رسول
العدد 240 | 11 كانون الثاني 2019
نسرين أكرم خوري


بالكاد يتذكّر العجائز تلك الأيام التي كانت فيها بلدتاهم على وفاقٍ، يبدو الأمر بعيداً إلى حدّ قدرة البعض على إنكار حدوثه. فالحرب تدور وتدور بلا توقّف بينهما، تبدو مثل زوبعة تبلع شبّاناً من هنا، شبّاناً من هناك بقسمةٍ عادلة. طيلة عمر هذه الحرب الهرمة لم تعرف البلدتان أيّ محاولة سلام ولو كانت زائفة. عدا هذه المعارك المندلعة، لا شيء متبادل بينهما إلاّ بعض البضائع، بفضل اتّفاق قديم، لا أحد يعرف تاريخه أو رعاته، اتّفاق ينظّم هذا التّبادل التجاري ويضمن سلامته واستمراره. للمال وحده خلقت المعابر الآمنة.

كان رسول يعمل عتّالاً، إلاّ أنّه يتمتّع بمزاجٍ رائق مغاير لما عهده البشر من سخط لدى أرباب كاره والمشتغلين فيه. بسبب عمله هذا أتيحَت له حرّية التحرّك في بلدةٍ لم تهنأ يوماً. نستطيع القول إن رسول يعمل أيضاً أجيراً لدى جارته راوية، أجيراً بلا أجر، مثل أيّ عاشق كسره الحبّ. كان رسول في الخامسة عشرة من عمره، أمّا راوية ففي الثانية والعشرين، سبع سنوات كانت كافية في تلك المرحلة كي تعتبره راوية مجرّد طفلٍ، تقول له كُن، فيكون.

ينفطر قلب المرء حين يرى كيف شهد رسول غراميّات راوية، كثيراً ما راقب لقاءاتها السريّة بصمت وأسى عميق، في بعض الأحيان كانت تلمحه ولا تكترث، بل على العكس يبدو أن ذلك كان يؤجّج عاطفتها تجاه حبيبها أكثر، وكأنّما كانت تتقصّد إلحاق الذلّ بمشاعر رسول الذي فكّر غيرَ مرّةٍ بمقاطعتها وترك وظيفته الأزليّة خادماً لها، كما يصف أصحابه الأمر ساخرين، لكنه في كلّ مرّةٍ كان يجدُ قدميه تسيران نحو باب بيتها، وكأنّهما لا تعرفان في الأرض طريقاً آخر.

التحق حبيب راوية بالخدمة العسكرية وصار لزاماً عليه أن يرابط في جبهة الحرب المفتوحة بين البلدتين، الأمر الّذي جعل لرسول من اسمه نصيب، فقد امتلكت راوية من الوقاحة والشّرّ ما يكفي كي تجعل من رسول ساعي بريدٍ يوصل رسائلها إلى غريمه. صارت تنتظر وصوله الصباحيّ المعتاد، حتّى تغلق المظروف مبلّلةً حوافّه بريقها وتسلّمه إيّاه قبل أن يجفّ.

فكّر رسول بأنه يندر أن يعود أحدٌ من الجبهة، لماذا سيكون حبيب راوية استثناءً؟ ما جعله يخالف لأول مرةٍ في حياته أمرًا أعطي له، احتفظ بالرسائل لنفسه، لكنّه تمتّع بالأمانة المطلوبة لكي لا يفضّ المظاريف، فقط في استراحات الغداء يتحسّس أطرافها ويشمّ عليها رائحة راوية.

في إحدى استراحات الغداء تلك كُلّفوا بنقل طلبيّة مستعجلة، أخفى رسول الأمانة في جيبه وشرع يحمّل الصناديق في الشاحنات المعدّة لنقلها. حين عاد مساءً إلى المنزل لم يجد الرسالة.

 ظافر رجلٌ صلف يشرف على عمليّات تفريغ البضائع القادمة من بلدة رسول، البلدة العدوّة، وفي يده وقعت رسالة راوية المفقودة. ارتاب في البداية وأخفاها بسرعةٍ في جيب سترته الداخلي، ثمّ حين انفرد بنفسه فضّ المظروف وشرع يقرأ الرسالة.

“حبيبي..

عدد الأيام التي لم أرك فيها: واحد وثلاثون، عدد رسائلي إليك: ثلاثون، عدد الرسائل التي وصلتني منك: صفر. تسعة وعشرون هو عدد الأيام التي وقفت فيها أمام باب منزلي أنتظر أن يطلّ رسول ملوّحاً لي بمظروفٍ صغير أبيض، بلا فائدة. لا أعلم إن كانت الحروب تنسي الرجال نساءهم. إن كان هنالك أمرٌ أخشاه في هذا العالم فهو نسيانك لي. أنا أعي أنك مثل أبي ومثل كلّ الذين ذهبوا إلى الحرب قد تعود إليّ جثّةً هامدة، ولكن هذا لا يريعني، لأنك حين تموت تموتُ وحدك، أما حين تنساني نموت كلانا. أنا أنانيّة وأنت تدرك ذلك وتحبّني لأنني أنانيّة. هل تذكر كم أعجبك أن أبالغ في استعراض الغنج وفنون الحبّ أمام الصبيّ الأحمق رسول كي نراه يتألّم، ثم يعود إليّ كما تعود الكلاب إلى أصحابها؟ وها أنا الآن أحمّله رسائلي إليك، مع شكوكٍ بأنه سيفتحها ويقرأ كيف أصفه مرّةً بالأحمق ومرّةً بالتّافه ومرّات بالذميم، وهذا ما زال أمراً يروقني، ألم تعد تحبّ لعبتنا هذه؟ لكنّني يوماً بعد يوم بتّ أخاف أن يتلف رسول رسائلي قبل أن تصلك، أعرف أنه يمتلك من الإخلاص ما يمنعه من فعل ذلك، لكن ربما كنتُ أُفضّلُ لو أنّه يفعلها حقّاً، على أن تذرو رياحك كلماتي وكأنني لم أكتبها. في الليل أخطّ لك رسالة الغد، في الصباح أسلّمها لرسول، بعد الظّهر أنتظره كي يلوّح لي. هل لاحظت أن ما يجري بين فقرات يومي الثلاث لم يعد مهمّاً؟ لو تعلم كم يرعبني أن ينفد مخزوني من الكلام، ما الذي يبقى للناس إن فقدوا كلماتهم؟ أو ما الذي يبقى منهم؟ أمي تنوي تزويجي من أحد معطوبي الحرب، تقول إن ذلك يضمن ألاّ أصبح أرملة مثلها، فكلّ الأصحّاء يساقون إلى الجبهة ليعودوا داخل توابيت. وأنا لا أدري إلى متى سأظلّ أكترث، لا أعرف حين ستتوالى أيام أكثر على صمتك ما الذي سأحسّه. أريد أن أنساك، ولكن إن لم أكتب لك فلن أجد شيئاً آخر أجيد فعله. أرجوك أرسل لي رسالةً أو مُت.

راوية”

أعاد ظافر قراءة الرسالة عشرات المرّات، أعجبته النبرة المتعالية لكاتبتها وصراحتها في التعبير عن مشاعر يخفيها البشر عادةً، أما هي فترميها هكذا ببساطة، غير آبهة بشيء وكأنّ كلّ ما يهمّها هو أن تخرج الكلمات منها كي تنبع من جديد في داخلها. لكثرة ما قرأ الرسالة أحسّ بأنها كتبَت له، ولم ينفع شيءٌ في إزاحة تلك الفكرة من رأسه، بما في ذلك محاولاته المتكرّرة لتذكير نفسه بأن الرسالة قادمة من بلدة العدوّ. ألفى نفسه يخطّ ردًّا لها.

رسول دخل تاريخ الحرب من بابٍ خلفيّ. حين بعثوا بطلبه بالاسم “العتاّل رسول” كي يكون المرافق المعتمد للبضائع القادمة من بلدته.

في اليوم الأوّل من عمله الجديد، وفور ترجّله في بلدة العدوّ/ ذلك المكان الغامض حيث يقطن الأشرار، أخذ رسول ينقّل ناظريه بذهولٍ تامّ، فكّر بأنهم لو عصبوا عينيه في الطريق ثمّ فتحهما هنا لظنّ أنّه لم يبرح بلدته لشدّة التشابه بين البلدتين. حدّق في وجوه الناس، كاد أن يسلِّم عليهم لأن لهم ملامح جيرانه وأقاربه ذاتها. أطال النّظر في المؤخّرات بحثاً عن الذّيول، لطالما أخبره أصدقاؤه أن سكان بلدة العدو كالدواب يمشي واحدهم ملوّحاً بذيله يمنةً ويسرةً. أقسم أنّه شاهد قميصه على حبل غسيل أحد البيوت. إنهم ينامون في بيوتٍ مثل بيوتنا أيضاً، لا داخل أقفاص كما يشاع! فكّر رسول. فهمَ كلّ الكلمات التي خرجت من أفواه المارّة، كان يعتقد أنّ بلدتهم الوحيدة في العالم التي تنطق الحروف بمثل هذه الطريقة. ومن راديو أحد المحال انبعث برنامجٌ تتابعه أمّه داخل بيتهم في هذه الساعة. حتّى مشوّهو الحرب نقصت منهم أعضاء مطابقة لتلك التي فُقدَت من أجساد شبّان بلدته. عبرت رأس رسول فكرة خاطفة: ما دمنا متشابهين مثل قبور متجاورة، لماذا نتحارب؟ لكنه سرعان ما كشّها بعيداً، فرسول خُلِقَ كي ينفّذ، لا كي يسأل.

قبل أن ينهي مهمّته الأولى في بلدة العدوّ استدعاه ظافر إلى مكتبه. وجده جالساً خلف طاولة المكتب بقامته الضّخمة، ويداه الكبيرتان تقلّبان مظروفاً مازال رسول محتفظاً برائحته عميقاً في قلبه. لم يستخدم ظافر كلماتٍ كثيرة، فقط سلّمه مظروفاً آخر، وقال: ليَد راوية. ثمّ مرّر يده على عنقه مصدراً بفمه صوتاً يقلّد برداءةٍ صوت حزّ سكّين.

لا نعرف إن كان رسول قد فهم التهديد بالقتل الّذي تعرّض له من قبل رجلٍ مخيف، صار للتوّ غريمه الجديد. ولا نعرف إن فكّر بعنقه الّذي سيطير لو أتلف الرسالة القادمة من مكتب العدوّ أو إن اكتشف الرسالة أحدٌ في مكتب الرّفاق. هل فكّر في راوية؟ لا نعرف أيضاً. ما نعلمه هو أنّ رسول أخذ الرسالة وسلّمها لأوّل امرأةٍ صادفها في أحد أزقّة بلدته. صبيحة اليوم التالي كانت المرأة واقفةً قبالة بيته، وفي يدها مظروف جديد. سلّمه رسول لأول رجلٍ رآه في بلدة العدوّ. عند الظهيرة قابله الرجل ملوّحاً بمظروفٍ آخر. ليعود رسول ويعطي الرسالة لامرأةٍ أخرى. وهكذا وجد رسول نفسه وسط لعبةٍ لا تنتهي، ولا أحد ينوي إيقافها. صار ساعي بريد بين البلدتين، يتحرّك مثل كرة الروليت ليصيب ما يصيب: جنوداً، ربّات منازل، مشوّهي حرب، عجائز، جميلات.. لا فرق. اختفت أصوات الرصاص تدريجيّاً في البلدتين، الجنود لم يعد لديهم وقتٌ للقتل، مثلهم مثل الجميع صاروا مشغولين بكتابة الرّسائل وانتظار الرّدود. لم ينتبه أحدٌ إلى أنّ المعارك قد توقّفت بشكل كامل. وحده رسول لم يخطّ أيّة رسالة ولم تصله واحدةٌ أيضاً. رسول الّذي حُمّل بآلاف، بل بملايين الكلمات، عاش حياته كاملةً بلا كلمات.

*****

خاص بأوكسجين


روائية وشاعرة من سورية. صدرت لها مجموعة شعرية بعنوان "بجرة حرب واحدة"" 2015، ورواية ""وادي قنديل"" 2017.rn"