خيال ظل للصغار و الكبار
في قرية صغيرة منفرطة توجد على التماس مع شريط ساحلي، بحيث تخترق الأمواج الزائرة باستمرار أساساتها الهشة مجلجلة بصليل أجراسها، فاتحة بين المنازل المتلاصقة أزقة مائية رائقة لا ترتادها غير أقدام الأطفال كالأسماك الصغيرة، و ينبت على جنبات تضاريسها الجبلية البحرية حقول من هوامش و شروح بلح البحر السخي (الذي لم تزرعه يد ملوثة)، بجوار مدرّجات الشعير الفوضوي المتمرد الذي يتسلق عرش الهضبة محمولا على عربات الشموس، فيما لا يتوقف خفقان مناديل أعمدة الغسيل المؤطِّرة للشريط عن أداء رقصة الفالس طوال السنة؛- يحط صندوق خيال الظل في إحدى تلك الأمسيات الربيعية التي تنزلق فيها ولا تنزلق ببطء جد بطيء عجلة القمر (التي تربو على عجلة جرار) على السطح الأملس للصخرة البتول التي تحرس الزرقة الأبدية جاثيةً على ركبها في الماء.
تركض البنات في التنانير الملونة المنفوخة بالهواء البحري خلف الأولاد الذين تركوا لعبهم الصاخبة للتحلق مشدوهين حول المخايلي الذي يتفقد بين يديه جاهزية الصياد الصغير للعب دور البطولة أمام أخته الصغيرة و الصياد العجوز، متنقلا بقدمه الصغيرة الغائصة في الموج السائح على الشاطئ. يمضي العرض على الرقعة القمرية البيضاء حثيثا (هكذا يبدو المشهد عن بعد اتحاد بين ستارة القمر و ستارة الظل) من دون انقطاع، عدا تلك الفواصل الحربية المألوفة (هكذا تبدو الحرب عن بعد مجرد فاصل استراحة) التي يغتنمها الأولاد لإلقاء نظرة على البنات في التنانير الملونة المفرغة من الهواء متحولات إلى نحلات رفيعة تفترش أقحواناتها المضمخة بالرحيق هامسين إليهن بمفردات غزلية بريئة بين قصف وآخر.
يفتتح المشهد بعودة الصياد الصغير الذي تنتظره الأخت الصغيرة على المصطبة على أحر من الجمر، فيما يتمالك حريقا يشبُّ في ضلوعه متحاملا كعادته في التظاهر باللامبالاة و الحياد، كلما شعر بسطوع نجمه الكابي في سماء العيون المتفحصة، قبل أن يتدفق ينبوعا مزهوّا لا يلوي على شيء.
(عينان بنيتان تتعجلان قدوم الصياد الصغير المتباطئ جدا في مشيته حتى يزيد من تعذيب أخته الممسكة بضفيرتها السنبلية الثقيلة بنفاذ صبرها)
الأخت الصغيرة – هل عدت من الصيد يا أخي؟
أرني كم اصطدت لنا من السمك؟
الصياد الصغير- إن الأسماك لم تتوقف أفواهها
عن تسبيح و ذكر الله
فلم تعلق إحداها بصنارتي
هكذا أخبرني صياد عجوز على الشاطئ
لا تَعلق السمكة بالصِّنارة
إلا بارتكاب معصية التوقف عن التسبيح
(لدى الصياد الصغير نزوع فطري جمالي للأكذوبة العذبة التي لا تحتاج سوى لزعنفة كي تحلق عاليا بخلاف بطريق الحقيقة الذي لا يستطيع التحليق برغم جناحيه، ليحترف منذ سن مبكر صنع الأكاذيب الطائرة و تعبئتها قبل فرقعتها تباعا نكاية بالواقع الأقطع)
