عِبيد
العدد 202 | 10 تشرين الثاني 2016
رضوان آدم


لم يكن أمام من يسكنون خلف الحوائط والأبواب والنوافذ وقِيل روح أمه أيضاً إلا الاستسلام. الجميع يترقب نتائج أنّاته التي تكتم أنفاس نجع العرب عند مطلع كل فجر. كانت كل نوبة سُعال منذ ثلاثين عامًا عدا هذه الليلة تنتهي قبل السابعة صباحًا. يعود بعدها عبيد البيّاض إلى النوم. الآن يتلوى كجنين في بطن غرفة جرداء إلا من شموع تنطفئ عندما تنغلق جفونه على آخر صوت لأطفال النجع الحُفاة. كانت الأمهات ترسلهم وتعدهم بالحلاوة إذا أتوا بخبر عبيد الذي يبذر اللعنة بيديه المخيفتين.

 بمرور السنين كبُر الأطفال. كبرت شائعة أن البيّاض لا يموت: عبيد ليس من لحم ودم كباقي البشر. جلده مانع للرصاص. بلا روح. لديه ستُ أرجل وستُ أذرع وألف أذن ويطير في الليل. مرة ارتفع معدل الوفيات في النجع فصرخ الناس في جنازة كبيرة: “اللهم أنزل سخطك على عبيد البياض. اللهم اقلع أنفاسه من صدره.. آمين”.

بعد أيام حصد مرض غامض عددًا كبيرًا من بهائم النجع: عشرين جاموسة وخمس عشرة بقرة فخرجت النساء خالعات طرحاتهن إلى الحقول. في طريق عودتهن عرجن ورفعن الأكف تحت بيت عبيد البياض. طلبن منه الرحمة بالأطفال والحوامل. أحد رجال الدين مشى في الناس وطلب منهم أن يذكروا محاسن عبيد. طرق الشيخ كل باب وأوصى بعدم سب عبيد حتى في السر. دعا الشيخ ناس النجع أن تقتصد في الطعام وتكثر من الدعاء وتُخّزن قمحًا فقد يموت الشجر وتقع مجاعة ويدخل النجع في سنين عجاف.

 ماذا يجري الآن عند بيت البيّاض؟ الرجل الذي لا يُقهر يسعل من أجل الموت. حفظ النجع مواعيد سُعاله كأنها مواقيت صلاة. في المرات العادية لا تزيد نوبات السُعال عن خمس: تتلقى نوافذ البيوت أول لطمة فتُعلم بعضها البعض بالعاصفة. في بداية النوبة الثانية تُصدر النوافذ ما يشبه طرق الأطفال فلا تتحطم. كان عبيد يبدأ بنوبة قصيرة ثم متوسطة، قبل أن ينام كيسًا من العظام يسعل سائلاً من قطران، خلطه عبيد المُرهق بحكايات مبتورة عن محبوبته السمراء وأمه التي ماتت كمدًا على ابنها الخائب.

هذه الليلة تزوره النوبات أبكر من أي مرة. يشهق عبيد شهقات طويلة تطوق أطراف النجع. يسعُل ذكريات وحكايات واضحة يسمعها المترقبون في ساحة بيته المهجور. رائحة قطرات الدم والبلغم الناري تنُطّ من صدره كفرقة مظلات.

يبدأ عبيد المراسم بسُعال مميز يبدو كمقدمة لموسيقى جنائزية. أقفاص البيض القديم التي تتحرك بالليل وتُجهز الطعام لعبيد وتحرس البيت من السرقات وتهاجم بيوت النجع سدّت الطريق المؤدي إلى غرفته في الطابق الثالث. خاف الناس من لمسها لا من تحطمها، وهي تحاصر البيت وتغير أماكنها في كل دقيقة. كان البيت يهتز كمركز زلزال عندما يضطرب صدر عبيد.  

