عن “بائع الحليب” الفائزة ببوكر 2018
العدد 237 | 05 تشرين الثاني 2018
ليزا ألارديسي


تحدثنا المؤلفة التي عانت من آلام مبرحة وعجزت عن توفير الطعام لنفسها أثناء كتابة روايتها “بائع الحليب”، عن معنى أن تكبر خلال فترة “الاضطرابات” – وعن نجاحها الذي يشبه الأحلام.

من المؤكد أن الفوز بجائزة “مان بوكر” حدث له أن يغير مسار حياة أي إنسان، ولكن ليس أكثر مما فعل ليل الثلاثاء (16 أكتوبر/تشرين الأول 2018) حين تم الإعلان المفاجئ عن فوز رواية آنا بيرنز، لتصبح أول كاتبة من إيرلندا الشمالية تفوز بجائزة قيمتها 50 ألف يورو عن روايتها الثالثة، “بائع الحليب”.

بالعودة بالزمن لما قبل أربع سنوات، حين كانت بيرنز عاجزة عن الكتابة بسبب ما تعانيه من ألم مبرح في الظهر، بينما كانت تعيش متنقلة في أرجاء إنجلترا، تلزم بيتها حين يتاح لها ذلك، وتكافح لتغطية نفقاتها، وتلجأ إلى بنوك الطعام (التي شكرتها في الرواية). إلى أن تمكنت أخيراً من إرسال المخطوطة إلى وكيلها، ولترفض من قبل العديد من دور النشر. ولكن أي نهاية لهذه القصة.

“فكرت بذلك في طريق عودتي إلى الفندق ليلة الأمس،” أجابتني المؤلفة البالغة من العمر 56 عاماً حين التقينا. لم تكن قد نامت سوى سويعات بوصف ذلك تقليداً من تقاليد بوكر. “أعود بذاكرتي إلى 2014، عندما كنت أرزح تحت ذاك الألم الرهيب وأتساءل: إن كنت سأتمكن من إتمام “بائع الحليب؟” والآن أنا الفائزة بجائزة بوكر؟ أمران على طرفي النقيض… إنه شعور رائع، كما في الأحلام. هل حدث ذلك حقاً؟”

ما تزال تعاني من الكثير من الألم (نتيجة إصابة جراحية)، وقد أجريت المقابلة معها وهي تجلس على طاولة منخفضة، أو تنهض واقفة بشكل دوري. “ما زلتُ غير قادرة على معاودة الكتابة، لكن دعينا نغفل الحديث عن هذ الأمر اليوم. فمن الجميل أن أشعر بأني موسرة، فهذه نعمة كبيرة جداً.”

تدور رواية “بائع الحليب” في الظاهر عن صدمة النشوء في فترة “الاضطرابات” التي سادت بلفاست خلال السبعينيات. وعلى نحو غير متوقع فقد تمكنت من الفوز على الملحمة البيئية “نهاية القصة” لروائي من العيار الثقيل هو ريتشارد باورزو، و”واشنطن بلاك” لإيسي إيدوجيان (كلا الروايتين كانتا في القائمة القصيرة لبوكر مع “بائع الحليب”). تجري أحداث “بائع الحليب” في مدينة لا اسم لها، وفي فترة مجهولة (إلا أن بعض الإشارات إلى كيت بوش، سيغورني ويفر وفريدي ميركوري تعطينا فكرة ما)، ويتم التعريف بالشخصيات من خلال علاقاتها مع الآخرين فقط.

تتحدث بيرنز عن روايتها لتشرح “مع أنه من المعروف أن هذا الشكل المنحرف لمدينة بلفاسات، لا يعبّر حقيقة عن بلفاست السبعينيات، إلا أنه يروقني أن يتم اعتباره كأي من المجتمعات الاستبدادية المغلقة التي تنشأ في ظروف قمعية مماثلة. إنني أراها عملاً متخيلاً عن مجتمع يرزح بأكمله تحت ضغط شديد، يصبح فيه العنف المستمر لأمدٍ طويل أمراً طبيعياً.”

تنحو الرواية بطرق عديدة لتظهر مدى انحراف ذلك الاعتيادي، ويمنحها افتقادها للأسماء شيئاً من “الديستوبيا”. حتى أن معظم القراء وخاصة الأصغر سناً ممن لم يطلعوا على التاريخ الإيرلندي الحديث، قد وجدوا فيها موازياً لرواية مارغريت آتوود “حكاية الجارية” (ذا هاندميد تيل).

تتسم جميع روايات الكاتبة الثلاث – بائع الحليب “ميلكمان”، وإنشاءات صغيرة “ليتل كونستراكشنز” (2007) وبلا عظام “نو بونز”، التي كانت ضمن القائمة القصيرة لجائزة أورانج في عام 2002 –بأنها مبنية على مدينة بلفاست المنكوبة بالصراعات، حيث تستكشف التداعيات النفسية للعيش في مثل هذا “المجتمع المُستنفر”. لكنها ترى أن رواية “بائع الحليب” هي الأكثر سياسية، والأكثر جهراً بالمشاكل. وتقول إن الناس يسألونها: “هل مازلت تكتبين عن إيرلندا؟ عليكِ أن تنسي وأن تمضي في حياتك. ولكن كيف لي أن أنسى وأمضي بعيداً؟ وقد شكلت هذه”الاضطرابات” حدثاً هائلاً ومريعاً في حياتي، وفي حياة الآخرين، الأمر الذي يستدعي الكتابة عنها. ولمَ عليّ الاعتذار عن ذلك؟ إنه مجتمع ثري ومعقد للغاية وصالح جداً لنسج الروايات.”

تنتمي بيرنز إلى مدرسة من الروائيين الذين يجدون أن الشخصيات “تأتي وتخبر حكاياتها بصوتها الخاص”. كما أنها لا ترتاح للحديث عن أسلوب كتابتها. أما الآن وقد تمّ الكتاب ورحلت الشخصيات، فهي تقول: “لقد نلت مني. أنا واثقة من أنهم سيمنحونك مقابلة رائعة، لكنك نلت مني.”

تبدأ الرواية مع الراوية المراهقة “الأخت الوسطى” التي تبلغ الثامنة عشر من عمرها، والتي تتصف بعادة “شاذة” ألا وهي السير أثناء القراءة، الأمر الذي تتشاركه مع المؤلفة. “أذهب إلى متجر أو مقهى أو حانة وسيقول أحدهم: “آها، أنت الفتاة التي تمشي وتقرأ.” ولطالما تساءلت: “أهو شيء يستحق التعليق عليه؟” أردت أن أكتب عن الدافع الذي يحذو بالناس للتعليق على ذلك.” وفي الرواية تسأل الأخت الوسطى صديقتها: “هل تقولين إنه من المقبول التعايش مع الـ سيمتكس (مادة متفجرة) لكنه من المستغرب أن أقرأ لـ جين اير في العلن؟” لتجيبها صديقتها بأن “الـ (سيمتكس) غير مستغربة، فمن المتوقع حدوث تفجير بها في أي لحظة”.

ويدور موضوعها، كما وصفته “بشكل مطلق وجوهري عن الطريقة التي تم استخدام السلطة بها، سواء على المستوى الشخصي أو الاجتماعي.” ومع الأسلوب الذي تناولت فيه الرواية مواضيع الظلم والوحشية والهوية والمراقبة والمقاومة، فلربما توجب كتابتها قبل 40 عاماً، ومع ذلك ومن مناحٍ عدة فقد صدرت في الوقت المناسب – ومن المؤكد أن ذلك لم يفت لجنة تحكيم بوكر. وعلى الرغم من كتابتها قبل أربع سنوات، إلا أنها تتماشى بشكل غير مسبوق مع حركة “أنا أيضاً” #MeToo في إظهار الصورة المفترسة للشخص المسمّى ببائع الحليب، الرجل الأبيض المريع البالغ من العمر 41 عاماً، الذي يقود ڤان بيضاء، والإرهابي الجمهوري المحتمل، الذي تحمل ملاحقته للأخت الوسطى استعارة عن العيش تحت رقابة متواصلة. تخبرنا الراوية قائلة: “لا أعرف من بائع الحليب هذا، فهو لم يكن من يبيعنا الحليب. لا أظن أنه باعه لأحد … فلم يكن للحليب صلة به، كما أنه لم يوصل الحليب يوماً.” تبرع بيرنز على وجه الخصوص بوصف الانزلاق والعار في الترهيب الجنسي: “لم يبدُ وقحاً، لذلك لم أستطع أن أتعامل معه بوقاحة”.

ومثل كل شخصياتها، فقد “جاء بائع الحليب إليها، قام بقيادة سيارته نحوها”. لا تكتب بيرنز أبداً لإثبات وجهة نظر أو استكشاف مشكلة فهي كما تقول “أنا أكتب ومن ثم أتبين – نعم، إنه اعتداء جنسي، إنه فضيحة جنسية، إنه كتاب عن الشائعات، والقيل والقال، وقوة الشائعات، وقوة التاريخ وقوة تلفيق التاريخ، حين تصبح الشائعات تاريخاً” ومن ثم، فبالطبع هناك “البريكست”. ففي يوم إعلان الجائزة، وصلت المحادثات إلى طريق مسدود آخر بشأن خطة تيريزا ماي بشأن الحدود. ومرة أخرى، فإن مسألة الحدود الإيرلندية لا تغيب أبداً عن الأخبار. لقد صوتت بيرنز للبقاء ضمن الاتحاد إلا أن النتيجة كانت”مفجعة” لها، لكنها ترى “باعتباري كاتبة، أعتقد أنه من المذهل الخوض والاستكشاف في كامل موضوع الحدود والحواجز والآخر المريب”. في السنة التي صوتت فيها جمهورية إيرلندا على إصلاح قوانين الإجهاض، لا يزال الإجهاض والزواج المثلي في إيرلندا الشمالية غير قانوني. فهل تأتي الرواية تعليقاً على المحافظية المتأصلة في بلدها الأصلي؟ “أنا أكتب عن مجتمع قمعي، مغلق، معزول، وسواء أكانت إيرلندا الشمالية أم لا، فهذا هو نوع المجتمع الذي أكتب عنه. إنه مكان يفرض علينا المحافظة عليه متماسكاً، حتى وإن كنا نتداعى من داخلنا”.

نشأت بيرنز في عائلة مؤلفة من سبعة أولاد في أسرة كاثوليكية من الطبقة العاملة. وكما هو مألوف بين العائلات الكبيرة التي تعيش في منازل صغيرة تعرف باسم “بيوت المطبخ”، فقد عاشت مع خالتها غير المتزوجة على الطريق. “عشت صخب وفوضى المنزل ثم استطعت الانسحاب إلى بيت خالتي الهادئ. لقد أحببت هذا المزيج”. أحبت عائلتها الكتب، ولكنها اعتبرتها “أمراً خاصاً جداً. فلن يسألك أحد “ما الذي تقرأه؟” فقد كان ذلك إهانة كبيرة.” كان هناك مبادلة كبيرة ببطاقات المكتبة، التي توّجب أخذها للتمكن من اقتراض كتب إضافية. ومثلما فعلت الأخت الوسطى التي دفنت رأسها في كتابها، بذلت بيرنز قصارى جهدها لتجنب الوضع السياسي من حولها. “هناك فصل عن الأفكار والمشاعر، ولربما كانت تلك طريقتي للتكيف والتأقلم. ففي الجوهر لم أرد أن أعرف. ولم أكن الوحيدة، فلم يرغب الكثير من الناس بمعرفة ما يحصل”. فقط حين غادرتْ أصبح بإمكانها استيعاب تجربتها وبدأت تشعر “اعترتني رغبة ملحة للمعرفة. واضطررت للفرار من أجل القيام بذلك”. انتفلت بيرنز إلى لندن لدراسة اللغة الروسية، لكنها لم تتمكن من إتمام دراستها لأسباب شخصية: “أشياء كان عليّ التعامل معها، وهذا ما حدث”. (إنها متحمسة للغاية بشأن حياتها الخاصة.) فأخذت تقرأ كل ما بوسعها قراءته عن إيرلندا الشمالية وتاريخها.

