تتمشي السيدة كلارا في الجوار مع وصيفتها كل يوم ساعة من النهار حين يكون الطقس مناسباً، وتكون هي في حال جيدة لا تخوض غمار أي وعكة صحية من تلك التي تعتري كبير السن إذا ما ُفتحت نوافذ البيت صباحاً وهو لازال نائماً.
نهار الجمعة كانت متعبة الخطى قليلاً، بالكاد تجر ساقيها جراً في الشارع الطويل وتفرد ظهرها المقوس. هذا اعتيادي للغاية إذا ما كان التعب الملم بها بسيطاً وليس تهيؤاً للموت.
ابتسمت ابتسامة عجوز تنادي الحياة ومدت يدها اليسرى لمصافحة لورا، فاليمنى غالباً ما تتوكأ بها على العكاز:
– أهلاً لورا
– صباح الخير سيدة كلارا، لكني لست لورا.
قالت السيدة مصححة الخلط بينها وبين لورا، ثم كمن انتابه شيء من ندم سريع، حاولت التراجع عن ملاحظتها غير المهمة، إذ ما كان لها تصحيح هفوة بسيطة أربكت المسنة وأسقطت عكازها عن يدها، وربما تطور الارتباك بالنسبة لعجوز هشة متوجسة إلى أبعد من ذلك، فقضت منه يوماً ملبداً بمخاوف الشيخوخة التي تقاومها بالمشي اليومي.
دهشت السيدة كلارا من نفسها كيف ارتكبت مثل هذا الخطأ في هذا العمر!؟ لم يحدث مرة أن أخطأت في تقدير الشخص الذي تراه وتحييه من جيرانها، ولا في تمييزه من خطواته، حتى الكسيح منهم، تستطيع اكتشافه من صوت عربته.
أدارت رقبتها ببطء ناحية مرافقتها الأربعينية وتمتمت :
– لورا؟
وكأنها تريد التأكد مما إذا كانت السيدة هي لورا أم لا. تبسمت مرافقتها وهزت رأسها هزاً طفيفاً.
– حسناً ما هي إلا تحية.
ألقت العجوز حينذاك بوجهها للأرض مجدداً، ومسحت شفتيها بطرف لسانها، قائلة:
– أنا آسفة إذن.
أعادت لها السيدة عكازها تحت يدها وكانت ترغب حقاً في تلافي الحرج الذي سببته، ففي لحظة اضطراب العجوز وخجلها، أرادت لو تجعلها على يقين بأنها لورا، لكن ذلك لم يعد مجدياً، فالعجوز قد تيقنت تماماً بأنها ليست لورا.
قالت لها:
– لا عليك سيدتي.
ومضت بسرعة طياً للموقف.
لم تكن تلك الليلة هينة في حساب السيدة كلارا. ظلت تفكر في الخطأ الذي اقترفته بينما الوصيفة تطعمها الحساء، حتى اهتزت شفتاها وسكبت محتوى الملعقة مرتين على مريلتها. ظل الخطأ يتعاظم في نفسها ويجرها إلى ذكريات دفينة اعتقدت أنها نستها، بينما استبدلت لها الوصيفة المريلة واستمرت في تقريب الملعقة من شفتيها الممتنعتين، ثم توقفت وأخذت الصحن بعيداً، فالسيدة منذ عودتهما للبيت ليست على ما يرام، وربما هي تخوض صراعاً داخلياً جعلها تتناول الطعام فقط من قبيل الضرورة للدواء.
حاولت أن تفهم تقلبات الأمر من نفسها، ثم سألتها:
– هل أقطع لكِ حبة فاكهة سيدتي؟
بعد شرود أجابت العجوز:
– كلا، لا أشعر بأن لدي رغبة.
– ما بك؟ أشعر بأنك غريبة قليلاً الليلة.
– أنا لست بخير اليوم ياسيمونا، لست بخير إطلاقاً!
– ماذا حدث؟
– ألم تلاحظي بأنني لم أستطع التعرف على لورا ولا تمييز خطواتها، كما وأني ضيعت عدد عطساتي اليومية.
– لم ألحظ أنك لستِ بخير، يحدث أحياناً حتى لدى الصغار أن يخطئوا في العد.