الأخت الصغيرة – لم تصطد كعادتك شيئا
ليس لأن الأسماك دائمة التسبيح لله
بل لأن الله يوعز إليها بالعودة للتسبيح
حتى لا تَعلق أبدا بصنارتك التي لا تصطاد
سوى الأكاذيب الملونة
الصياد الصغير – لماذا أنت غاضبة؟
أنا أكثر غضبا منك
لوَّحتني الشمس طول النهار
ولم أظفر ولو بذيل سمكة
الأخت الصغيرة – لماذا يا أخي؟
الصياد الصغير – لأن البحر يضن على الصياد الصغير
بصيد شحيح من صغار الأسماك
انتظرت طويلا على الصخور
حتى طغى الموج على الشقوق
بزبد أبيض موشى بصغار سمكي
اقتربت متوجسا من ألوانها المتموجة
في سكون البركة الصغيرة
متوسلا إلى نزق زعانفها الدخول
إلى شبكة غير مؤذية
غير أنها كانت تمعن في فرار
يفتح الشقوق الضيقة للزعانف
الأخت الصغيرة – لماذا يا أخي
تمعن صغار السمك في فرار
يفتح الشقوق الضيقة لزعانفها؟
الصياد الصغير – لأن البحر يضن على الصياد الصغير
بصيد شحيح من صغار الأسماك
الأخت الصغيرة – ماذا فعلت يا أخي؟
الصياد الصغير – بصقتُ على البحر الضنين
بصقت على صغار السمك
بصقت على الشقوق
ثم لملمت شبكتي و عدة الصيد
معلقا على كتفي حذائي المبتل
قلت في نفسي:
لن أعود ثانية إلى صيد صغار الأسماك
الممعنة في فرار يفتح الشقوق للزعانف
لن أعود للبحر الضنين على الصياد الصغير
بصيد شحيح من صغار الأسماك
سأصير صيادا كبيرا
يدوس الموج دوسا بصندل مطاطي
راميا البحر بصليل قصبة مليئة بالثقوب
ليجلس على المقعد الوطيء
متصنتا بتربُّصِه على رقص زعانف الحيتان الكبيرة
من ثقوب قصبة تصفِّر في الهواء
الأخت الصغيرة – متى ستصير صيادا كبيرا؟
لقد شوقتني إلى رؤية أخي الصغير
صيادا كبيرا
يجلس على المقعد الوطيء
فيما ترقص كبار الحيتان بزعانفها الملونة
على صفير قصبة مليئة بالثقوب
الصياد الصغير – لا تتعجلي يا أختي
دعيني أكمل إلى الآخر
فاصل حربي قصير و نعود
تبدو الحرب عن بعد مجرد عرض فرجوي للتسلية يتابع الأطفال إطلاق شهب متفجراتها التي تمجها طائرات حربية بهلوانية في السماء المسقوفة بحفيف القذائف، منصرفين عن متابعة هذيان الدمى المتحركة على رقعة خيال الظل بأمر من أصابع المخايلي المذعورة. الطيارون الملولون يستمرون بتفريغ أكبر قدر من الشهب النارية في السماء المسقوفة بحفيف قذائفهم، غير مفكرين في القمرة المضيئة سوى بمرافقة اشتعال نهود الجنديات إلى أقرب فندق من المطار الحربي حالما ينزلون بطائراتهم المتخففة من حمولة القتل الزائدة، بينما يجتهد المخايلي بإقناع جمهوره الصغير بالعودة إلى الستار الأبيض الذي خلا الآن من خيالاته.
