في الطريقِ إلى مقبرة “بسنادا”
العدد 226 | 28 كانون الثاني 2018
محمد دريوس


أجنحة أيلول

هبطَ أيلولُ السريع

من البابِ الخلفي لسيارة الإسعاف

الدرّاجون

عبروا أنفاقاً معتمة

والنهارُ اكتفى

 

الأختُ الصغرى ركعتْ عند العتبة

كآخر موهبةٍ للصيف

والأخرى

البعيدةُ، في مطارح باردة

يداها ذابلتان

وليلها ناصع.

 

النسوةُ الصغيرات، الواجمات

على طولِ الفاجعة، من المطار الصغير

إلى المقبرة

رامياتُ الزهور المقطوفة فجراً

ناثراتُ الأرزِ القليل

والدعاء الذي يصلُ مسامع الحسين

فيصغي

ويرتجف.

 

النائحاتُ

على ولدٍ ليس لهنّ فيه سرّة

والمرضعاتُ، وقوفاً، على بركة النهار الآفل

والمريضاتُ

والمتحسّراتُ

والكاتماتُ ألماً

والمضمراتُ حزناً

والراجفاتُ

والقانطاتُ

والحائراتُ

والخائفاتُ

والعابراتُ إلى فقد ٍ شبيه

وخالياتُ الهم

إلا همّ الجنازة

والمهجوراتُ

والهاجراتُ

والنائحاتُ

النائحاتْ… .

 

طريق المقبرة

I

أمّهاتٌ، طيورٌ برياش سوداء

نزلنَ اليومَ بأقدامٍ راجفة

في الطريقِ

إلى “بسنادا” الرمادية.

أضأن

لبرهة، رهابَ البيوت على الجانبين

واختفين

في الدويّ الهائل

للحشود، على بقايا المتاريس.

 

صوتُ المعاول يصعدُ وينخفضُ

والامهاتُ الغارقاتُ في التجديف

بدموعهن الصامتة

يحترقن بنسيسٍ هادئ، تحتَ غيمٍ يتكاثف

ونيزكٍ ينهمر.

 

جناةٌ

وحفّارون بطيئون

محوقلون وحفظةُ سطور

في الطريقِ

في الطريقِ إلى مقبرة “بسنادا”.

 

تلك الوالدة

بكتفين لامعين، تصيحُ خلف القافلة:

لا تمتْ يا بني

لأني

زرعتُ لك حصصاً من الرمّان

في الجنّة.

 

القافلةُ تضربُ

على غير عجل، في ظلالِ الصنوبرِ الثقيلة

والجداولُ

تئنُّ من الهجران

 

مئةُ يد تصفقُ الهواء المثخن

ويدٌ

بمفردها للمراثي.

 

: لا تمتْ لأن في نيسان نحيلات فاتنات.

 

الملائكةُ والسحبُ

الملائكةُ والسحبُ وآلُ البيت

في الطريقِ

في الطريقِ إلى مقبرةِ “بسنادا”

 

جفّتْ صفوفُ الليمون

ونافخو الأبواقِ في الفرقة النحاسية

ذهبوا إلى النداءِ المخيف

رائحةُ البخورِ تكسّرتْ

وتلك الوالدة

بكتفين لامعين

على دربٍ ترابي تصيح:

لا تتركني يا بني

لا تمتْ

في حربٍ جائرة.                           

 

II

في أميال نائية، شمال المدينة

حيث القبور الجديدة تنمو

ومراكض الخيل

ومراقد الطيور المهاجرة

ثمّة باكيات

ينحنين ويصلحن الهبوب

ويمرّرن النهار من أغنية.

 

ويأتي

زوّارٌ وطلّابُ مغفرة

وجنودٌ فقدوا أطرافهم

وينتشرُ في الهواءِ الخفيف

بخارٌ

من الطمأنينةِ المتهورة.

 

الموتى يتجمّعون

بعد رحيل الكلّ، على آخر جثمان وصل

ويعيدون

ما كان يقالُ، نهاراً، كلّ نهار

 

يتبادلون الأخبار

وكلمات الأغاني

ويصلّحون الإيقاع، بسلاميات مهترئة

على الجدران الرطبة للقبور

 

صوتُ المقرئ الضرير

يتهدّج في البسملة

ثم يخفُّ

ويلتقطُ المصائرَ بإبرة حادة.

 

الطرقُ السحيقة

الطرقُ المغطاة بنباتات فاتنة

طرقُ المحاربين وطرقُ صنّاع الندم

تتقصّفُ

وتنزلُ على سموتها

غمامات بيضاء.

 

تلك الطرق، مسار الأمهات الباكيات

حين يئزّ في العراء، دويّ عابث

ويعلو صوتُ المقرئ الضرير

وتهدّجه في البسملة.

 

في أميال نائية، شمال المدينة

يقدّم الصيف نهاراً إضافياً للخريف

وينبسطُ النجيل.

 

أرواح الغائبين

كلّ عشر، عشرين

أو ثلاثين من صيفيّات مماثلة

كلّ عشر

عشرين أو ثلاثين

من وصول ٍ مفاجئ لقطارات هادرة

يترجّلون

وينحنون قرب الأعمدةِ بتوجّس

يحاولون أن يظهروا للمارّةِ والحرّاسِ والمفتشين

كأنهم هنا منذ الأزل

سكّانُ المحطةِ السابعة عشر الأبديون.

 

ينزلون

من ابتساماتٍ مجرّحة

من صورٍ في المحافظِ، بابتساماتٍ مجرّحة

يردّدون أسماء

وألقابَ زوجات

يُظهرون الشهادات التي حصّلها أبناءٌ مهاجرين

أمام الأبواب

ظانّين أنها

ستتذكّر

وتبارك.

أن المشجب والسرير

الأدراج ووسائد القشّ وآية الكرسي

ستفرح

وتستجيب.

 

يفتشون الأمتعة

بحثاً عن حبّنا لهم

عن بهجتنا لوصولهم أحياء

من غرفة النوم إلى غرفة الاستقبال

ويغتمّون

ذلك أن الصيف الحادي عشر

أو الحادي والعشرين

أو الحادي والثلاثين، حلّ

والحربُ احتلّت

الكرسي الوحيد الفارغ

على مائدة العشاء.

 

يغتمّون

يغتمّون، وابتساماتهم المجرّحة تغيب

وأيامنا تتوسّل.

*****

خاص بأوكسجين


شاعر من سورية صدر له: "خَطُّ صوتٍ منفلش"" 2008، و""ثلم في تفاحة طافية"" 2010، و""التتمات وتفسير الربع الأول من السيرة الناقصة للأخير"" 2014، ""لا شيء مسلّ في الحرب"" 2015.rnrn"

مساهمات أخرى للكاتب/ة: