كانت شوارع المدينة تسير ببطءٍ نحو حتفها
وكنتُ ألاحق خطواتها
قلتُ: أعرّج على “ساقية الرّيّ”
وأجلس على ضفّة ذاكرتها البعيدة،
حين هرولت الشّوارع والحدائق والبيوت
وتركتني ندبةً على وجه المدينة.
/
تعلّمتُ كيفَ أدخل الثّلاثين مراوحةً مكاني
والأموات بطاعة جنودٍ ينفّذون أمر “إلى الأمام سِر”.
تعلّمتُ كيف أدور إلى الوراء بينما يمرّ موكب صديقةٍ
تجاوزَت أسباب الرّحيل الكثيرة لتقضي في حادث سيرٍ
مثل أيّ فتاة تعبر الثّلاثين داخل سيّارةٍ مسرعةٍ على الـ Highway.
تعلّمتُ كيف أسكنُ مدنًا لا أحبّها
وأتجوّل في شوارعها بوحشة حذاءٍ رياضيّ في دارٍ للأوبرا.
أجل.. اكتسبتُ حكمة الأحذية.
/
لكثرة ما أحلم وأنسى، صرتُ أشكّ بأنّني أنام. لكن كما يدرك عجوزٌ حين يفيق أنّ فكّه غفى في كوب ماء، أدرك جيّدًا أنّ لكلّ تلك الأحلام المنسيّة مسرحًا واحدًا هو الحيّ القديم الّذي عشتُ في ذاكرته حين كنتُ شخصًا آخر، شخصًا يؤمن بأحلامه كنبوءات لا كصمغٍ يثبّته ليلًا بإسفلت حياةٍ سابقة. يقولون إنّ المرء يتقن لغة بلده الجديد حين يحلم وهو يتحدّث بها، بالقياس إذًا أكون -وبعد ستّ سنوات- لم أتقن الخروج من ذاكرة الحيّ القديم. ستّ سنوات فترة كافية كي يبدأ طفلٌ تبديل أسنانه ويلثغ بلغتين. ستّ سنوات فترة كافية كي تقع في حبٍّ عظيم وكي تودّعه أيضًا. ستّ سنوات فترة كافية كي تكتسب حكمة الأحذية وتنسى كيف تُرسَم الخارطة بقلم رصاصٍ. ستّ سنوات ليست فترة كافية كي يخرج رأسي من ذاكرة الحيّ القديم .
/
مرّةً، داخل المنام، كتبت سيناريو فيلمٍ قصير، بعد أن استيقظت وجدت له اسمًا
مشهد1 نهاري / داخلي
غرفة كبيرة في بيت بلا أثاث، طلاء الجدران مصفرّ، على يسار الباب واجهة زجاجيّة تعبرها أشعّة الشّمس، جزء من الزّجاج مازال معلّقًا على الأفاريز والجزء الأكبر قطعه منثورة على الأرض. نرى فتحة في جدار الغرفة المقابل للباب تفضي إلى غرفة مماثلة في البيت الملاصق. من الفتحة نرى فتحة مقابلة تفضي إلى بيتٍ ثالث في جداره المقابل فتحة تفضي إلى الفراغ.
لا نسمع موسيقى، فقط صفيرَ ريح خفيضًا.
مشهد2 نهاري/خارجي
سيارة من طراز قديم تزعق فراملها في شارعٍ مقفرٍ، ينزلق من بابها رجلٌ في الخمسين من عمره، يتدارك نفسه قبل أن يقع، بعد أن يُصفَق باب السّيارة وتسرع نافثةً دخانًا ومطيّرةً خلفها غبارًا يغطّي وجهه. يهدأ كلّ شيء.. الخمسينيّ يبدو ذاهلًا، يتلفّت حوله، يعدّل نظّارته السّميكة، يحكّ رأسه، نرى قلم رصاصٍ مُثبّتًا خلف أذنه.
لا نسمع موسيقى، فقط أنفاس الخمسينيّ.
مشهد3 نهاري/ داخلي
رؤية 1
الخمسينيّ يدفع باب الشقّة، بالذهول ذاته يتلفّت حوله، يعدّل نظّارته السميكة، يحكّ رأسه، نرى قلم الرّصاص مُثبّتًا خلف أذنه. الكاميرا تلتقط صورة الفتحات الثلاث المتوازية من خلف رأس الرّجل، ويبدو قلم الرّصاص كصاروخٍ يخترق مراكز الفتحات.
رؤية 2
الخمسينيّ يعبر من الفتحة إلى الشّقّة الثانية، بالذهول ذاته يتلفّت حوله، يعدّل نظّارته السميكة، يحكّ رأسه، نرى قلم الرّصاص مُثبّتًا خلف أذنه. الكاميرا تلتقط صورة الفتحتين المتوازيتين من خلف رأس الرّجل، ويبدو قلم الرصاص كصاروخٍ يخترق مركزي الفتحتين.
رؤية 3
الخمسينيّ يعبر من الفتحة الثانية إلى الشّقّة الثالثة، بالذهول ذاته يتلفّت حوله، يعدّل نظّارته السّميكة، يحكّ رأسه، نرى قلم الرّصاص مُثبّتًا خلف أذنه. الكاميرا تلتقط صورة الفتحة الثالثة من خلف رأس الرّجل، ويبدو قلم الرصاص كصاروخٍ يخترق مركز الفتحة المفضية إلى الفراغ.
لا نسمع موسيقى، فقط أنفاس الخمسينيّ و صفيرَ ريح خفيضًا.
مشهد3 نهاري/ داخلي
رؤية 1
الخمسينيّ في الشقّة الأولى، لم يعد ذاهلًا. ينزع قطع الزجاج المعلّقة على الأفاريز ويرميها على الأرض.
لا نسمع موسيقى، فقط أنفاس الخمسينيّ، صفيرَ ريحٍ خفيضًا، وارتطام الزّجاج بأرضية الغرفة.
رؤية 2
الخمسينيّ في الشقّة الأولى، لم يعد ذاهلًا. يخرج متر القياس من جيب بنطاله ويشرع بأخذ مقاسات الأفاريز.
لا نسمع موسيقى، فقط أنفاس الخمسينيّ، صفيرَ ريح خفيضًا، وتفتّت الزّجاج تحت دعسات الرّجل.
رؤية 3
الخمسينيّ في الشقّة الأولى، لم يعد ذاهلًا. يخرج مفكّرةً من جيب قميصه، ينتزع قلم الرّصاص من خلف أذنه.
لا نسمع موسيقى، فقط صرير القلم على الورقة.
-النهاية-
/
“مصلّح الزّجاج”
عنوانٌ سيّء لفيلمٍ مدّته بضع ثوانٍ، لن يشاهده أحدٌ سواي.
/
كلّما قاطع نومي بكاء وحش السّرير
اعتذرت منه لأنني لم أعد طفلةً
ودللته على جهة الحرب.
/
أربكني العثور على “ساحة المحطّة” داخل مجموعةٍ شعريّة
تلك التّعويذة الّتي تقوم -منذ ثلاث سنوات- بإيصالي إلى البيت في هذه المدينة الغريبة: ” من ساحة المحطّة إلى حيّ الأميركان”
هل يعيدنا الشِّعر إلى البيت؟
/
جسدي يمشي في مدينةٍ غريبةٍ، ترافقه تعويذة واحدة “من ساحة المحطّة إلى حيّ الأميركان”، ورأسي يتجوّل ليلًا في مدينةٍ تبعد ستّ سنوات.
لا نسمع موسيقى، فقط صفيرًا طويلًا.
*****
خاص بأوكسجين