عدنا –
بينما كنت أتوعّد البحر وسمكاته
بشروري
أبصرت صيادا متخفيا بصنارته
في زرقة المساء
دلّني عليه خطٌّ أبيضٌ زبدي
نسي الموج أن يمحوه بممحاته
على كراريس شاطئ المساء
اجتهدت كثيرا في الركض
كي أحرِّر خطوتي العميقة من قبضة الرمل
ملاعق الزرقة تذوب ببطء في مقلتي
الصياد المتخفي تحت صنارته
يتقدّم من مكانه نحو شريط جبيني
متضح المعالم
فجأة ترتطم قامته بزجاج نظارتي
(يقفز إلى الستارة قامة العجوز المنكسرة على الكرسي الوطيء بوجه نحاسي تطغى فيه ذرات الشمس على مسام الجلد المشدود)
أتوقف مستجمعا لهاث أنفاسي
(يلتقط الصياد الصغير أنفاسه المشتتة كما لو يقف للتو أمام العجوز)
ملْقيا بتحية مقتضبة
(يعيد الصياد الصغير إلقاء التحية مصافحا الهواء السخي المحمّل بقُبل من الزبد)
يدعوني للجلوس
(يجلس الصياد الصغير مواصلا الوقوف في حذائه المبتل)
يسألني من أنا؟
(ينتفخ الصياد الصغير كما لو كان بالونا ملونا على عادة الصغار في نطق “الأنا” الصغيرة مشيرين إلى ملكية لا تقبل القسمة)
الصياد الصغير للعجوز – أنا الصياد الصغير الذي يضن
عليه البحر بصيد شحيح
من صغار السمك
رميت بشبكتي وعدّة الصيد
بصقت على البحر
بصقت على صغار الأسماك
(يشبّ الصياد الصغير على أصابع قدميه متطاولا أمام ظله المديد المبسوط على غربال الرمل الممتصِّ ذرات الماء)
مزمعا أن أكون صيادا كبيرا
يجلس على المقعد الوطيء مستمتعا
برقص الحيتان بزعانفها الملونة
على عزف قصبة مليئة بالثقوب
(يجرّب الصياد الصغير الإمساك بقبضة من الهواء كما لو أنها صنارة صيد محاكيا بحركات رأسه السمكات المتخبطة تباعا في الخيط)
الصياد العجوز – لماذا اخترت أن تكون صيادا؟
لماذا لا تكون مدرس جغرافيا أو تاريخ؟
الصياد الصغير – لا أحب مهنة التدريس المملّة
لا أحب بالذات درس الجغرافيا أو التاريخ
الصياد العجوز – لماذا؟
الصياد الصغير – لأن المدرس الأعشى كلما تمادى
في شرح حصة الجغرافيا الغريقة
يقفز التاريخ ضفدعا ثقيلا
بساقيه الطويلين إلى البركة
لأن المدرّس كلما أفحش بشروحه
في سرد حصة التاريخ الهارب
تعلّقتِ الجغرافيا المراوِحة بالتلابيب
لتختلط الشروح و الهوامش
في عقولنا الصغيرة
هل يوجد التاريخ
على حافة السماء الأخيرة؟
أم توجد الجغرافيا
على حافة السقوط الأخير؟
حتى لَيَسْهُل على أحدهما
دفع الآخر إلى الهاوية
بإصبع الخنصر الصغير
(يحاول إسقاط جسده الواقف على ساق واحدة بدفع خفيف من خنصر يده)
سؤالٌ لطالما حيّرني
(يستعيد الصياد الصغير توازنه و اتزانه على ساقيه الاثنتين)
وأنا أجلس على مقعدي الشامخ
من صخرة المغيب
أرنو في ضجر إلى ارتطام النوارس
بقلوع القوارب
(يستدير الصياد الصغير بوجهه للشمس مانحا العجوز جانبية مستغرقة تميل بشموخ أنفها)
إلى أن اهتديت ذات صباح
إلى الجواب
(الجانبية المستغرقة المائلة بشموخ أنفها تعود لمواجهة دهشة العجوز)
الصياد العجوز – هات أيها العبقري
الصياد الصغير – كثيرا ما أبكرت في الذهاب للنوم
حتى لا يفوتني صياح الديك
غير أن ديكنا كثيرا ما يتأخر
في الذهاب للنوم
متنقلا بعرف مزهوّ بين الغرف
(يتحول الصياد الصغير إلى ديك مزهوّ رافعا عقيصة شعره السخية كما لو أنها عرفا حقيقيا)
فيفوته اعتلاء مئذنة بيتنا
لرفع الآذان
علّقتُ حبلا من القواقع المضيئة
على نافذتي
للتجسُّس على موجة الهواء
الزائرة بصليل أجراسها
طفلا يزيح الغطاء عن سيقانه
الفوارغ كانت تمتلئ كل فجر
بصفير يضيء عتمة غرفتي
مُنتبها قبل إزاحة الغطاء
عن السيقان
غيّرت من عاداتي
من الجلوس على مقعدي الشامخ
من صخرة المغيب
صرت أنزل إلى الشاطئ
كل صباح
في أحد الصباحات
رأيت البحر دورقا مليئا
يفيض برغوة الحليب الفائر
على امتداد سبابتي
(تتسع عيونه العسلية الصافية بحيث تتحول إلى حوض سباحة يستحم فيه الشفق)
هل تحققت نبوءة جدتي؟
بامتلاء الدورق لوحده من الحليب
لأنني حرصت على الاستيقاظ
قبل بائع الحليب
ربما كان صحيحا
أو ربما كان فقط صالحا
لتفسير أعجوبة امتلاء البحر
دورقا يفيض لوحده برغوة الحليب
جلست على سور وطيء
على امتداد سبابتي
البحر محض حوضٍ من اللبن النقي
تستحم فيه شمس الصباح
أين ذهبت ثيران الموج الزرقاء؟
أين سرحت زرقة البحر في البحر؟
ربما تشرَّبها إسفنج غمام فاحش الثقوب
ربما قفزت كما النوارس إلى قارب صيد
يحرث البحر بمحراث شفيف
على امتداد سبابتي
رأيت لغز الجغرافيا والتاريخ
(يتأدب الصياد الصغير في وقفته مبالغا في الاستقامة و الجدية)
ينفتح طافيا على رغوة الحليب الزبدي
في دورق البحر المليء
الصياد العجوز – أنت تغرقني في التفاصيل البيضاء
حتى نسيت مفتاح اللغز في التموّج الزبدي
الصياد الصغير – على امتداد سبابتي
(يشهر الصياد الصغير سبابته الصغيرة بوجه الشمس على عادة الصغار في تأطير ما لا يؤطر)
على امتداد الزبد الفائر
لغزُ الجغرافيا و التاريخ
ينفتح لوحده راشِحا فوق البياض؛
إنّ التاريخ يقف
على حافة السماء الأخيرة
في التوقيت ذاته
الذي تقف فيه الجغرافيا
على حافة السقوط الأخير
حتى لِيَسْهُل على كل واحد
دفع الآخر إلى الهاوية
بتحريك الخنصر الصغير
(يتمالك الصياد سقوط جسده الواقف على ساق مرتعشة بدفع من خنصر اليد)
ما بينهما –
ما بين توجّسٍ يقف على أصابع الخطى
وتربُّصٍ أعمى يتحين انقضاض المخالب
ينفتح الأزرق الأبدي
مصبّا غزيرا أخيراً
لفضلات الجغرافيات و التواريخ
مصبا غزيرا أخيرا للبطولات والأباطيل
لملاحم الأقوياء و مراثي الشعراء
قد لا تعثر النجمة التي تمعن في الاقتراب
سوى على غياب يتمرأى في الاقتراب
كما لا يعثر القمر الممعن في الفرار
سوى على غياب يتمرأى في البُعاد
لأن الاقتراب و الابتعاد لا يحتاجان
سوى إلى الغياب للانعكاس
لأن الزرقة المتلألئة في الزرقة
ليست سوى المرادف البصري الشفاف
للنسيان الأخرس
كأنْ يغرق البحر في دورق مليء
يرشح برغوة الزبد الفائر
في أحد صباحات الربيع
ليستدِّل النسيان المعافى
بتشفيف الزرقة في الكؤوس
على اكتماله
بزبد يطفو على الحواف
(يقلد الصياد الصغير حركات أمه التي ترفع برّاد الشاي عاليا لصنع أكبر قدر من الرغوة في الكؤوس)
الصياد العجوز – ماذا فعلت حينما اكتمل النسيان
المستدلُّ على تمامه
بزبد يطفو على كؤوس الزرقة؟
الصياد الصغير – لم أفعل شيئا سوى أني سرحت
الجفون في أهراء الزبد
مستمتعا بمسحوق أبيض عالق بأهدابي
مديرا ظهري لليابسة المتوجسة
(يدير الصياد الصغير الظهر للبحر قبل أن يستدير نصف دورة في حركة رشيقة مواجها الزرقة و مديرا ظهره بشكل نهائي لليابسة)
على حافة السقوط الوشيك
مديرا ظهري للتاريخ المتربص
على حافة السماء الأخيرة
لا شأن لي بمن سيدفع الأول الثاني
إلى الهاوية المفتوحة
بتحريك الخنصر الصغير
لا شأن لي بمدرس الاجتماعيات الأعشى
(تنهمر الكلمات على لسانه كما لو كانت عِصيا مدوية على ردف المدرس)
سأصير صيادا
يدير الظهر للمأساة واليابسة على السواء
جالسا على المقعد الوطيء
فيما تتراقص الحيتان بزعانفها الملونة
على صفير قصبة مليئة بالثقوب
الصياد الصغير للأخت – هل تعرفين ماذا قال لي؟
(يمط الصياد الصغير الجملة حرفا حرفا بشفتيه)
الأخت الصغيرة – ماذا قال لك الصياد يا أخي؟
الصياد الصغير – ستصير صيادا كبيرا
ستأتي إليك الحيتان المضيئة للرقص
عاليا بحراشفها في الهواء
ليس لأن ثقوب القصب تمتلئ بالصفير
بل لأنك تحسن الاستماع إلى رقص زعانفها
من الثقوب
فيما ستدير ظهرك لليابسة والمأساة على السواء
الأخت الصغيرة – كنت دائما أثق بمواهبك يا أخي
الصياد الصغير – لا تقاطعيني
(في عجرفة شديدة مرفقة بعصبية فجة)
دعيني أكمل إلى الآخر
الأخت الصغيرة – أكمل يا أخي
(تثمّن على مقاطعته باهتزاز ضفيرتها السنبلية الثقيلة مستزيدة من عجرفته)
فاصل حربي قصير و نعود
فصول الحرب المتكررة بين وقت و آخر لم تعد تثير فضول الصغار الذين بدوا معنيين بإلقاء نظراتهم العاشقة على البنات في التنانير الملونة المفرغة من الهواء متحولات إلى نحلات رفيعة تفترش أقحواناتها المضمخة بالرحيق هامسين إليهن بمفردات غزلية بين قصف وآخر. بطريقة ما أصبحت هذه الفواصل الحربية “المُنتظَرة نوعا ما في منطقة غامضة جدا” تؤجج الرغبة البريئة أكثر من الخوف أو أي إحساس آخر.
الصياد الصغير – في هذه الأثناء يتعالى صفير القصبة
(يتعالى صفير الصياد في الهواء المبلول)
الحيتان التي تتراقص بحراشفها عاليا
(يقلد الصياد الصغير الأسماك المسحوبة في الخيط)
متزلجة في مزلقة الهواء
تستريح قربه في البركة الصغيرة
بعيون تطفو على سطح الماء
بمِجَسَّة كهرباء بليلة الشوارب
الصياد الصغير – سألني إن كنت أريد مراقصتها
أمسكت بالقصبة من الثقوب
لكن رقصها كان عنيفا
(يقاوم الصياد الصغير استماتة الحيتان في الإفلات من الطعم العالق بأحشائها)
فأفلتت القصبة من يدي
(يفلت الصياد الصغير قبضة الهواء التي تمسكها يده على أنها صنارة)
صرخت باكيا
(يقلد الصياد الصغير البكاء من دون صراخ ثم يقفز عائدا إلى الرقعة البليلة تحت الشمسية بقرب العجوز)
الصياد الصغير للعجوز – لن أكون صيادا
تتراقص الحيتان بزعانفها الملونة
على صفير قصبة مليئة بالثقوب
لن أكون صيادا
مهما أدرت ظهري للمأساة و اليابسة
سأعود للوقوف على حافة السماء الأخيرة
سأعود للوقوف على حافة السقوط الأخير
لا شأن لي بمن سيدفعني الأول
إلى الهاوية المفتوحة تحت قدمي
(يواصل الصياد الصغير الوقوف على ساق كمن يخشى سقوطا وشيكا)
بتحريك من خنصره الصغير
لقد أخفقت في صيد صغار السمك
وها أنا أخفق في صيد الحيتان الكبيرة
فاصل حربي قصير و نعود
(لا داعي لسرد تفاصيل أدار لها الظهر حتى أبله القرية سعيدا بالانضمام إلى حفل الصغار تحت دارة قمرية بلعابه السائل بغزارة على ثيابه المبلولة …اللعاب الذي جف منذ اقترب شرر الحرب من خفقان مناديل أعمدة الغسيل المؤطِّرة للشريط الساحلي التي لا تتوقف عن أداء رقصة الفالس طوال السنة)
الصياد العجوز – ليس من الخطأ أن تفلت القصبة من اليد
يمكن أن يحدث مع أي صياد
إذا فوجئ بذروة رقص الذيول
أما عن صغار الأسماك
فليس بوسع أي صياد الإمساك بزعانف
تفتح الشقوق الضيقة للفرار
هل أدلُّك أين يخبئها البحر
بعيدا عن الحيتان المفترسة؟
هل أدلُّك أين يربي البحر
صغار السمك؟
الصياد الصغير – أين يتولى تربيتها؟
(الصياد الصغير غير مصدق)
الصياد العجوز – في علبة صغيرة
الصياد الصغير للأخت – أخرج من جرابه علبة صفراء
(يخرج الصياد الصغير العلبة تماما كما فعل أمامه العجوز)
فتح السدادة برشاقة
(يحاكي فتح السدادة بحركة رشيقة)
صغار الاسقمري تهَشُّ لرؤيتي
(تنفتح السواقي في وجه الصياد الصغير المتهلل)
حراشفها تتلألأ في أقل من شبر ماء
إنها تحرك ذيولها الصغيرة فرحا
(يقوم الصياد الصغير بتحريك خصره النحيل)
أصيح أيضا من الفرح
أعطني أنا أيضا علبة سمكي
يعيد فتح الجراب
ويناولني علبة سمكي
(يتناول العلبة من جديد من العجوز الذي لا يوجد بقربه الآن)
يناولني صغار اسقمريي
أحملها على يدي طول الطريق
(يعيد حمل علبة السمك على راحة يده متقدما بضع خطوات كما لو تلقاها للتو)
أقول لن أنزع السدادة الرشيقة
لن أقلق قيلولة صغار الاسقمري
سأتولى تربيتها بنفسي
تاركا شفرة الغطاء تُقطِّع
برتقالة الشمس
إلى نصفين متساويين من الفصوص
طول الطريق من الشاطئ إلى البيت.
(يقوم الصياد الصغير بتقطيع برتقالة الشمس التي تحولت إلى لمعة باهتة على الغطاء بسكين يده المثلوم)
– أرني يا أخي؟
– لا… إنها علبة سمكي
يختتم المشهد بخروج المخايلي من إطار الصندوق رافعا قبضة يده الرفيعة العروق مزهريةً تزينها باقة الرسومات :الصياد الصغير و الأخت و العجوز الذين بَدَوا أكثر تعقلا في الأصابع المضمومة، تاركا لصفارات إنذار القمر الحارس أن تنعكس على الستارة البيضاء، فيما تنهمر القذائف على الرصيف المقابل من الحرب التي يتضرع القرويون الطيبون إليها بالقرابين و الذبائح من غير إساءة نية (معتذرين للإله بحسن نية) أن تبتعد مسيرة هلال آخر فقط؛ لتوفير تذاكر التهجير القسري من عائد حقول بلح البحر المتأصّل الجذور في لحم الصخر و مدرجات الشعير الفوضوي المتسلق هضبة الشريط الساحلي الذي يستمر خفقان مناديل أعمدة الغسيل المؤطِّرة له في أداء رقصة الفالس.
ربما يكون المُخايلي و الصياد الصغير قد آثارا انتباه الصغار بوقوفٍ هشّ للتاريخ على حافة السماء الأخيرة و وقوف هشٍّ أيضا للجغرافيا على حافة السقوط الأخير، حتى لَيَسهُل على أحدهما دفع الآخر إلى الهاوية المفتوحة. لكن هل في وسع الصغار تنبيه و إقناع التاريخ و الجغرافيا العدول عن الوقوف على حافة أحدهما الآخر قبل العودة إلى البيت، بسبب وجود بيوتهم الطينية المعلقة على غرار بيوت الحمام التي يحبونها على خط التماس، أم أن محاولتهم ستبوء بالفشل فيما سينقسمون إلى فريقين ليبحث كل فريق عن إحدى هاتين الحافتين. هذا ما لا يستطيع المُخايِلي الكشف عنه بانتهاء عرضه الساخر، الأكيد أنه سيغلق على طيف الأرق بجوار خيالات الظل المحبوسة في الصندوق المقفل، حتى يعود الأطفال من رحلة التفاوض العسيرة لتكملة الحكاية، أو يأخذوا مقاعدهم بجوار الصياد الصغير على الشاطئ المفتوح على زرقة النسيان تحت صف طويل من القصبات التي ستتشابك مصائر خيوطها مديرين ظهورهم الصغيرة مبكرا جدا لليابسة و المأساة على السواء.
(فيما كان البحر العائد الأزلي يعود أدراجه حالما تطأ أمواجه يابسة مفقودة، كانت اليابسة المراوحة منذ أبد الآبدين تتشبث مذعورة بتلابيب البحر المفقود هربا من طوفان المأساة: وحدها القصبات المنتشرة على طول الشريط الساحلي تجيد الاستماع إلى نشيد الإنشاد الصامت الذي لا تني حوريات من الموج في استظهاره على مسمع سكينة تحفظ جرس كلماته عن ظهر قلب. بين فصل و آخر تلتقط أنفاسها وسط النشيد الذي يتكرر بلا نهاية؛ السمكة المسحوبة من الماء التي تُرى بحراشف تتلألأ في الهواء نقطة النهاية بين غناء و غناء).
الأكيد أيضا أن الأطفال الذين يأخذون دائما الأشياء على محمل الجد و الكبَد بخلاف غش آبائهم لن يعودوا كما كانوا من قبل؛ تماما كما في نزهة قطاف الفُطر المحفوفة بالمخاطر وجدوا الفُطر أم عادوا فقط بأبدية من التيه تتجوّل حائرة في شفوف العيون الواسعة؛- تلك العيون التي لا تجد الآن غضاضة من أن تتعقّب بحسرة فرار الحمام المنهمر بسخاء في سماء مرصعة بالرصاص-.
و يتواصل حتى هذه الساعة فرار الحمام المنهمر في سماء مرصعة بالرصاص.
*****
خاص بأوكسجين