1
عند الثامنة صباحاً تخرجُ بعد أن يسَّر لها حارسُ البناية ذلك. فقد شرّع البابَ الكبير ودفع بابَ شقتها بحجّة الخبز وبعض المودة. وبلل الدرجَ طارداً شيئاً من الغبار ومخففاً عطب الرطوبة. تسكن في الدور السادس. لم يكن دوراً وهي تجتهد في تصنيفه متى شرحت ظروف مسكنها القريب معززة رضاها بعبارة: “لا بأس به”. شقة مكونة من صالة خُصصت منها الجهة اليمنى لسرير تنام عليه ما استطاعت، وعلى اليسار تضع طاولة قصيرة مرة للطعام ومرة لكتابة رسائل نحو أخت لم تعد ترد على جواباتها. شقة مكونة من صالة ودورة مياه تواري مدخلها ستاره مثخنة بعوالق وتقصفات. شقة مكونة من صالة وشخصها. ثم ملحق هو ما تبقى من سطح المساحة التي تعلوها بسكنها الذي “لا بأس به”. هناك تخرج ظهراً لتُعالج الغسيل وتتفقد زهوراً لا تُورق جيداً كما تتحدث للعابرين صباحاً وقد هذّبَ الحارسُ مدخلَ البناية بالماء وفعل الشفقة قبل أن يُداهمها النهار الشرس، فتُعاود خشيتها من قفل الأبواب التي يتأكد الحارس عن عمد من فتحها لها واحداً واحداً إلى أن تعود إلى شقتها قبيل الظهيرة الحارقة وبداية اندلاق صوتها إلى الشارع من ذلك الملحق المكشوف.
لا تستطيع أن تقوم بعملية حصر الأضرار لثلاثة أصص يُغرقها الغسيل المعلّق منذ خروجها. وتتجاهل فعل الشمس اللاهب على زهرات ترى أهمية حصولها على مسافة خاصة لتنمو بشكل طبيعي. كلّما جرَّ الظلُّ جزءاً منه إلى داخل البناية اقتربت من الحائط، والعابرون لا يتوقفون عن نزف خطواتهم بعيداً عنها دون التبرم من حكايات الزهور وامرأة لم تعد ترد على رسائل تتكبّدُ دمعاً ومسافات إليها بفضل الوفاء.. ولا يحسنون الاستماع. تعيد ذلك لجهلهم بأهمية ما يفوتهم من حديث على عشاء الصديقة.
2
رجل ببنطال شارد اللون يُشفق على خصره. تراه يهجس بمكر الأشياء المغلقة كما لو أنّه يستجيب لقسوة نهارات تموز على الشارع وبائعي الفواكه والخضروات الطارئ صبرهم. يظهر كلّ يوم على ناصية الشارع منقضاً على لا شيء. يستحيل أن يمدَّ يده إلى باب موصد. وقرابة الخامسة مساءً اعتاد الدخول عَجِلاً متى سنحَ مدخلُ الفندق وتسبقه هبة قيظ. لا أحد يعرف مقدار الوقت الذي قضاه تحت حريق الرطوبة والشمس في الخارج. يطل بملامح جيل لم يحظ بزمن يُذكر، ولا قيمة للتاريخ في قراءة جانبه، إذ من غير اللائق، معه تحديداً، جلب تغضناته وخشخة ملابسه لتكون شاهدة على وعكة الزمن.
والعرق يختط نصف ظهره، ومن غشاوة تحف عينيه يتلمس ضالّته فيشحذ الانتباه بإظهار قدرته على تحديد هدفه عندما يرفع سبابة حذرة متجنبة الوجوه وترصد ركن الاستقبال. سيتقدم بخطوات تتخفّى وقابلة للتعثر لو تمكن التردد منه جيداً. لم يُعرّف بنفسه ولو لمرة واحدة إلى موظف الاستقبال الذي يُجيبه دوماً بالنفي على سؤاله المكرر عن شخص ما: “… يعمل هنا؟”، ويُضيف قاطعاً تعجب الموظف: “قيل ربما أنّه لديكم أو قريب من هنا!”. هذا ويُمناه تشدّ قميصه غير المحايد للأسفل متخلصاً ـ كما يظن ـ من ارتباك ملازم. يُناوش يومياً رغبة في إعادة سؤاله، لكنّه يُغادر المكان بعد أن يتوقف للحظة مشككاً في تصالحه مع مدخل الفندق. ربما مساءً سيجد نفسه في خطوة أُخرى وهو يُواظب على مطعم مجاور ترتاده امرأة يُقدّرها أربعينية وأُخرى تُرافقها لا يسعفه أفقه بتوقع عنها ومرضي لها في الوقت نفسه.
3
“الحمرا كافيه”.. يختنق في قسمه الآخر والخاص بالمدخنين، وفي كلّ مرة تظهرُ فيها تكون أصابعها ممسكة بسيجارة لا تشعلها، وتلتصق بركن في قسم غير المدخنين دون أن تثير تحفظ الجرسونات، ولا يُمكن التنبؤ بلحظة طلبها ولا ماذا طلبت، ففي لحظة تراها تتلمس كوباً يُوضع أمامها. لا يتضح ما داخله، ولا ترفعه من مكانه!. ثم تغرق في عبارات متوالية لا سبيل لفهمها وكأنّها تُسجل رأيها الأخير في قضية حاسمة. ترفع يدها اليمنى والأُخرى تتلمس الكوب منها أصبعان تخنقان السيجارة الباردة. يتلفت الزبائن باتجاه همهماتها ومن قبيل التذمر يبدون حكماً متوازناً وخفيفاً على الضمير كخلاص قليل من القيظ الذي جلدهم قبل دخول المقهى والجلوس بالجوار.
كل يوم تُزهر عباراتها بتكرار ملموس ولا بدّ أنّها تدخل تحسينات إمّا في الصوت حسب الحالة أو ربما حسب الوقت الذي تمكن منها وهي تتربص بالباب قبل أن يُفتح لها. هي المرأة التي لا تشك بأنّها شخص غير مرغوب فيه، فكلّما راوحت بالحركة على بلاطة واحدة من رصيف “الحمرا” وأمام المقهى انتظاراً لفسحة ما من الباب كلّما توّج أحدُ الندل حركتها العسكرية تلك بسحب الباب كعادة لا تُشقي أحداً.
تدخل وأنفاسها اللاهثة تشي بحريق ما ويمكن إيعازه لشهر تموز الذي يُهيئ الأجساد خاصة لويل آب المتحفز هذا الصيف بعري تام في الوجوه والكلام المهمهم من هذه السيدة المشارفة على خمسينية لم تُحقق بقطع سنواتها ما يلفت، وهي المنحدرة من أب لبناني مهاجر وأم برازيلية لم تعرف هذا الوطن.
يقول النادل الطيب طيلة سنتين وهي تجلس هنا في انتظار أحدهم.. قبل شهور قليلة كان باستطاعتها الحديث المباشر وفضح المقالب العابرة وفتح الأبواب مع صديقتها التي تُشاركها أحياناً العشاء حسب قولها كلّما انتفضت عند السابعة تماماً لتُغادر وكوبها ساكن تماماً. كانت تحكي عن الرجل الذي وعدها بمجافاة الهجرة وأن يُخبرها بحدود لبنان وأن باستطاعة هذا البلد الصغير احتمال حياد البحر ومزاج الأنظمة وحذق الأسلحة وأن تتفهم هي تقليعات اليسار في “شارع الحمرا” وغصّة تأخرها عن أغاني زياد ورفيقه جوزيف صقر، وألاّ تحذر من رجل يُحدّق في مكان جلوسها كلّما التقت تلك الصديقة على العشاء.
4
السيدتان، الصديقتان ـ حتماً صديقتان إذ على أريكة تتسع لثلاثة أشخاص تجلسان متجاورتين؛ وتتناولان وجبة العشاء في مطعمهما “وردة” المفضل ـ. الآن بصرهما، وفي اتجاه واحد، يندلقان إلى الأمام دون انحراف. وجذعاهما متوثبان؛ لأداء فحص دقيق أو ما شابه. الرجل الغريب ببنطال يشيخ معه، وعلى قيد خطوتين منهما يساراً، يظنُّ أنّه على الأقل جزء من مساحة هدفهما الحميم، رغم أنّه يُجانب قليلاً خطَّ بصرهما، لكنّ حاجته أشدّ من حقيقة ما يحدث في الواقع. يُؤكد له ذلك عندما يجد نظرهما ينفذ باتجاهه من زجاج باب المطعم الذي لا يقربه قبل أن يُفتح له وهما تترقبان طلّته كما يعتقد.
على انفصال جسديهما بخلل يُؤكد عدم اشتراكهما ولو في فكرة تتدبرانها، وعلى تنامي رغبة الرجل، ومع أنّه لا يُمكن تحديد شيء ليتحقق الاعتقاد فعلاً بأنّ السيدتين تركزان معاً النظر إليه أو إحداهما، وللمصداقية باتجاه الباب المواجه ـ المصداقية التي يتخطاها ـ، إلاّ أنّ إمعان نظرهما لذات الاتجاه ـ وفق أمله ـ كان يشرح الصدر المجعد بعرق تُباغته برودة المكان فور استوائه ودخوله ـ بمساعدة النادل ـ وفي خيلاء الذكر المتحكم بزمام الفكرة المباحة. لم يكن الرجل الوحيد في المكان لكنّه الرجل الأقرب من هاجسهما كما يظنّ. واحدة يحلو له أن يُقدّم لها قدّاحة فسيجارتها باردة وكأسها ثابت لا يُناسب عبارات منشّاة لعدم اكتراث أحد، بينما الأُخرى سمعها تحكي عن حبل غسيل لا يترك لأصص الزهور مكاناً مناسباً ويزحم توردها نهاراً، مثلما تقتحمه هو شمس منتصف تموز قبل أن يُغادر أحد نزلاء الفندق فيستغلُّ مواربة الباب، ويهرب من مساوئ النهار متعجباً من أنّ الجميع لا يعرف أثراً لذلك الشخص الذي يبحث عنه.
عندما نسج نظره مع مدّ نظر السيدتين حطّ بصره كشظية على الباب فتوقف عن مراوغة الفكرة التي تناولها أول مرة عنهما، وراح يشعل في داخله غيرة على الباب ويُنكاف حاجة خفية لا تقلّ حجماً مما هي عليه عند السيدتين… الثلاثة يرنون إلى باب بقي صامتاً ووحيداً أمام رغبة مضاعفة في تجريب أُكرته ولو لمرة واحدة!
بيروت، أيلول ٢٠١٢