عودة
العدد 232 | 08 حزيران 2018
منة الله جلال


مر الكثير منذ المرة الأخيرة التي وطأت قدماي أرض هذا المكان، مكاننا السري، هل تذكره؟ أذكر المرة الأولى التي أخبرتك عنه فيها كمن وجدت كنزًا دفينًا بعد أيام من البحث والتنقيب.

 “شرفة معلّقة في مبنى المدرسة المهجور، نعم معلّقة، فلا مخرج إليها إلا بجسر صغير من النافذة يصل بينهما، وهي خارج المبني لا جزءًا منه، يمكنني الآن أن آتي معك في كل مرة تذهب للعب الكرة، ومشاهدتك من علّ” هكذا أخبرتك، أجبتني بنبرة هادئة لا تناسب حماستي من اكتشاف بهذا القدر: “أليس خطرًا؟ المبني ضعيف، ربما تسقطين سهوًا”.

“لا تقلق، فأنا ضعيفة كما ترى، ولن أكون بعيدة عنك، يمكنك أيضًا أن تراقبني أثناء اللعب، لكن لا تلتفت إليّ كثيرًا لئلا يراني أصدقاؤك، هذا المكان سرّنا نحن فقط، ومن جهتي سأكون محتجبة خلف السور، فلن يراني سوى من يدقق النظر.”

“حسنًا، حسنًا، لكن احذري، ولا تذهبي من دوني..”

أنا هنا الآن، بدونك، للمرة الأولى منذ خمس سنوات وأكثر، لم أعد أدقق في حساب الزمان، فالأيام صارت أثقل مما خبرناه معًا، وإن كان مرورها سريعًا خاطفًا، كأنها تمر علينا أو فوقنا، تدهسنا، ولا تترك لنا متنفسًا للوقوف مرة أخرى أمام جريانها المتسارع، ربما لهذا عدت مجددًا إلى هنا، من أجل متنفس ما، لا أعلم أين كنت وكيف قادتني قدماي إلى هنا تحديدًا، لكنني على كل حال عدت.

النافذة والشرفة (المكان السري)، والجسر الواصل بينهما، كلٌ في مكانه كما هو، ولا شيء كما كان، أقف على طرف النافذة استعدادًا للوصول، لم أعد الطفلة الصغيرة النحيلة ذات الثلاثة عشر ربيعًا، أشعر بالخوف يبتلعني، خوف من السقوط أم من الألم أم من ماذا؟

لم أعهدني بكل هذا الخوف، وفي مكاننا السريّ تحديدًا الذي طالما شعرت فيه بخفة العصفور المحلّق في السماء، خارج حدود الزمان والمكان، أجلس على الأرض وأطل على العالم من علّ، وأمامي ساحة اللعب الخضراء والأولاد يصيحون وهم يلعبون الكرة، فأشعر بالامتياز عنهم وعن الفتيات في سنّي، أحضر معي روايات الجيب المصرية والعالمية التي أعتدت إعارتي إياها من مكتبتك التي كانت هي الأخرى بمثابة عالم غامض من الأسرار أحاول الولوج فيه، أحاول إنهائها سريعًا لأصل إلى درجة أتمكن فيها من قراءة الكتب والروايات الأخرى “كتب الكبار” كما كنت تصفها. لا زلت أذكر المرة الأولى التي أعرتني فيها كتابًا من هذه الكتب بعد الكثير من الإلحاح والتوسّل؛ “الجريمة والعقاب.. دوس… دوست…، كيف تنطق هذا الاسم؟” ضحكت قليلًا من سذاجتي ثم أجبت: “دوستويفكسي، لا يهم كيف تقرأين الاسم الآن، اقرأي الرواية نفسها، ولا تيأسي منها، ستحبينها، أعلم ذلك، وستكون أعظم ما قرأتِ في حياتك”. لم أخبرك أنني قضيت بعدها شهورًا لا أستطيع قراءة الرواية، ولم أستسغها، فكلما هممت بقراءتها شعرت بالملل الشديد، وكنت أظن أنها إحدى روايات الجريمة والغموض كقصص “أجاثا كريستي”، شعرت بالإحباط والخجل حينها من أنني لم أستطع أن أصل إلى عالمك (عالم الكبار)، ولم تفلح محاولاتي لمداراة ذلك في كل مرة تسألني عنها، فأدركت ذلك ولم تشأ إحراجي فعدت تسألني عن الأعداد الأخيرة من “ما وراء الطبيعة”، ولم تطلب مني الكتاب مرة أخرى من يومها.

ها أنا ذا، أجلس في الشرفة المعلّقة، يتملكني الذعر من خواطر لا أفلح في تجنبها عن لحظة السقوط، ومعي روايتي المفضلة “الجريمة والعقاب”، أفكر بك وبراسكولنيكوف وصونيا والعجوز، بمن ارتكبوا الكثير من الجرائم وأفلتوا من العقاب، بكل الأيام التي قرأت فيها الرواية وتمنيت لو سألتك عن رأيك في الشخصيات ونفسياتها والأحداث وعن دوستويفكسي، بعدما استطعت نطق اسمه بسهولة. أمر على الخطوط التي خططتها تحت بعض السطور وأحاول فك ألغازها، لماذا التفت إليها دون غيرها، ماذا تمثّل لك من معان؟ ولماذا رحلت عنّا هكذا؟

وأنا غارقة في خواطري، قاطعتني أصوات صادحة من الملعب، ألتفت إلى مصدر الصوت، فرأيت المشهد نفسه الذي اعتدت رؤياه منذ سنوات خلت، كانوا هم نفسهم، أصدقاؤك، أعرفهم جميعًا وأحفظ أسماءهم، بقمصان الأهلي الحمراء التي صرت أبغضها، بالألقاب التي اعتادوا مناداة بعض بها أثناء اللعب وخارجه، أقلّب في الوجوه بحثًا عنك، ويتملك قلبي الشعور أنني سأجدك بينهم، سأرى وجهك مجددًا، تسارعت ضربات قلبي حتى كاد ينفجر، وشعرت باهتزاز بسيط في أرضية الشرفة، فهممت مذعورة يتصارع داخلي خوفان، الخوف من السقوط، والخوف من ألا أراك. عدت إلى النافذة، ونظرت نظرة أخيرة إلى أرض الملعب، فلم أجدك، ولم أجد أصدقاءك، كان الملعب خاويًا، وخوى قلبي من كل شيء، حتى الخوف.

وجدت نفسي بعدها في غرفتي المظلمة الخانقة، وأمامي صورتك في المكان نفسه منذ سنوات، تطل منها ابتسامتك التي لم أستطع حتى وداعها، ما الضرر في السفر إلى بور سعيد لتشجيع الأهلى في إحدى المباريات؟ سافرت كثيرًا، وكنت تعود في كل مرة، استيقظت يومها ولم أجدك، علمت بعدها بسفرك، بنبرة صوت عادية لم تحمل أي تنبؤًا بالمستقبل، ساقت لي أمي الخبر، لم يعد أي شيء بعدها مثلما كان، حين رحلت ولم تَعُد.

هل كان حلمًا مجددًا؟ أنظر بجانبي فأرى رواية “الجريمة والعقاب”، ثم أعاود النظر إلى وجهك التي طالما تأملت فيه قبل النوم لأستطيع رؤيته في مناماتي، عاد أصدقاؤك الذين رحلوا معك اليوم، عادوا جميعًا إلى مكاننا السري، فلماذا لم تَعُد معهم؟

*****

خاص بأوكسجين

 


كاتبة من مصر.