خلقني الله من خلال عدسة مكبّرة
العدد 152 | 17 أيار 2014
دي. بي. سي بيير/ ترجمة: أسامة منزلجي


تنتزع النائبة غوري قطعة من اللحم عن العظمة؛ تتدلّى إلى داخل شفتيها وكأنها خراء يعود إلى مصدره. “أعتقد أنّك تعلم مَن هو الكذّاب؟ الكذّاب شخص مُضطرب عقلياً – هو الذي يلوِّن مناطق رمادية بين اللونين الأسود والأبيض. ومن واجبي أنْ أنصحكَ بأنه ليست هناك مناطق رمادية. الحقائق حقائق. وإلا فهي أكاذيب. هل أنت معي؟”

   “نعم يا سيدتي”

   “آمل هذا حقاً. هل تستطيع أنْ تُثبت مكان وجودك في الساعة العاشرة وربع من صباح يوم الثلاثاء؟”

   “كنتُ في المدرسة”

   “أعني الفترة”

   “أه – في درس الرياضيات”

   أنزلتْ غوري العظمة لكي تُحدّق إليه. “هل نسيتَ الحقائق الهامة التي حدّدتُها لك تواً، عن الأسود والأبيض؟”

   ” أنا لم أقُلْ إنني كنتُ داخل غرفة الدرس… “

   أنقذَ قرعٌ على الباب حذائي الرياضي من الانصهار. أطلَّت سيدة صاحبة تسريحة شعر جامدة من الباب. “فرنون ليتل موجود هنا؟ إنَّ أمه على الهاتف”

   “حسن، يا إلينا”، ورمتني غوري بتحديق كأنها تقول “لم ننته بعد”، وأشارت بالعظمة نحو الباب. تبعتُ السيدة ذات التسريحة الجامدة إلى غرفة الاستقبال.

   كان ينبغي أنْ أشعر بالامتنان، لولا أنْ أمي هي المتّصلة. بيني وبينك، كأنها غرزت سكيناً في ظهري عندما وُلِدتُ، والآن أي صوت يصدر عنها يُحرِّك فيَّ تلك السكين. وأصبحت مغروزة أعمق الآن بعد أنْ رحل والدي ولم يعُد يشاركني الألم. وعندما رأيتُ الهاتف انكمش كتفاي، وتدلّى فمي مفتوحاً. وإليك ما ستقول بالضبط، بطريقتها الشاكية اللعينة، سوف تقول ” فرنون، هل أنت بخير؟”، أؤكد لك.

   “أأنت بخير، يا فرنون؟”، وأشعر بالسكين  يقطع.

   “أنا بخير، يا أمي”، وقد أصبح صوتي ينم عن الضآلة والحمق. إنه مناشدة وضيعة لها كي لا تبدو مُثيرة للشفقة، لكنَّ تأثيرها كان أشبه بقطة في مواجهة كلب لعين.

   “هل استخدمتَ الحمّام هذا اليوم؟”

   “ما هذا الكلام، يا أمي…”

   “أنت تعلم أنَّ لديك تلك الحالة – المزعجة”

   إنها لم تتصل لكي تُحرك السكين، بل لكي تستبدلها برمح أو ما شابه. لستَ في حاجة إلى معرفة ذلك، ولكن عندما كنتُ طفلاً صغيراً كان سلوكي  غير متوقَّع، بالنسبة إلى “الأوضاع البديلة” على أية حال. لا عليك من التفاصيل القذرة، لقد أضافت أمي هذا كله إلى السكين، لكي تتمكن من تحريكه بين حين وآخر. بل إنها ذات مرة حكت ذلك لمعلّمتي، التي كانت تحتفظ لي بمجموعتها الخاصة من الطعنات، وهذه العاهرة أخبرت تلاميذ الصف. أتصدّق هذا؟ كان في استطاعتي أنْ أشتري مزرعة في الحال. إنَّ السكين هذه الأيام تعمل عمل سيخ لعين، مع كل القذارة التي أُضيفَت إليه. 

   تقول “هذا الصباح لم يكن لديك الوقت الكافي، لذلك قلقت من أنك ربما – أنت تعلم ما أعني…”

   أجيب بأدب “أنا بخير، حقاً”، قبل أنْ تغرز السكين الحادّ اللعين كله. إنها عملية اختطاف.

   “ماذا تفعل؟”

   “أُصغي إلى الشرطية غوري”

   “لودل غوري؟ حسن، أخبرها إني أعرف أختها رينا من مركز تخسيس الوزن”

   “إنها ليست لودل، يا أمي”

   “إذا كان باري فإنَّ بام تراه مرة كل أسبوعين…”

   “إنه ليس باري. يجب أنْ أذهب”

   “حسن، إنَّ السيارة لا زالت في التصليح وأنا أُعدُّ كمية كبيرة من الكعك اللذيذ لآل ليتشوغا، لذلك سوف تقلّك بام. وفرنون…”

   “نعم؟”

   “اجلس معتدلاً في السيارة – إنَّ البلدة تعجّ بآلات التصوير”

   ثمة إحساس غريب يسري على طول ظهري. كما تعلم الأمور الغامضة لا تُرى على شريط الفيديو. ولا تريد أنْ تكون حاضراً يوم تظهر القذارة بالأبيض والأسود. أنا لا أقول إنني الملوم، فلا تُخطئ في فهمي. أنا هادئ بهذا الخصوص، أترى؟ تحت حزني صفاءٌ متوهجٌ ينبعث من معرفة الحقيقة دائماً وهو ينتصر في النهاية. لماذا تنتهي القصص السينمائية نهاية سعيدة؟ لأنها تُحاكي الحياة. أنت تعلم هذا، وأنا أعلمه. لكنَّ أمي تفتقر إلى هذه المعرفة اللعينة، يا للروعة.

   أقطع الصالة نحو الكرسي المُبقَّع. تقول غوري “مستر ليتل، سوف أبدأ من جديد – وهذا يعني الكشف عن بعض الحقائق، أيها الشاب. إنَّ لدى الشريف بوركورني أفكاراً صلبة عن يوم الثلاثاء، وعليك أنْ تكون ممتناً لأنك تتكلَّم معي”. وتذهب يدها لتلمس كسّها، لكنها تنحرف نحو المسدس في اللحظة الأخيرة.

   “يا سيدتي، أنا كنتُ خلف قاعة الألعاب الرياضية، ولم أر حتى ما حدث”

   “أنت قلت إنك كنتَ في صف الرياضيات”

   “أنا قلت إننا كنا في ساعة درس الرياضيات”

   نظرتْ إليّ شزراً. “وهل تتلقّى درس الرياضيات خلف قاعة الألعاب الرياضية؟”

   “كلا”

   “إذن لِمَ لم تكن في الصف؟”

   “كنتُ أؤدي مهمة لصالح السيد نَكلز، و – تأخرت”

   “السيد نَكلز؟”

   “أستاذ الفيزياء”

   “ويُعلِّمكم الرياضيات؟”

   “كلا”

   “همم. هذا الكلام يبدو غامضاً حقاً، يا مستر ليتل. غامض جداً” 

   ليست لديك فكرة كم رغبتُ في أنْ أكون جان كلود فان دام؛ في أنْ أُقحِم مسدسها اللعين في طيزها، وأهرب مرتدياً ملابس أطفال. ولكن انظر إليّ : لديّ كتلة من الشعر البنيّ الأشعث، ورموش جمل. وقسمات وجه جرو كبير وكأنَّ الله خلقني وهو ينظر من خلال عدسة مُكبّرة لعينة. سوف تعلم على الفور أنَّ فيلمي السينمائي المفضّل هو ذاك الذي تقيّأت فيه على ساقيّ، وأرسلوا ممرضة لكي تستجوبني.

   ” لديّ شهود، يا سيدتي “

   ” أحقاً “

   ” السيد نَكلز شاهدني “

   ” ومَنْ غيره؟ “. تحرّك العِظام الجافة داخل علبتها.

   ” عدد من الأشخاص “

   ” أحقاً. وأين هم أولئك الأشخاص الآن؟ “

   أحاولُ أنْ أتذكّر أين هم أولئك الأشخاص. لكنَّ الذاكرة لا تُسعفني، بل تُسعِف الدمع لينضح من بين رموشي كطلقة نديّة. وأجلس مذهولاً.

   تقول غوري ” بالضبط. إنهم ليسوا حقيقيين، أليس كذلك؟ إذن يا فرنون – دعني أطرح عليك سؤالَين بسيطَين. واحد : هل تتعاطى المخدرات؟ “

   ” أوه – كلا “

   تلاحقُ بؤبؤيّ عينيّ عبر الجدار، ثم تُعيدهما نحو عينيها. ” اثنان: هل تمتلك سلاحاً نارياً؟ “

   ” كلا “

   تزمّ شفتيها. تتناول هاتفها عن حامله على حزامها، وتضع إصبعاً على أحد المفاتيح، وهي ترمقني طوال الوقت. ثم تضغط عليه، فتصدر موسيقى فيلم ” مهمة مستحيلة ” عبر الهاتف في الصالة. تقول ” أيها الشريف؟ لعلك ترغب في الحضور إلى غرفة الاستجواب “

   ما كان لهذا أنْ يحدث لو تبقّى المزيد من اللحم في علبتها. لقد  جعلها رعب نفاد اللحم إلى البحث عن وسائل أخرى للمواساة، هذا ما تعلّمته تواً. لقد أصبحت أنا بديل اللحم اللعين.

