رمي النرد وحيدًا
العدد 183 | 21 تشرين الثاني 2015
سومر شحادة


لا كتب تدخل إلى سورية، السلاح فقط ما يدخل. علاوة على أنّه، في حال دخلت: هل ستستطيع شراءها؟! إذاً، لا تتحجج بعدم دخول الكتب. في الحقيقة، أنت لم تعد قادرًا على شرائها. ولهذا تتأمل أدراج الفهارس الموجودة في مكتبة “عبد الله عبد” في المسرح القومي. بينما تحضر لك الموظفة المسؤولة، مجموعة خليل حاوي الشعرية. 

مسرحٌ قومي وتخليد لذكرى المبدعين بالأسماء، فكرة تقليدية عن بلد تقليدي، راحوا يطلقون فيه على الدوارات والجوامع والشوارع ومواقف الباص، أماكن التفجيرات والقذائف، أماكن النزف الأعمى للدماء، اسمًا واحدًا وهو “دوار الشهداء” أو “جامع الشهداء” لماذا لا نسمي البلد، بالمرة، بلد الشهداء؟ 

صحيح. أذكر أنّه ليست ثقافة الحياة هي ما تمنعنا، لكننا مختلفون اختلافًا مهينًا على المبدأ الإنساني البسيط. باعتبار كلّ من يموت في حرب يرفضها شهيدًا؟ أليس ذلك معيارًا بسيطًا في محاكاة الضمير المعقد للإنسان ما بعد الحداثي! 

تأخذك “دقات” الموظفة على الكونتوار من شرودك في اللحظة التي قرر فيها خليل حاوي الانتحار. أي صخب مريع في رأسهِ، أي صراخ عنيف وصادم في روحهِ. تمضي إلى الموظفة وتفكر أنّ انعدام إمكانية الإطلاع على كتب “الثقافة العربية الجديدة” قد جعلك تعود لقراءة كتب الزمن الجميل حيث كان الوطن خارج حدود التفكير، خارج المنطق الإنساني! أمرًا مسلمًا بهِ، مثله مثل الله؟ 

تمضي في شارع هنانو، تدخل الانسياب المنلفت للبشر والظلال، وتفكر أنّه لطالما وجدت نفسكَ مقابل أشياء لم تقبل أن تضعها في خياراتك، حتى لا تصير أنت نفسك خيارًا. لقد بت تجد نفسكَ جزءًا من الأشياء مع وقت. لا تعجبك الصوفية، كما لا تعجبك أية طريقة معرفية أخرى، وهذه مشكلة. لكنك ما زلت مأخوذًا ببيت الحلاج ” كفرتُ بدين الله والكفر واجبٌ.. عليّ وعند المسلمين قبيحُ” أي، إنّك لا تؤمن بأنّ الحب أمر يمكن المساومة عليه، لأنّه أكبر من الاختيار، أكبر من الطريقة بتعبير أكثر دقة. كذلك، لا تؤمن بأنّ للحرية باب علينا طرقه بالدماء، لأنّها أمرٌ شاسع ولا محدود. حتى لتكاد تكون الله؟ 

أجدكَ تقدم الحرية على الحب، لأن الحب ينطوي على حرية شاهقة، وهي حرية اكتشاف الذات، حريتها في اختبار إنسانيتها وإدراكها على نحو ما. يبدو غريبًا أنّك لا تحبذ الشعر الذي يقبل التأويل. وتحبه بسيطًا في الشكل وغزيرًا في المعنى. بالطبع، غزارة المعنى أمرٌ مختلف كليًّا عن قابلية النص للتأويل. ولهذا ربما، لا تكمل شارع هنانو إلى الشيخضاهر، وتنزل على طريق سينما الكندي المغلقة، لتتأمل المرفأ. تبدو جملة غريبة لغير اللاذقاني، فالأصح أن تتأمل البحر؟ لكنها معقولة هنا، حيث بات التخريب جزءًا من هويتنا الوطنية. 

إذاً، مع الوقت بتّ جزءًا من الحب، وجزءًا من اللامبالاة، جزءًا من الحياة، ومن النزوع إلى العزلة. لقد توزعت إلى حدود التلاشي على كافة المقولات الكبرى في التاريخ الإنساني. ولذلك، أنت تتأمل السفن ولا تفكر بأي شيء إطلاقًا، حتى لتكاد تكون جزءًا من السور. تتأمل السفن والناس والدواب بالعين نفسها، تنظر إلى الوردة نظرتك ذاتها إلى الأشواك. لكن مهلًا مهلًا لماذا تهرول إلى البيت، كي تتفقد بريدك الإلكتروني وتطمئن – وأنت مطمئن لهذا الجانب أصلاً- إن كان فايز علام قد أرسل لك كتابًا كان قد وصله بطريقة ما. ولماذا تسرع كي تجمع الغسيل عن الحبل، كونك وحيد في المنزل، لماذا تسرع في لملمة الأوراق التي وقعت منك في الطريق. على الرغم من أنّك الوحيد الذي سيهتم بأوراق مبعثرة. ولماذا تبعثر الأوراق، ثم تجمعها؟ ألم تتوقف بعد عن رمي النرد وحيدًا في المقهي؟

*****

خاص بأوكسجين


روائي وكاتب من سورية. من رواياته "حقول الذرة"" 2017rn"