بدأ عبيد نوبته الأولى في الثانية عشرة صباحًا. فهمت الناس الإشارة. ماتت أمه في هذا التوقيت قبل خمس سنوات. ظلت تبكي شهرًا في سقيفة البيت إلى جوار الحمارة البيضاء التي ماتت بعدها بأسبوع. لم يبكها النجع لأنها أورثتهم بلاءً كبيرًا. كانت أم عبيد تسعل سُعالاً جافًا وتنزف دمًا من أنفها وتصرخ بالليل. عندما كان عبيد يستيقظ على صوتها كان يغلق باب غرفته الفوقية ويقهقه من عروقه ويسبها أبشع السباب لأنها تؤرق نومه. أبى عبيد مرات كثيرة أن يُنجدها. بعد المرة الأخيرة وجدها إمام النجع تبحلق في التراب وتمد يديها. كانت تُمسك فيهما ثلاث بيضات. رأسها كان مدفونًا في كومة وقيد إلى جوار الأقفاص. عندما طرق الإمام باب عبيد ضربته رعشة. وقع من فوق السلم ثم تخشب ومات. اكتشف أهالي النجع الرائحة العفنة بعد ثلاثة أيام. دفنوا الجثتين في الجبل ودعوا على عبيد الذي قتل أمه وأسكت قلب الشيخ الطيب.

مع اشتداد السُعال يبكي عبيد الآن بكاءً لم يسمعه النجع من قبل. برودة شديدة تضرب صدور الناس المنتظرين خبره في الأسفل. اخترق أحدهم الباب الرئيسي لبيت عبيد. حاول أن يصعد السلم لكنه تراجع بعد أن تذكر واقعة الشيخ. عاتبته الناس قبل أن ترتفع أنفاسهم بالقلق والترقب.

قفزت درجة حرارة غرفة عبيد البيّاض بفعل ضربات السُعال. سطع نور الغرفة أكثر. دبت فيها موسيقى متسارعة غريبة كأن إيقاعها يطارد لصًا. فُتحت الأفواه. صوت غريب يتبع الموسيقى. يظهر ويختفي فجأة وينشد بلغة غير مفهومة. حلقت الطيور فوق سماء النجع جيئة وذهابًا. تحركت في خطوط نصف دائرية فظن الناس أنها علامة من الله. يرد عبيد بسعال قصير حاسم. توقفت الموسيقى واهتزت جدران البيت كأنها ستهوي الآن في باطن الأرض. أعادت الناس انتشارها بعيدًا عن حدود البيت. انتزع عبيد البيّاض من صدره زفيرًا مريرًا طويلاً. صرخ باسم لم يسمعه أحد غيره. نطق عبيد ثلاث عبارات بلكنة غريبة ثم سكت لدقيقتين.

مات؟. سامعه بيطّلع في الروح. قال شاب.
ما ماتش. روحه لسه صاحية. دي بس سَكرات الموت. اسكتوا خليها تعّدي وربنا ياخده. رد أحد العجائز الذي ماتت كل بهائمه في الشهر الأخير.

طالت فترة السكون. زادت الناس من تضرعها إلى السماء. كمن يحتج عليهم خيّب عبيد ظنونهم. كحّ بصوت عال. منحته النوبة التالية هدنة طويلة. يمسح عبيد جبهته بطرف جلبابه فيلتقط عرق النوبة. يبكي عبيد حليمة: فتاة أم درمان التي تركها وسافر بالباخرة إلى أسوان ومنها إلى نجع العرب. يعض لسانه. بقايا الأسنان التي شوهتها الفطريات تُسقط قطرة دم تسكن شعر ذقنه. وعدها عبيد بالزواج فقطّع أهلها أعضاءها التناسلية ثم جلدوها ساعتين وأحرقوها في النار. حملت الفتاة سفاحًا من العامل المصري. هرب عبيد قبل أن تصل إليه حليمة بصُرّة ملابس وعشرة جنيهات سودانية. يتحسس شعر لحيته الطويلة. اختلطت دموعه الحارة بنقاط دم لا يعرف عبيد مصدرها.

كأنها حليمة! شعر عبيد البياض بيديها تُكحل عينيه. تنفرج أساريره ويحتضن الهواء. ابتعدت حليمة عنه مسافة مترين. طلب منها عبيد أن تقترب. توسل أن تسامحه.

يعاتبها: “زعلانة مني. أنت اللي اتأخرتي يا حليمة. أنت اللي أتأخرتي.. أنا.. أنا..!”. أخرسته الدموع في نهاية النوبة الثانية.

كادت النوبة الجديدة تقلع مقلتيه. قوتها كانت في المفاجأة. صرخ عبيد البيّاض من صعوبتها لكنه نجح في العودة إلى العالم. ببطء عادت ضلوعه مكانها. أنفاسه الحارة تعتدل تدريجيًّا في صدره. كان الموت أسهل عليه من الآلام التي تتحرش برأسه وصدره. قام عبيد من فوق سريره الطيني. نصب ظهره لكنه لم يتمكن من الوقوف. زغللة العينين أعمت قدميه عن أرضية الغرفة. بكى أمه التي اختفت منذ زمن بعيد. يشتَّم عبيد رائحتها في الصندوق الحديدي. يغطي رأسه بقطعة من ملابسها. كانت آهات عبيد مسموعة حتى للبهائم. ثلاث شهقات متوسطة وثلاث زفرات مماثلة كانت كفيلة بالكشف عن سُعال طقطق في ظهره وأخاف الأهالي.

تسيل الدموع من عيني عبيد. يستغرب لأنه لا يجد أثرًا لكُحل حليمة. يفتش عبيد عن نفسه فيجد ظهره وصدره وباقي أعضاءه كما هي. لا يلتفت إلى حليمة التي تتحرك في الغرفة على مَهَل. يعاتبها عبيد مجددًا لأنها تأخرت عن موعد انطلاق الباخرة. انتظرها عبيد ثلاث ساعات متواصلة. كان الاتفاق أن يتقابلا وقت العصر في الزراعات المجاورة للباخرة الإنجليزية – المصرية التي ستتحرك قبل غياب الشمس. لما طال الوقت بعبيد فوق حافة النيل حذّره قبطان الباخرة من أن الباخرة ستتحرك من دونه. جفت روح عبيد لأن حليمة لم تظهر. ترجى عبيد القبطان إمهاله عشر دقائق إضافية لكن الصافرة كانت أسرع من الرد.

عندما تحركت الباخرة ارتاب الركاب من أمر عبيد. راقبوه وأنقذه أحدهم من الانتحار. حاول خنق نفسه بحبل غليظ. تعارك معهم ثم تخشّب. عندما أفاق أشربوه حشيشًا فهدأت روحه. عندما نام كان يتمتم بكلام غير مفهوم ويحرك يديه في الهواء. سألته حليمة: راقد ليه كده يا زول يا حبيبي؟. ارتبك عبيد ولم يرد. مسحت حليمة على رأسه بكف يدها الرطبة ثم أغلقت عينيه. لم يجد عبيد ردًا. تركته حليمة ينام لمّا لم تسمع منه شيئًا. أفاق عبيد كبغل. وجد أنفه مدفونًا بين أحذية متعفنة.

أزاح عبيد رأسه ناحية باب غرفته فسمع ضجيجًا في صحن البيت. ظنّ أنها أمه تبيع البيض لنسوة النجع. لم يهتم وشدّ رقبته التي كادت تهوي برأسه. تحاول أنفاس عبيد قذف كتلة من البلغم خارج صدره لكنه يقاوم. كانت ساخنة ولها صوت فخاف أن تسحب روحه معها. يضرب عبيد بطنه وصدره بكف يده اليمنى. تفرق البلغم في أنحاء عدة في معدته ثم خرج في كحّات متقطعة وبطيئة.

أظلمت غرفة عبيد البياض فاعتقد النجع أن عبيد مات. هدأ صوته وتوقف اهتزاز البيت والنباح.

“الله يرحمه”. قال إمام النجع في هدوء.

كأن الشيخ أفتى بموت عبيد. هاج أحد شباب النجع. فتح باب البيت ببلطة كبيرة. تحرك ببطء كمن يمشي فوق منطقة ألغام. استيقظ الأطفال وخرجوا من البيوت مع أمهاتهم.

صاحوا في شوارع النجع: “عبيد البيّاض مات. مات عبيد ابن الكلاب”.

تحركت أقفاص البيض وأفسحت الطريق للشاب. صعد أول درجتين مُمسكًا ببلطته الحادة. عندما وصل إلى الدرجة القريبة من غرفة عبيد اختل توازنه. صرخ الشاب فتراجعت صفوف الناس إلى خارج البيت. عادت الموسيقى والأنوار فجأة عندما سقط المتسلل من فوق السلّم وأفلت من لعنة عبيد البيّاض. سال أنف عبيد دماءً سوداء. تقلب فوق سريره كذبيح. تورمت رأسه من ضربات السُعال. فكر أن يفتح باب الغرفة ويهرب لكنه يخاف من الضجيج.

صفعته النوبة الرابعة. كانت نوبة جافة: هواء ساخن وبقية من روائح سطح الباخرة. يضرب الناس الأكُف من الحيرة. رأى عبيد حليمة تتوجع وتطلب منهم الرحمة. تبول على نفسه والتصق بحائط.