   بعد دقيقة، يُفتَح الباب. يلج الغرفة شريط من جلد الجاموس، يلفّ روح الشريف بوركورني. يسأل ” أهذا هو الصبي؟ “، وكأنه، والعياذ بالله، دولي بارتون. ” أهو متعاون، يا فين؟ “

   ” لا أستطيع أنْ أقول إنه كذلك، يا سيدي “

   ” دعيني معه لحظة “. ويُغلق الباب خلفه. تسحب غوري صدرها الضخم عبر الطاولة، وتتحول إلى الزاوية وكأنها غير موجودة. ينفثُ الشريف حزمة من الرائحة الفاسدة في وجهي.

   ” في الخارج أناس غاضبون، يا بنيّ. والغاضبون يُسرعون في إصدار أحكامهم “

   ” إنني حتى لم أكن موجوداً هناك، يا سيدي – ولديّ شهود “

   يرفع حاجبيه نحو غوري في الزاوية. وترفّ إحدى عينيها في المقابل، ” نحن نتحقق من الأمر، أيها الشريف “

   يمشي بوركورني، بعد أنْ يتناول عظمة نظيفة من العلبة، إلى الصورة المعلَّقة على الباب، ويقتفي أثر خط يُحيط بوجه يسوع، والدم المتدفق، والعينين الشاردتين. ثم يوجّه تحديقه إليّ. ” لقد تحدث معك – كما علِمت “

   ” ليس عن هذا، يا سيدي “

   ” لكنكما كنتما متقاربين، أنت اعترفتَ بذلك “

   ” لم أكن أعلم أنه ينوي أنْ يقتل أحداً “

   يلتفت الشريف إلى غوري. ” هلاّ تفحّصتِ ملابس ليتل، من فضلك؟ “

   تقول ” شريكي فعل “

   ” وملابسه الداخلية؟ “

   ” عادية “

   يتفكَّر بوركورني برهة، ويعضّ على شفته. ” وهل تفحّصتها من الخلف، يا فين؟ أنت تعلمين أنَّ بعض الممارسات يمكن أنْ تجعل الرجل يُخرِج سائله “

   ” تبدو نظيفة، أيها الشريف “

   أنا أعلم إلى ما يرمي هذا اللعين. من الطبيعي أنَّ لا أحد من حيث أعيش سوف يأتي ويقول ذلك. وأحاول أنْ أتمالك نفسي. ” سيدي، أنا لست شاذاً، إنْ كان هذا ما تعني. لقد كنا أصدقاء منذ الطفولة، ولم أكـن أعلم أنه سيتحول إلى… “

   تشكّلتْ ابتسامة غامضة تحت شارب الشريف. ” إذن أنت فتى طبيعي، أليس كذلك، يا فتى؟ تحب سياراتك، ومسدساتك؟ و – فتياتك؟”

   ” طبعاً “

   ” حسن، لا بأس – فلنرَ إنْ كان هذا صحيحاً. كم مركز لدى الفتاة تستطيع أنْ تُدخِل أكثر من إصبع فيه؟ “

   ” مركز؟ “

   ” أي تجويف – ثقب “

   ” آآ – اثنان؟ “

   ” خطأ “. ينتفخ صدر الشريف كأنه اكتشف نظرية النسبية اللعينة.

   تباً. أعني، كيف لي أنْ أعرف؟ لقد أدخلتُ طرف إصبعي في ثقب ذات مرة، لا تسألني في أيّها. وترك لديّ ذكريات عن مرفأ تحميل الخاص بمخزن البضائع المنوّعة بعد هبوب عاصفة؛ وبقايا ورق مقوّى منقوع بالماء وحليب متخثِّر. وبصورة ما لا أعتقد أنَّ هذا ما تتحدث عنه صناعتك للإباحية. ولا يشبه تلك الفتاة الأخرى التي أعرفها واسمها تيلر فيغيروا.

   رمى الشريف بوركورني عظْمته في العلبة، مومئاً برأسه لغوري. ” سجلي أقواله، ثم أوقفيه “، وخرج من الغرفة بخُطى تُصدر صريراً. 

   هتف للشرطية من خلال الباب ” فين؟ الملابس “

   تلملمُ غوري نفسها. ” أنت سمعتَ الشريف. سأعود مع ضابط آخر لكي يأخذ إفادتك “

   بعد أنْ تلاشى صوت حفيف فخذيها، أخذت أشمّ الهواء بحثاً عن عزاء غامض، رائحة خبز مُحمّص دافئ، أو نفحة من عبق نعناع. ولكن كل ما شممتُ، غير العَرَق وصلصة الشِواء، هو رائحة المدرسة – تلك التي يُطلقها الصِبية المتنمرين عندما يلمحون صبياً هادئاً، بارعاً في صياغة الكلام، في الركن. رائحة لوح خشب اقتُطِعَ من صليبٍ لعين.

_____________________________________

من رواية “فرنون الإله ليتل” الحائزة على جائزة “بوكر” 2003

 

الصورة من أعمال الفنان المصري عاطف أحمد. 

زوروا موقعه www.atefahmed.com للتعرف أكثر على تجربته المميزة.

*****

خاص بأوكسجين


مساهمات أخرى للكاتب/ة: