غاليانو: نحن أكثر جمالاً مما صوِّر لنا
العدد 172 | 04 أيار 2015
حوار: غاري يونغ/ترجمة: شادي خرماشو


هو مشهد يتكرر كل صباح. يجلس إدواردو غاليانو، الكاتب والشاعر والباحث الأوروغواياني، بسنواته الـ72 على مائدة الفطور مع زوجته هيلينا فيلاغرا، ويروي كل منهما للآخر ما هبط عليه من أحلام في الليلة السابقة. يقول غاليانو “ما يميز الأحلام التي أراها أنها غبية دائماً. أنا عادةً لا أتذكر ما أراه من أحلام، وعندما أتذكرها، تكون في معظمها أحلاماً فارغة تدور حول قضايا سخيفة، كتفويت موعد الطائرة أو إحدى المسائل البيروقراطية. أما زوجتي فلا ترى إلا أحلاماً جميلة”.   

كانت قد حلمت في إحدى الليالي بأنها مع جمع من الناس في مطار كل المسافرين فيه يحملون معهم الوسائد التي ناموا عليها في الليلة السابقة. وقبل أن يُسمح لهم بالصعود إلى الطائرة، يأتي بعض الموظفين ويمررون الوسائد على جهاز يستخرج الأحلام التي شاهدها من نام عليها في الليلة الفائتة ليتأكدوا من خلو هذه الأحلام من أي أفكار هدامة أو تخريبية. عندما قصَّت زوجته عليه هذا الحلم شعر بالخجل من تفاهة أحلامه. “إنه لأمر مخزٍ بالفعل”. 

ليس هناك الكثير من السحر في واقعية غاليانو. لكن ليس فيها ما هو مخزٍ في الوقت نفسه. هو الصحافي ابن السبعين عاماً الذي أصبح كاتباً ارتقى إلى منزلة شاعر الأمة المناصر للحركات المناهضة للعولمة عبر إضافة نفَسه الشعري الحالم إلى عالم السرد الواقعي. عندما دسّ الراحل هوغو تشافيز نسخة من كتاب غاليانو الذي صدر في العام 1971: “الشرايين المفتوحة لأمريكا اللاتينية: خمسة قرون من نهب القارة” في يد باراك أوباما أمام كل صحافة العالم في العام 2009، قفز الكتاب في ترتيبه على موقع “أمازون” الإلكتروني من المركز الـ54،295 إلى المركز الثاني في يوم واحد فقط. وعندما أعلنت أرونداتي روي عن عزم غاليانو الذهاب في رحلة إلى شيكاغو خلال إحدى جولات القراءة، هلل الحشد وطرِب. وعندما وصل غاليانو في شهر مايو كانت نسخ الكتاب قد بيعت كلها، وقد تكرر هذا السيناريو في أغلب محطات جولته. 

“ثمّة تقليد يُنظر من خلاله إلى الصحافة على أنها تجسيد للجانب المظلم من الأدب، وإلى تأليف الكتب على أنه رأس هرم الإبداع الأدبي”. هذا ما قاله غاليانو لصحيفة El Pais “البلد” الإسبانية مؤخراً. “أنا لا أوافق على هذا الكلام. بل أعتقد أن أي فعل كتابة يضم أدباً بين كلماته، حتى الكتابة على الجدارن (الغرافيتي). صحيح أنني قد ألّفت العديد من الكتب على مر حياتي، لكنني بدأت الكتابة وتمرست فيها كصحافي، وما زلت إلى الآن ممهوراً بختم الصحافة، وممتناً لها لأنها فتحت عيني على حقائق العالم”. 

تطل علينا تلك الحقائق بوجهها المجرد والكئيب. يقول غاليانو: “لا شيء في هذا العالم يمت للديمقراطية بصلة. المؤسسات الأكثر قوة وتأثيراً في العالم، صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، هما حكر على ثلاث أو أربع قارات. بينما تكتفي باقي القارات بالفرجة. إنه اقتصاد الحرب وثقافة الحرب ما يديران هذا العالم ويحددان مساراته وطريقة عيش من فيه”

مع كل هذا لا نجد في أعمال غاليانو ولا في سلوكه أي أثر لليأس أو السوداوية. عندما كان في إسبانيا أثناء انتفاضة الشباب الغاضب منذ سنتين، التقى ببعض الشبّان المحتجين في “بوابة الشمس” في مدريد. منحت هذه المظاهرات غاليانو نفحة من الثقة والأمل. وقال في وصف المتظاهرين: “كانوا شباناً يؤمنون بما يفعلونه. ليس من السهل أن تحظى بذلك في الأوساط السياسية. أنا ممتن لهؤلاء الشبّان من كل قلبي”. 

سأله أحد هؤلاء الشبّان كم من الوقت برأيه سيكونون قادرين على الاستمرار في انتفاضتهم. فأجابه قائلاً: “لا تقلق. الأمر شبيه بفعل الحب… بمجرّد أن يبدأ يصبح أزلياً حتى لو انتهى. لا يهم إن عاش دقيقة واحدة فقط. ففي خضم ممارسة الحب يخرج الزمن من عقاله، وتصبح الدقيقة أطول من سنة”. 

كثيراً ما يستخدم غاليانو هذا الأسلوب في حديثه… هو لا يتحدث بالألغاز، لكنه يقول ما يريد قوله بشكل مبهم ولعوب مستخدماً الزمن كسلاح ودريئة. عندما أبادر إلى سؤاله ما إذا كان متفائلاً حول الوضع الراهن في العالم، يجيب “هذا مرهون بالوقت الذي تطرح فيه علي هذا السؤال. من الثامنة صباحاً إلى الواحدة ظهراً أكون متشائماً. أما من الواحدة إلى الرابعة فأصاب بالتفاؤل”. التقيت به في ردهة فندق يقع وسط شيكاغو في الخامسة مساءً جالساً بصحبة كأس كبير من النبيذ، والسعادة بادية على محياه. 

آراؤه ونظرته إلى العالم ليست معقدة: المصالح العسكرية والاقتصادية تدمّر العالم، وتكدّس المزيد من القوة في أيادي الأغنياء وتسحق الفقراء. ونظراً للعمق التاريخي الذي تتميز به أعماله، فمن غير المستغرب أن تعثر بين صفحاتها على شواهد وأمثلة تعود إلى القرن الخامس عشر وما قبله حتى. هو لا ينظر إلى الوضع الراهن على أنه كينونة جديدة قائمة بحد ذاتها، بل استمرارية لسلسلة متصلة من الأحداث على كوكب موبوء بالغزو وما ينتج عنه من حركات مقاوِمة. يقول غاليانو: “التاريخ لا يقول لكم وداعاً أبداً… بل أراكم لاحقاً”.

 

قُل عنه ما تشاء، لكن إياك أن تتهمه بالسطحية. على الرغم من أنه ناقد لاذع لسياسة أوباما الخارجية، ومع أنه عاش في المنفى لأكثر من عقد كامل خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، إلا أن ذلك لم يمنعه من الاحتفال بالمعاني الرمزية لانتخاب أوباما من خلال بعض الحيل اللغوية. “كنت في غاية السعادة عندما تم انتخابه، لأننا نتحدث عن بلد يتمتع بتراث من العنصرية ما زال قريب العهد”. يروي لي كيف اتخذ البنتاغون في العام 1942 قراراً بمنع نقل الدم من شخص أسود إلى شخص أبيض “هذه المدة لا تُشكل شيئاً في التاريخ. سبعون عاماً من عمر التاريخ تعادل دقيقة من حياتنا. لذلك كان فوز أوباما برئاسة دولة كأمريكا يستحق احتفالاً”. 

كل صفاته – الغامض واللعوب والتاريخي والواقعي – تتماهى معاً في كتابه الأخير “أولاد الأيام” Children of the Days الذي يُفرد فيه مقالة تاريخية وجيزة لكل يوم من أيام السنة ليتمكن بذلك من إعادة إحياء لحظات من الماضي من خلال وضعها في السياق الحاضر، فتراه في صفحات الكتاب متنقلاً بين الحقب التاريخية ليرسم لنا صوراً نرى من خلالها الصيرورات والاستمراريات التي تربط الأزمنة ببعضها. يقدم لنا غاليانو في هذا الكتاب كشفاً شعرياً ساخراً يقتلع فيه تلك القصص التي فُقدت أو سُرقت من جذورها، ويسردها بكامل مجدها أو رعبها أو سخفها. 