يتذكر عبيد الآن وجه التاجر الذي أبلغه بموت حليمة. حكت حليمة لابنة عمها أنها ستهرب إلى مصر بعد يومين مع عبيد. طلبت منها حليمة أن تُبلغ أمها بعد السفر بيوم. لم تحفظ ابنة العم السر. كانت تُغازل عبيد فيسكت. لمّا شكاها لحليمة ضحكت وقالت لعبيد إن وردة صغيرة وتلعب.

بعد مرور ساعة على إقلاع الباخرة وصل أهل حليمة بالسيوف وكرات نار. كانت حليمة تتقدمهم مقيّدة بالحبال. كان الدم ينزف من قدميها ورأسها. جروّها قرب رصيف الميناء. رصّوا كومة كبيرة من الخشب وربطوا حليمة فوقها. سكبوا الزيت وأشعلوا النيران في الخشب. يرتفع صراخ حليمة فينكمش عبيد. حاصره صوتها وشعر أنه يختنق. أوقف أهل حليمة الرقص بالعصا بعد أن صارت عظام ابنتهم رمادًا. يتكور السعال في خطوط ويصعد إلى رقبته ثم ينزل في معدته فجأة. لا يبتهج عبيد لأنه يعرف أن السُعال يتجول في صدره باحثًا عن فرصة.

في الثالثة صباحًا قاربت النوبة السابعة على الانتهاء. لم يتوقف عبيد عن الصراخ خلال النوبات الصغيرة المتتالية. التف تراب كثيف في سلاسل حلزونية حول زِمام النجع. من الناحية الواصلة إلى الجبل هبت ريح مُحملة بحصى ورمال وهواء بارد. لطمت الريح الناحية البحرية لغرفة عبيد ووقعت على الأرض. رسمت علامة كبيرة بقيت في مكانها ثلاثة أيام. لم تؤثر الريح في عبيّد البياض الذي كان يبحلق في سماء الغرفة. كانت حليمة تلتصق بالسقف وتحّدق فيه.

ارتعش عبيد وضربته برودة. عندما بدأت النوبة الثامنة عملها كان عبيد شبه مشلول. وقع من سريره على الأرض فتأذت ركبته اليمنى وتصدّع كف يده اليمنى.

ارتطام عبيد بالأرض أحدث هزة كبيرة في البيت قبل أن تشعر بها بيوت النجع. تفرق الناس وصرخت النسوة الحوامل. ربطهن أزواجهن بالسرائر. القلة التي بقيت حول البيت ظلت حذرة وبعيدة بمسافة كبيرة عن مدخل بيت عبيد. توقعت أن تنفجر غرفة عبيد البياض في أي لحظة فتشعل النار في النجع.

يشعر عبيد بخيبة كبيرة. بدا كأنه استرد عقله. يفرك عينيه وينظر إلى سقف الغرفة باستغراب. صدّعت العُزلة روحه أكثر من الجدران. في مرآة صغيرة تظهر رأسه كجمجمة هاربة من مقبرة. بائع البيض الستيني بدا بملامح رجل في عامه المائة. جلد وجهه كان قطعة خرّمها الزمن بدوائر مصبوغة بالأبيض والأسود والبني. في صدره تستقر رئتان استعمرهما جيش السُعال وبنى قواعده المتينة.

اشتم عبيد رائحة نوبة تنطلق ببطء من قعر معدته. حاول أن يقاومها. شفط بطنه وتنفس ثلاث مرات. كان يشعر أنها نوبة شديدة. عندما أسرع السعال تقيأ عبيد واحمر وجهه. يتنفس بصعوبة ويتأوه. تحركت عينا عبيد باحثة عن مخرج. الوصول للنافذة مستحيل لأنه غير قادر على الحركة. يبلع عبيد ريقا من روائح نتنة وأسراب من الميكروبات. يرمي جسده فوق أرضية الغرفة. شعر أن قلبه سيتوقف فخفّف من حمولته. نصب ظهره فاقترب من باب الغرفة الذي يحرس الظلام.

يشعر عبيد بقشعريرة في محيط قفصه الصدري فيغلق فمه احتياطيًّا. ضربت مؤخرته الباب فأحدث صوتًا. ضربت النوبة صدر عبيد ثلاث ضربات متسارعة ومؤثرة. ظن الناس أن معركة تدور بين عبيد والشياطين الذين يسكنون روحه.

