لا أُطلِقُ كلابَ القلَقِ من أقفاصِها
العدد 235 | 21 أيلول 2018
بيلي كولينز


 

أَرَق

 

رغم أنّ المنـزلَ غارقٌ في صمتٍ مطبق

والغرفة، إذ لا قمر،

حالكةُ الظّلمة،

ورغم أن الجسدَ كومةُ إجهاد

هامدةٌ على السّرير،

 

فإنّ ما في داخلي لن

يترجّلَ عن درّاجته ثلاثيّةِ العجلات،

لن يكفَّ عن اتّباع الدّائرة المُحْكَمة ذاتها

على السّجّادة الخضراء البالية ذاتها.

 

وسواءَ كنتُ أستلقي

مُحدِّقاً في السّقف

أو كنت أزرع أرضيّةَ الغرفة،

فسيمضي في أشواطه الصّاخبة،

ذلك الدَرَّاج الصغير في نوبةِ ضجيجه،

عدوّي اللدود اللصيق، صديقي القديم.

 

ما الذي تبقّى سوى أن أغلقَ عينيّ

وأرقبه يطوفُ آناءَ الليل،

ذلك التلميذ في سترةٍ لا تناسب مقاسه،

وهو منكبٌّ إلى الأمام، قبَّعتُه إلى الخلف،

يرنُّ الجرسَ على مقود الدرّاجة،

محتفظاً بنفس السّرعة؟

 

هل ثمة ما بقي على قيد الحياة في هذ السّاعة

في عشِّ الغرفِ الظّلماء هذا

سوى المشهد المؤلَّف منه هو

والأمل بأن أتمكّن قبيلَ الفجر

من اللوذِ بالتفصيل الغريب

الذي يخطفني إلى النّوم-

السّاعةِ التي تُحيطُ معصمَه المصْفرّ،

والطَّوق المَرِن،

ثم الأذرع الصّغيرة التي لا تني تُشيرُ إلى هذا الاتجاه أو سواه؟

 

(كما يقولون)

 

إنه تَحَدٍّ هام أن تتكلّفَ “وضعيّةً” ما في الصّباح

أو “في النّوْرِ الذي نسجته الطّيور،”

كما يقول الأستونيّون،

مع ذلك لا أكفُّ عن التساؤل ما هو موقعي في الحياة؟

“مقعدي في القطارِ اللامرئيّ،”

كما يقولون في هنغاريا.

أعني لماذا أنا جالسٌ هنا

في كرسيّ الحديقة أُصغي إلى السُّمُّنِ،

“مُنشِدِ الغاباتِ الصّغير،”

كما يسمّيه السّويسريون،

في حين يندفعُ في العالَمِ الخارجيِّ عامّةُ البشرِ

على الجُسورِ

داخلين خارجين من المدنِ؟

تنمو الخُضارُ مُثقَلةً بالثَّمر في حقولهم،

تطوفُ الغيومُ فوق “وجه الأرض،”

كما نقولها بالإنكليزية،

وأحياناً تنطلقُ الصّواريخ في المدى-

وأعني ذلك حَرفيّاً،

“مِن سطح الطّاولة” كما يتداولُها البرتغاليّون،

صواريخ فعليّة ترتفع من الأفق،

أو عند “الخَطِّ الكبير،” إذا كنتَ أستراليّاً،

تاركةً وراءها عباءةً كثيفةً من دُخانِ العادِمِ،

مساراتٍ انسيابيةً طويلةً،

ودائماً المحيطَ في الأسفل،

أو “آلةَ الماء،” كما يقترحُ أهالي جُزُرِ بحرِ الجنوب-

كلّ شيءٍ يحدُثُ في أوانِه،

“بتوقيتِ ساعةِ إبليس،”

وفقَ قولِ أجدادِنا الأثيرِ.

ولا أزال أجلسُ هنا بلا قميصٍ،

والكلبُ إلى جواري، في أحلامِ يقظته-

“يتلاعبُ بِكُراتِ القطنِ،” كما يطيبُ لهم أن يقولوا في فرنسا.

 

سُرادِق

 

أجلسُ في المكتب،

جدرانٌ بسيطة، سجّادةٌ معقّدةُ التصميم.

أقرأُ في كتابٍ ذي غلافٍ أحمر فاقع.

أّدوِّنُ شيئاً ما.

 

أستخرجُ واقعةً من موسوعة

وأنسخُها إلى بطاقة،

يتوهّجُ المصباحُ،

لوحةٌ أُسندت إلى الكرسيّ.

 

أجدُ معنى كلمةٍ في قاموسٍ

وأنسخها على ظهرِ مغلَّف،

البيانو كبير للغاية في الرّكن،

تدورُ المروَحةُ بطيئةً في السّقف.

 

كذلك هي الحياةُ في السّرادق

من ورَقٍ وحبر

حيث يبردُ كوبُ الشّاي،

حيث تكمدُ النّوافذ ثم تنغمر بالضّوء.

 

غير أني نلتُ كفايتي منها-

ميلان الورقِ على الطّاولة،

الكتب على الأرضيّة مثل زنابق الماء،

والياسمين الذي يجفُّ في أصيصه.

