سَلَمون وصبّار
العدد 229 | 01 نيسان 2018
مريم الدوسري


سَلَمون

لم يعد بإمكانه التوقف أمام نضد السمك دون أن يشعر بتلاطم أحماض معدته وفورانها صعوداً نحو حلقه منذرةً بعاصفةٍ من الغثيان والدوار.

لم تكن الرائحة، هذا مؤكد. فقد توقف أمام هذا النضد ما لا يحصى من المرّات دون أن تزعجه الرائحة. فالأمر لم يبدأ إلا مؤخراً. كان متأكداً من هذا أيضاً. إلا أنه لم يكن بمقدوره أن يجزم متى انتابه هذا الشعور للمرة الأولى، و لا أن يتدبر وسيلة لإيقافه، سوى تدبيرٍ احترازي يقتضي تفادي المأكولات البحرية قدر المستطاع. لا يمكنه سوى أن يخمن أنه قد مضى على الأمر ثلاثة أشهر، على أقل تقدير. تظن زوجته أنه يرهق نفسه أكثر مما ينبغي، وأن ما يمر به ليس سوى عوارض فسيولوجية للإرهاق والتوتر، وتقترح، دون اختصاص، أن تكون هذه نوبات قلق ليس إلا، لذا وجب عليه أن يتناول طعاماً صحياً، كالسمك مثلاً، لذا فإنها تجبره على شراء شيء منه على الأقل مرة أسبوعياً.

يغدو الوضع أكثر إزعاجاً حين تشتهي الزوجة السلمون.

فبمجرد رؤيته لأسماك السلمون مسجاةً على الثلج المجروش، تحدق في العدم بأعينٍ هلاميةٍ و أفواهٍ مفغورة، ربما، من هول ما ترى ( بالأحمر العريض على اللوح الأبيض خلف النضد – عرض اليوم: سلمون نرويجي طازج. ديناران وخمسمائة وثلاثة وسبعون فلساً للكيلوغرام!). يتعرق، يقشعر بدنه، يتباطأ نبضه، تصخب أنفاسه، تنتفخ أوداجه، يعاوده الغثيان، يملأ اللعاب حلقه حتى يكاد يتقيأ، قبل أن يغيم وعيه لثوانٍ في تهويماتٍ موحلة.

يتساءل حين تنقضي النوبة ويطلب لاهثاً من السمّاك ما يريد ويراقب دون اهتمام مهارته في سلخ الجلد عن السمك وانتزاع أحشائه و تخليته من العظام، أو اقتلاع رؤوس الروبيان و أذياله وتنظيفه كما طلب، عمّا إذا كان ما يراه في هذه النوبات صوراً جمعية، ذكريات مشتركة، متناسخة، تنتقل من جيل إلى آخر مطبوعة في أحماض الأنواع النووية، فكما ترث اللون، والتماع الحراشف، وقدرتها على تغيير حرارة أجسادها للتكيف تارة مع المياة المالحة و تارةً أخرى مع العذبة، ترث ذلك اليقين المكابر، أو ربما غباءً عميانياً، بأنها قد لا تصل أبداً إلى مسقط رأسها، و لكنها تشرع في رحلتها على أي حال، سابحةً عكس التيار، لتحفر الإناث، بعد أن جاعت واستنفدت مخزونها من الدهن حتى استحال لونها بلون الدم و اللحم، حفراً تحرسها الذكور حتى تبيض أجيالاً جديدة، وتموت. هذا كل ما في الأمر.

لن يخبر زوجته عن نوباته هذه، تفادياً لاقتراحات أخرى، دون وجه اختصاص، ولكنه سيخبرها أنه لم يجد شيئاً من السلمون حين يحضر معهُ إلى البيت نصف كيلوغرام من الروبيان.

*

صبّار

طوّقت الفراش جوقة من الطبيبات المتدربات: مجموعة من وجوهٍ صفراء شاحبة، ودزينة من أعين منطفئة تحت هالات سود، وأجساد ناحلة، وإن انتفخت تحت المعاطف البيضاء التي لم تفصّل حسب المقاس، بدت أكثر حاجة إلى الفراش من الحالة الطبية التي يدرسنها. ضمّت بعضهنَّ دفاترهن إلى صدورهن، فيما دسّت أخريات أيديهن في جيوبهنّ، ونظرنّ إلى الحالة الطبية الممدة في وضع غير مريح أمامهن بتجردٍ علمي. تململت بعضهن وقوفاً وخربشنَ في دفاترهن بين الحين والآخر لئلا يطلنَ النظر.

كان علينا التصرف. لا تدعي الأمر يحبطك على الإطلاق. لم يكن بالإمكان تدارك الأمر قبل أن تسوء حالتك إلى هذا الحد. العملية كانت ناجحة، استأصلنا كل ما وصلت إليه مباضعنا وبدقة عالية. لا تقلقي. علينا الآن أن نحاول السيطرة على الحالة. سأصف لك أفضل الأدوية المتاحة. جُرِّبَت هذه الأدوية على قِرَدة المكاك، وأثبتت فعاليتها نسبيًا في كبح المرض وإبطائه لسنوات. ما قولكِ؟

تثاءبت إحدى المتدربات دون أن تغطي فمها، و تواصلت خربشة أقلام الرصاص على الورق.

على طاولة الطعام الملحقة بالفراش، وضعت الطبيبة المسؤولة مرطباناً زجاجياً كبيراً بغطاء معدني بدا أنه محكم الغلق. اهتز في باطنه محلول مُصفَر، و نبتةُ صبارٍ لا تزال تحتفظ بزهرتين صفراوين وأشواك طويلة، ونزّ عنها لفرط الاهتزاز مخاطٌ كثيف.

كتمتْ إحدى المتدربات شهقة، ووكزت أخرى زميلتها التي وقفت بقربها بكوعها تحثها على المشاهدة.

لم يكن هناك حلٌ آخر كان علينا إزالتها كلها. ولكنك سترتاحين الآن من وخز الأشواك، ومن دفق المخاط، لبعض الوقت، قبل أن تعاود أشجار صبّار أخرى النمو. تظل الصحراء صحراءً وإن أزلنا الصبّار منها. أليس كذلك؟  لكنها لا تكون كذلك إن أفرغناها من رملها. من السخف محاولة إفراغ الصحراء من الرمل. لذا عليّ أن أنصحك بجدية أن تفكري في الأدوية. من يدري لعلّ صحرائك تزهر يوماً؟ سأدعك تفكرين. فكري بإيجابية، التفكير الإيجابي نصف الشفاء، هذا ما أسمعه.

مالت إحدى المتدربات برأسها، و تبادلت الأخريات نظراتٍ بلا معنى، قبل أن يهرعن مغادراتٍ في أثر الطبيبة المسؤولة.

*****

خاص بأوكسجين


كاتبة من البحرين