رأى عبيد توابع النوبة تقترب مجددًا فالتصق بالباب. بكى حتى تألمت عيناه. بصوت غير مسموع ارتفع منسوب البلغم في صدره. ارتعشت ساقاه. تؤلمه يده اليمنى. خرج البلغم من فمه مرة واحدة وسحبه ناحية السرير. بقي قلب عبيد يكافح من أجل البقاء. داخل بطنه كان السُعال يُمهّد رويدًا رويدًا طريقه. رطبت النوبات عظام عبيد فصارت هشة كالزجاج. تحرك عبيد قرابة الخمسين سنتيمترًا وأمسك بالحصير الذي يغطي سريره. سحبه وزعق بأعلى صوته كأنه يستنجد بالنجع. بينما يتلوى عبيد كان السُعال يشوي أمعاءه. 

على غير عادة النجع تدافع الشيوخ والصبية والأطفال إلى صلاة الفجر. دخلت نوبات عبيد البيّاض ساعتها السادسة. يخترق دعاء المُصلين شقوق غرفة عبيد. بيتان فقط يفصلان بين بيت عبيد والمسجد. الهواء البارد الذي يهاجم غرفة عبيد يُجرب اختراق الغرفة من بابها. في دقيقة واحدة ضرب الهواء الباب بالحصى وأحدث صوتًا مخيفًا. انخلع قلب عبيد. لم يسقط الحصى على الأرض. ظن عبيد أن هناك من يحاول دخول الغرفة لقتله. سمع أنفاساً غريبة تُخربش في الباب. أغلق عبيد عينيه فانفتحت أذناه على صوت رقيق يغني على نفس الإيقاع الذي سمعه أول الليل. نفس الرنة العميقة التي لامست روحه. يتغير الإيقاع الموسيقي الآن. يشتَّمُ عبيد عرق حليمة. الصوت الذي يسمعه كان لخُلخالها الفضي. تمشي حليمة في الغرفة لكن لا يراها عبيد. اضطرب صدره بأنفاس سريعة. كلّمها وطلب منها أن تتوقف عن تعذيبه فلم ترد عليه. هربت حليمة فجأة واختفت رائحتها. عندما ينظر عبيد في الثغرة التي فتحتها الريح في النافذة يرى أمه تراقبه وتقهقه. شعر عبيد أنها كانت موجودة وهو يكلم حليمة. ضربته برودة لكنه تماسك ونادى على أمه التي لم تتكلم. كسّرت بيضًا كثيرًا ورمت قشره في غرفة عبيد ثم طارت في سماء النجع.

تتعارك أنفاس عبيد البيّاض. لا يعرف كيف فرّت ولماذا تركته في هذه الحالة الصعبة. يستغرب عبيد قهقهات أمه فيخاف أكثر. حاول أن يجمع قشر البيض من الغرفة فكان يهرب منه ويصعد إلى السقف. ارتعب عبيد وأغلق عينيه. عندما يدخل طرف نور الصبح من ثغرة النافذة يقف عبيد على قدميه.

بعد نصف دقيقة جرجرته نوبة مُركبة فوق أرضية الغرفة. عصر السُعال أمعاءه فنزف دمًا. أغلق عبيد فمه تلقائيًا بعد أن شعر أن أمعاءه ستخرج منه الآن. قام ومدد جسده فوق السرير. طارده السُعال وضرب صدره بعنف حتى أن قلبه كاد يتوقف. تهشمت ثلاثة ألواح من قفصه الصدري. ساد الهلع في كل أرجاء النجع. استسلم عبيد البيّاض فتوقف السُعال فجأة.

 يفتح عبيد النافذة على آخرها. قرر أن يتحدى النور والسُعال. أطلّ بعينيه الجاحظتين وشعر لحيته على الشارع. أغمض عينيه ثم فتحهما ببطء. شاهد عبيد رجالاً تهرب وأطفالاً تصرخ. نظر في سماء النجع وسرح. بحث عن أمه فلم يجدها. عندما يمد عبيد بصره ناحية الجبل يسمع صافرة القبطان تقترب منه. لا يتابع عبيد الاضطراب الذي يسود في النجع الآن ويراقب الصوت الذي يرتفع. عندما ارتطمت الصافرة بمسجد النجع أغلق عبيد النافذة بسرعة ودقة بالغتين. 

*****

خاص بأوكسجين


كاتب وصحافي من مصر. من أعماله مجموعة قصصية بعنوان "جبل الحلب"" 2013"

مساهمات أخرى للكاتب/ة: