فصل المقال فيما بين البحر والمطر من اتصال
العدد 263 | 15 شباط 2021
مصطفى النفيسي


الذين تسرعوا وقالوا إنه شغب الطبيعة المحبب؛ الذين تريثوا وقالوا بأنه سجين وحيد في زنازن الغيم؛ الذين تجمهروا أمام الأنهار الطافحة كجروح لم تشف، وشمروا عن سواعدهم كأنهم كانوا يهمون بأن يفقأوا أعينها التي استفزت مشاعرهم؛ الذين ولولوا لأن الكهرباء انقطعت فجأة بسبب غزارته، فلم يعودوا يرون أي شيء؛ الذين لم يجدوا أحذيتهم القديمة ذات الأعناق الطويلة، ففاتهم المشهد؛ الذين وقفوا أمام النوافذ، وقهقهوا عاليا مادامت الظلمة المصوبة نحوهم كبنادق العدو لم تخف كل شيء؛ الذين ناموا قبل أن يسقط، فرأوه في أحلامهم فقط، وقاموا مذعورين، لأنه بدا لهم كأسلاك شائكة يحاول أحدهم تسييج غرف نومهم بها؛ الذين كانوا قد تخلوا عن مهنة الحياكة، ولكنهم فكروا الآن بالعودة إليها على عجل، مادمت خيوط الصوف الرمادية تنزل من السماء محاذية أياديهم وأنوفهم، وهي فرصهم الآن لينسجوا الزرابي التي لطالموا حلموا بأن تزين أبهاء منازلهم؛ الذين ادعوا أنهم سيذهبون إلى المقاهي، لكنهم اختلوا في ركن ما للتداول في شؤون تأخره الدائم أحياناً، وقدومه المفاجئ والمباغت في أحايين أخرى، و الأشبه بطلقات البنادق في الحرب حينما يشتد وطيسها؛ الذين وبخوا زوجاتهم، لأنهن اشتكين من الأرق بعد أن أصبح صوته أكثر إزعاجاً، وذلك حينما تحولت زعانفه إلى إبر تلامس وجوههن، وهن يدفن رؤوسهن في مخدات وثيرة مستوردة من تركيا، الذين كانوا قد هاجروا إلى بلدان أخرى، لذلك فاتهم التمتع بالبلل مثلما كان يحدث في أيام الطفولة البعيدة؛ الذين فكروا في أجدادهم، والذين  ماتوا للتو، ولا زالت جثثهم كاملة في قبورهم، والتي قد يصل إليها متسللا بين شقوق يكون قد تركها الحفارون والمشيعون؛ الذين فكروا بأنهم يجب أن يبكروا في الحرث السنة المقبلة، لأنهم تقاعسوا هاته السنة مستسلمين للوثة الجشع؛ المضاربون الذين كانوا قد اقتنعوا بعدم جدوى احتكارهم لسلع أساسية في الأقبية والرفوف، مادام الموسم الفلاحي سيكون مزدهراً؛ تجار الماشية المحنكون الذين أقسموا بأنهم مجرد هواة، لأنهم باعوا قطعانهم أيام الجفاف التي سبقت بقليل قدومه الفظ والمدوي هاته المرة؛ الورعون الذين صلّوا صلاة الفجر وهم يتمتمون بدعوات غامضة متضرعين للسماء بأن يتوقف الآن فقط، وليأت في أوقات أخرى؛ الأطفال الذين جربوا في الغد ملابسهم الصوفية، والتي اشتاقوا إليها، بعد أن استسلمت لسبات طويل في رفوف خزانات الملابس المطلية كلها باللون البني؛ طلبة الفلسفة الذين استنجدوا بأرسطو لتحديد علله الأولى؛ طلبة التاريخ الذين حاولوا التكهن بسبب انقطاع الأمطار في سنوات الجفاف؛ طلبة الجغرافيا الذين اعتبروا أن المطر مجرد شيء مبتذل في أمكنة أخرى من العالم، لأنه يسقط طيلة السنة؛ طلبة الكيمياء الذين اعتبروا أنه مجرد غيوم مفككة إلى أجزاء صغيرة؛ التلاميذ الذين كانوا يحاولون فك شفرة سلالته من أجل الظفر بشهادة الباكلوريا. كل هؤلاء أغفلوا أن الأب هو البحر، والأم هي الغيوم، والإبن هو المطر، والأحفاد هم الأنهار والسواقي.

*****

خاص بأوكسجين


كاتب وقاص من المغرب. من اصداراته مجموعة قصصية بعنوان "تطريزات على جسد غيمة""."