 

الحقُّ يُقال، أنا مُهَيَّأٌ للموت،

مُهَيَّأٌ لأنْ أنقلبَ شيئاً آخرَ،

كأن أكونَ كلباً بنّيّاً وأبيضَ

رأسه ممدودةٌ على الدوام خارج نافذة السّيّارة.

 

ربما بعد ذلك، إن حدثَ وكنتَ لاتزالُ تتمشى

في شارع مجاور،

مرتدياً ملابسك الكتّانيّة،

متأبّطاً ملفَّ أوراقك،

ستَراني وأنا أمرُّ بك،

 

عيناي مطبقتان،

وأنفي السّائلُ يرتعشُ،

يعصف الهواء بأذنيَّ إلى الوراء،

وما يشبه ابتسامة على شفتيّ بوزيَ الطويل الدّاكن.

 

غيرة

 

ليست الأبنية مموّهةُ الزّجاجِ أو الممرّات المسدودة

ما أعنيه،

وليست السّلالم اللولبيّة التي لا تؤدي إلى أيّ مكان

أو التي، ببساطة، غير موجودة.

 

وليس التّجوّل في مدينةٍ أجنبيّة

مصطحباً حلقة بألف مفتاح

باحثاً عن أسوأ الأبواب،

ليست الخرائط الخاوية التي عرَضَها عليّ الغرباء.

 

بل بوسعيَ أن أتسامحَ مع هروبِكِ الدائم

منّي، تسكعك على النّواصي،

صعودِك في صندوق المصعد،

حَوَلِ عينيك المُفْتَعَل عبر الشبّاك الخلفيّ لسيّارة أجرة،

 

ودائماً على ساعِدِ رجلٍ طويل

في طقمٍ أنيق

وقبّعةٍ لُفَّتْ بكل اعتناء

رجل أعرفُ أنّ بحوزته مسدَّساً.

 

ما يقتلني هي طريقة استلقائك ههنا

في الصّباح، مغمضة العينين،

متكوّرةً إلى طابةٍ نؤومةٍ عذبة

وذلك التعبير البريء على وجهك

 

عندما تُخبرينني على طاولة القهوة والبرتقال

بأنك كنتِ حقّاً طوال الليل

إلى جواري في السّرير

ثم تنتظرين مني الإيمانَ

 

بأنّك ضللتِ في عالَم أحلامك،

شيء من كذبة رخيصة

عن إبحارِكِ عبر الغيماتِ

وصولاً إلى حكاية الأجراس المجلجلة،

 

كذبة بيضاء شفيفة حول القفز

عن حافّةِ نافذةٍ عالية

ثم غَمْرِ وجهِكِ

في ريشِ ملاك.

 

طيرانُ القارئ

 

ستظنّ أننا قد نلنا كفايتَنا

من بعضنا

بعد كلّ المطر الذي ينثال على هذه النّوافذ،

والمشاوير إلى الحديقة عند الصّحو،

ونفسِ الأزهار الصّفراء والبيضاء،

وكلّ ليالي السّهاد-

بينما تجري السّيّارةِ الدُّمْيةِ في دوائرَ على طاولة السّرير.

 

مع ذلك، لا تزال تحطّ على كتفيْ،

كصرصارِ ليلٍ، كعصفورٍ أزرقَ،

أو كببّغاءٍ برّيٍّ قابضاً ببراثنك على قميصي المبهرج.

 

ألأني لا أضايقك

ببعّوضِ المعنى اللامرئيّ،

لا أُطلِقُ كلابَ القلَقِ من أقفاصِها،

أو أعْرضُ مرآتيَ المهولةَ،

الشّيءَ الذي بحجمِ ملعَبٍ؟

 

مهما يكن سبب بقائك،

إلا أنني أكره أن أتخيّلَ ذلك الصباح

الذي أستيقظُ فيه وأجدُ أنّكَ رحلتَ،

في طريقكَ إلى البحر اللانهائيّ،

تجرّ الحبالَ التي أوثقَتْنا سويّةً،

تاركاً إيّايَ دونما جديد أُضِيْفُه.

 

لكن لا تفهمني خطأً.

فليس الأمرُ أنني لا أستطيع العيشَ من دونك،

ولا أستطيع الجلوسَ تحت شجرةٍ خضراء أليفة

بلا رغبةِ أن أتناولَ قلمي من جيبيَ،

أو أضطجعَ على أريكةٍ طوال اليوم،

بإحدى اليدين على فمي.

 

ليس الأمر أني مُغرَم بك

وبدلَ أن أكتبَ عُجالتي بمقاطعها الخمسة

أُطَيِّرُ طائراتٍ ورقيّةً عبر الغرفةِ نحوَك-

ليس الأمر أنني لا أستطيع انتظارَ جرسِ الغداء

حتى أرى وجهَكَ من جديد.

 

ليس الأمر هكذا. ليس تماماً.

 

*****

خاص بأوكسجين

 


من أبرز شعراء أمريكا المعاصرين وأكثرهم شعبية. من اصداراته الشعرية: "التفاحة التي أبهرت باريس"" (1988)، و""تساؤلات حول الملائكة"" (1999)، ""تجريد ايميلي ديكنسون من ثيابها"" (2000)، ""المطر في البرتغال"" (2016)."