تبدأ مقالته المخصصة للأول من يوليو بعنوان: “إرهابي واحد أقل”. ويقول فيها: “في العام 2008 قررت حكومة الولايات المتحدة الأمريكية حذف اسم نيلسون مانديلا من قائمة الإرهابيين الخطرين. هذا الذي يُعد أكثر الأفارقة احتراماً وتبجيلاً في العالم كله لبث أكثر من 60 عاماً على هذه القائمة الملعونة”. كما يطلق على يوم 12 أكتوبر عنوان “الاكتشاف”، ويبدأه بعبارة: “في العام 1492 اكتشف السكان الأصليون أنهم هنود، واكتشفوا أنهم يعيشون في أمريكا”. 

 

أما يوم 10 ديسمبر الذي يحمل عنوان “الحرب المباركة” فيُفرده للحديث عن حصول أوباما على جائزة نوبل للسلام، وذلك في الوقت الذي تفتقت فيه قريحة أوباما عن مقولة “ثمة أوقات تدرك فيها الشعوب أن استخدام القوة ليس ضرورياً فحسب، بل له تبريراته الأخلاقية أيضاً”. يكتب غاليانو: “قبل ذلك بأربعة قرون ونصف، عندما لم تكن جائزة نوبل موجودة بعد، وكان الشر مقيماً في بلدان لا تخبئ أجوافها النفط، لكنها تزخر بالذهب والفضة، دافع الفقيه القانوني الإسباني خوان غينيس دي سيبولفيد عن الحرب قائلاً: “ليست ضرورية فحسب، بل مبررة أخلاقياً أيضاً”. 

 

على هذا المنوال تراه يقفز من الماضي إلى الحاضر، ومن الحاضر إلى الماضي مرتحلاً بين العصور ومبيناً الصلات القائمة بين الماضي والحاضر والمستقبل، والاستمراريات التي تربط كل الأزمنة معاً بدهاء ملوّن بالمرارة والسخرية. يقول إنّ جلّ ما يرغب فيه هو إزالة الغشاوة عن ما يسميه: “ألوان الطيف البشري. هي أجمل بكثير من ألوان قوس قزح الذي يظهر في السماء. لكن جنوحنا إلى استخدام القوة واستعراض العضلات ونزعاتنا العرقية تعمي بصرنا وبصيرتنا فلا نستطيع إلى رؤيتها سبيلاً. هناك العديد من الطرق التي نصبح من خلالها عمياناً لا نبصر، ومنها أن نكون عاجزين عن رؤية الأشياء الصغيرة والأشخاص البسطاء”. 

هو يعتقد أن أقصر الطرق إلى العمى لا تكون بفقدان البصر بل بفقدان الذاكرة. “أخشى ما أخشاه ان نسقط كلنا في متاهة فقدان الذاكرة. أنا أكتب لأستعيد ذاكرة الطيف البشري المهددة بالضياع”. 

يضرب لنا مثالاً تاريخياً مستشهداً بروبرت كارتر الثالث – الذي لم أسمع به من قبل – وهو الوحيد من بين الآباء المؤسسيين للولايات المتحدة الذي حرر كل عبيده. “لأنه ارتكب هذه الخطيئة التي لا تُغتفر، حُكم عليه بالنسيان والخروج من ذاكرة التاريخ”. 

أسأله من المسؤول عن هذا النسيان، فيجيبني: “إنها منظومة القوة التي تقرر دائماً باسم الإنسانية من يحق له أن يرسخ في الذاكرة، ومن يستحق أن يسقط في غياهب النسيان… نحن أهم بكثير مما أوحي إلينا. نحن أكثر جمالاً مما صوِّر لنا”. 

____________________________________

إدواردو غاليانو، باحث وروائي وصحفي أوروغواياني، ولد عام 1940 وتوفي في 13 نيسان/ أبريل 2015.

الصورة للفوتوغرافي التشيلي سيرجيو لاراين Sergio Larrain

*****

خاص بأوكسجين