إلا أن انتقالها إلى الكتابة جاء من قبيل المصادفة، حين حلّ ما تسميه “نضج اللحظة”. تلقت دعوة من صديق/ة فنان/ة لرحلة لشراء المواد من هامبستيد، شمال لندن، حيث وجدت دفتر رسم في سلة البيع. “فكرت: إنه سعره يورو واحد، سأشتريه لأنه جميل المظهر فقط”. ومن ثم فقد احتفظت به مع قلم قرب سريرها، و” لقد بقي هناك إلى أن استيقظت في أحد الأيام وكتبت حلمي. وبعدها كتبت شيئاً عن ذلك اليوم. “قبل فترة طويلة، كانت قد ملأت الصفحة الأولى، ثم “بدأت بأخرى فأخرى.”

تشيد بيرنز بكتاب جوليا كاميرون “أسلوب الفنان”الذي تحبه كثيراً، وبكتاب “الكتابة أسفل العظام” للكاتبة ناتالي غولدبيرغ، قائلة إن الرسالة التي حملاها خاطبتها بالفعل: “ابدأي فقط. كوني حرة وسلسة في كتاباتك. لا تقحمي منطقك فيها أكثر من اللازم. امضي معها ثم انظري لما ينتج عنها”. ثم إن مصيرها تحدد تماماً عندما طلبت منها صديقة أخرى الذهاب معها لحضور فصل دراسي عن الكتابة الإبداعية لأنها كانت خائفة للغاية من الذهاب بمفردها. وقد أحبته.

يجعل أسلوب بيرنز المتعرج الحافل بسيل من المشاعر، من قراءة أعمالها تجربة غامرة ومجنونة في بعض الأحيان. وفي بحث النقاد في مصادر كتابتها مروا في مقارناتهم على صف طويل من مؤلفات الكتاب الإيرلنديين من بيكيت إلى سويفت، مستعيدين مع الرواية وعورة “تريسترام شاندي” وسخرية فلان أوبراين السوداء. أما عن الرواية المفضلة الفائزة بجائزة بوكر فهي “اضطرابات” لـجيمس غوردن فاريل. ورغم أن بيرنز تشعر بالإطراء إلا أنها غير مقتنعة بأن يتم إدراجها في سياق “التقليد الإيرلندي بأكمله”. فمثل البريكست وحركة “أنا أيضاً” (#MeToo) تقريباً ظهر بيكيت في حياتها بعد أن كانت قد انتهت من كتابة روايتها بالفعل. فقد قرأت له منذ شهر فقط: “قرأتُ ميرفي. كانت رواية رائعة ومفجعة جداً. حتى أني أخذت أترنح بعد قراءتها.”

تقول: “لم أتخيل أبداً أنني سأكتب حتى، ناهيك عن الفوز بجائزة بوكر”.

إذا تمكنتْ من العودة والتحدث إلى تلك الفتاة ذات الثمانية عشر عاماً التي “تمشي أثناء القراءة”، لنفسها الشابة، فإنها ترغب بتحذيرها وإبعادها عن اتخاذ بعض المسارات، ولكنها في الغالب ستخبرها بأن: ” شيئاً رائعاً سيعترض مسيرة حياتها”.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عن “الغارديان”

*****

خاص بأوكسجين