– كلا، كنت أعطس 34مرة في اليوم، وأظن أن تضييع العدد علامة غير جيدة، ربما سأصاب بالمرض، بل أنا مصابة به فعلاً وإلا ما أخطأت، لكن أي مرض يا ترى؟
– أنت تبالغين سيدتي. نتيجة خوفك الشديد فقط.
مسحت الوصيفة وجهها بمنديل معطر، فتنشقت العجوز المنديل ومررت لسانها على شفتها السفلى كعادتها حين تتلذذ شيئاً :
– لا أحد ارتكب هذا الخطأ معي من جيراني. رحلوا دون أن يعتريهم ما اعتراني اليوم . حتى عندما لا أرفع رأسي عن الأرض، كانوا يعرفونني وأعرفهم من خطواتهم بجانبي. إنني نتيجة التشويش، أشعر بأني أدنى من بقية أفراد الجنس البشري.
يا إلهي! شهقت الوصيفة حتى أفزعت القطة النائمة على المقعد، فقفزت من مكانها إلى النافذة.
أضافت العجوز قبل أن تسكت ولا تنطق بالمزيد:
– كما أنني رأيت ريكاردو في إغفاءة القيلولة، وهو شخص ميت كما تعلمين.
– وعلى أي حال رأيته؟
– رأيته يحطم شيئاً ما، حتى إني صحوت ورأسي يؤلمني مما حطمه داخلي.
– لا تجزعي، فريكاردو على أي حال كان نصف أبله.
يوم الأحد، كانت السيدة كلارا تتمشى حسب جدولها اليومي وتمر بخطوات أبطأ من خطواتها البطيئة، بصناديق الفاكهة أمام بقالة لويجي كباني. كانت تحب أن تمر به كما فعلت من أربعين سنة مضت. الآن لم يعد للويجي من البقالة عدا الاسم، فقد رحل منذ سنوات واستلم البقالة من بعده ابنه فيليب كباني، وهو رجل سيعاني فقدان الذاكرة حتما(لا سيما الجزء المسؤول عن الحسابات( إذا ما استمر يضرب رأسه بكلتا يديه، كلما تفحص الزبائن الفاكهة، ثم أعادوها للصناديق دون أن يشتروا منه شيئاً.
كانت السيدة كلارا ممن يعجلون له بذلك، حيث تمر به وتلمس بعضاً من رؤوس الفاكهة في الصناديق الخارجية وتسأل وصيفتها كالمعتاد عن الأسعار وعما إذا كانت قد اشترت لها فاكهة للأكل ما بعد الغداء، وبينما هي تواظب على عادتها اليومية تلك، ويواظب فيليب على خبط رأسه، رأت سيدة تقبل نحوها فترددت في تحيتها وأدارت وجهها ناحية صندوق الخوخ، خشية ألا تكون القادمة هي أنتونيلا كما اعتقدت.
ابتسمت السيدة وحيتها بحرارة:
طاب يومك سيدة كلارا.
ويومك.
قالت العجوز دون أن ترفع رأسها عن صندوق الخوخ.
هل نسيتني؟ أنا لورا.
أعادت لها عكازها في يدها وأكملت مسيرها.
– لورا؟
سألت العجوز وصيفتها ورأسها يقترب من صندوق الليمون، هزت الوصيفة رأسها بملل، كانت العجوز تتحسس الليمون القادم للتو من صقلية كما أعلن لويجي، ومع ذلك وجدت الوقت لتحدث وصيفتها عن جوربها الشفاف الذي نتوء منه ظفرها وضايقها، حتى وإن كانت الوصيفة لا تراه.
زفرت واستبدلت العكاز بيدها الثانية وأرادت المضي حتى انعطافة الشارع للأخير، لكن وصيفتها اعترضت وحاولت إقناعها بالمضي للبيت.
– لماذا سيدتي تريدين اجتياز شارع ليس هو دربنا إلى البيت؟
– لم أره بشكل جيد، ظننته شارعنا.
– لا ليس هو.
– ألا يؤدي إلى شارعنا؟
– يؤدي، لكنه بعيد، ستتعبين. ما الذي جعلك تعتقدين أنه شارعنا؟
– حفر الرصيف وخراء الكلاب.
كان وجهها محنياً للأرض، سحبتها وصيفتها بهدوء من ذراعها وخطت بها من جديد.
– صباح الخير سيدة أنتونيلا، كيف أنت وأحفادك؟
– سيدتي، أنا لست أنتونيلا.
– اعتذر تبدين مثلها، انظري يا سيمونا لعينيها، ألا تشبهان عيني أنتونيلا؟
– بلى بلى!
– وابتسامتها أيضاً؟
– بلى بلى.
– ووجهها؟
– بلى، بلى.
– أنا آسفة يا سيدتي، اعتقدت أنك هي.
– لا تتأسفي سيدتي، حصلت منك على تحية على كل حال.
في الطريق راودت أنتونيلا أفكار شتى، عن شبابها الذي يتفتح وعن عمر السيدة كلارا الذي ينقضي، وتسألت ما الضرر في إسعاد إنسان تتناقص أيامه يوما بعد الآخر؟ ماذا لو قدر لأحدنا عواقب فعل الخير، التحية لا شك عمل خير صغير لكنها قد تصنع يوماً كاملاً لأحدهم.
ما الضرر في أن نكذب قليلاً من أجل الخير. واستعادت كلمات كانت قد قرأتها ( لا يوجد شخص غير مفيد في هذا العالم ما دام يستطيع تخفيف عبء الحياة عن كاهل شخص آخر(
سألت الوصيفة حين قابلتها في السوبر ماركت:
– لقد لا حظت بأنها لا تحيي أحداً في الشارع سواي!
قالت الوصيفة:
– إنها لا تعرف أحداً من السكان البدلاء لجيرانها القدامى الذين رحلوا عن الدنيا.
في نهاية الشارع الذي أتعبته التعرجات وتهاوت عند أحد جدرانه نصف معالم وجه غرامشي، وجد بيت السيدة كلارا، وكان أكبر من شبيهة لورا بعشرات السنين، وقد شهد الكثير قبل أن يسمع خطوها بقربه، مرت به الذئبة التي أرضعت الأخوين رومولوس ورموس، واصطكت حذاءه عجلات عربات نقل جثث المصارعين والعبيد، ثم أقدام سرايا الفاشيست أيام كان الوقع فاشياً، وتجددت فيه قلل الزهور كلما فنت وشذبت فيه الأشجار من التمدد خارج السور الخفيض، وسقط عنه الطلاء تلو الطلاء، عدا أن في جنباته ولد الكثير من قطط روما الحالية.
قالت في نفسها:
– طالما أنا مصدر سعادة لهذه العجوز، ربما هذا هو عملي الحقيقي في الوجود بينما أنا أخرج يوميا للبحث عن عمل.
منذ ذلك اليوم قررت شبيهة لورا أن يكون لها عملان: البحث عن عمل، وإيهام السيدة كلارا أنها لورا. وبينما كانت تتخذ قرارها بإسعاد المسنة ويتخذ القرار شكلها، قطعت الطريق إلى ناصية الشارع الثانية، وكان ثمة سيارة عجلى تأتي لاجتياز الطريق كذلك، كانت من السرعة والجنون بحيث لم يكن أمامها جزء من ثانية تدرك فيه أنها تقتلها.
كان شيئاً مجنوناً قصيراً قد حدث، لأن دم القرار أو الضحية لم يتجلط على السيارة، وقيل بأنها السعادة التي جعلته فارقاً لا يلتصق بشيء ولا يلطخ ما يمسه. ذلك المساء جلست السيدة كلارا تحت شمس الحديقة الدافئة تترقب مرورها، وقد منعت نفسها من أن يغشيها النعاس مراراً، حتى لا تنسى بأن الشابة ليست لورا إنما شبيهتها. كانت في الآونة الأخيرة ما أن تغفو قليلاً حتى تنسى الكثير، وتتبدل لديها الرؤى والمفاهيم، أما إن رأت ريكاردو أو أحداً ممن يشبهونه، فسيتحطم في رأسها الكثير، ولن تعود هي نفسها بعد الاغفاءة ما كانت عليه قبلها. كانت تقاوم فاشية النسيان في معركة ذاتية لا تريد أن تخسر فيها إحساسها القديم بنفسها. ولا تريد الاستسلام كما استسلم للزمان نصف وجه غرامشي الذي رسمه ابنها ريكاردو. تفعل ذلك لا رغبة في أن تصبح الحياة أجمل، بل لئلا يكون الوقت الذي يسبق الموت أكثر قبحاً.
*****
خاص بأوكسجين