانب تابوتها المفتوح، تلك اللحظة التي استوعب بها أنّ كل من عرفته يوماً ما سوف يموت ، لكنني لست خائفةً من الظلام وقد يكون هذا جزءاً من المشكلة أساساً..
مشكلتي أحياناً أيضاً تكمن في أنني أشعر أنني غير قادرة على مغادرة السرير لأن القلق يحبسني كرهينة داخل منزلي وداخل رأسي.
القلق؟ من أين جاء كلّ هذا القلق، هو كقريبك الذي يزورك من مدينةٍ أخرى، وبدوره الاكتئاب ملزمٌ بإحضاره إلى الحفلة
أنا، أنا هي الحفلة، أنا هي الحفلة التي لا أودّ أن أحضرها.
كلّ ليلة، يحملني الأرق بين ذراعيه، يغمسني في المطبخ، في نار الموقد المشتعلة، الأرق له طريقته الرومانسية في جعل القمر رفيقي الامثل.
تقول أمي حاولي عدّ الخرفان لتستطيعي النوم، لكنّ عقلي قادر على عدّ الأسباب التي تبقيني مستيقظة فقط، وأخرج أحياناً بعدها لأتمشى قليلاً، لكنّ ركبتيّ تصدران أصواتاً كأصوات الملاعق الفضية، كأنني أسير وأنا نائمة وسط محيطٍ من السعادة، لا أستطيع أن أتعايش معه.
تقول أمي أنّ السعادة قرار ، لكنّ سعادتي جوفاء كبيضة مثقوبة، تقول أميّ أنني أبالغ كثيراً، وأضخّم الأشياء.
سألتني مرة هل تخافين الموت ؟ كلاّ أنا اليوم أخاف حياة الحرب، رحيل من أحبهم، علمني الموت أن أحول غضبي إلى وحدة ، وأحول الوحدة إلى انشغال.
عندما أقول أنني مشغولة، فهذا يعني أنني أقوم بأي شيء لأتجنب سريري، هذه الرتابة تشدني من قدماي نحوه وأبدو حينها كسائحة نحيلة لوحتها الشمس وسط مجموعةٍ من الأحافير”.
حين أنهيت المقطع المسجل للفتاة دارت في بالي كلّ الأحاديث التي أجريها مع نفسي أمام المرآة، والتي كانت سبب يقيني أنّ العلاج النفسي هو ليس أبعد من عبارة التصالح مع الذات، لست بوارد ان أكون طبيبةً أو باحثةً في النفس البشرية – رغم أنني كنت أتمن ذلكى- أنا هنا فقط شخصٌ مريض مثقلٌ بالأحلام المعطوبة والأمنيات المهترئة التي أرتقها كما أرتق جورباً تعبت منه لكنه باللون الذي أحبّ كما أنه هديةٌ من أمي ولن أرميه، لكن رغم مرضي الذي قد يظنه البعض شكلياً لكنني رفعت الراية “لا اكتئاب بعد اليوم”.
*****
خاص بأوكسجين