خشب اقتُطِعَ من صليبٍ لعين
العدد 139 | 14 أيلول 2012
دي. بي. سي بيير/ ترجمة: أسامة منزلجي


    الجو حار كالجحيم في مارتيريو، لكنّ الصُحُف على الشُرفة مُثلجة بما تحتوي من أخبار. لا تحاول حتى أنْ تُخمِّن مَنْ يقف طوال ليلة يوم الثلاثاء على الطريق. إليك مُساعدة: إنها العجوز السيدة ليشوغا أُمّ مخطة. من الصعب معرفة إنْ كانت ترتعش، أم أنَّ العث وضوء الشرفة التي تنفذ من خلال أشجار الصفصاف يُجعِّدْ جلدها كساتان الجنازات في مهب الريح. في كلا الحالتين، بيَّنَ ضوء الفجر بركة صغيرة بين قدمَيها. إنها توحي بأنَّ الأوقات الطبيعية تفرّ عاوية من البلدة. ربما إلى الأبد. ويعلمُ الله أني بذلتُ أقصى جهدي لأتعلَّم أساليب هذا العالم، بل وتكوَّنت لديّ لُمَحْ عن أنه يمكن أنْ نكون رائعين؛ ولكن على أية حال هذا يحدث، لم يعد سهلاً الحصول على الأفكار الغامضة. أعني – أي نوعٍ من الحياة اللعينة هذه ؟ 

    الآن نحن في يوم جمعة في مكتب الشريف. يبدو أنَّ اليوم هو جمعة في المدرسة أو ما شابه. المدرسة – إياك أنْ تذكرها أمامي. 

    أنا جالس أنتظر بين أشعة الضوء الممتدة من صفٍ من الأبواب، عارٍ إلا من حذائي وملابس يوم الخميس الداخلية. يبدو أني أول مَنْ أنجبوه حتى الآن. أنا لست في ورطة، لا تُسئ فهمي. لا صِلة لي بيوم الثلاثاء. ومع ذلك، لا أنصحك بالتواجد هنا في هذا اليوم. أنت تذكُر كلارنس الذي لا أعرف كنيته، ذلك العجوز الأسود الذي ورد خبر عنه في الصحف في الشتاء الفائت. إنه المجنون الذي أغفى في هذا الرواق الخشبي نفسه، أمام عدسة الكاميرا. قالتْ الأخبار إنه لم يأبه أبداً بنتائج جرائمه. وبكلمة ” نتائج ” أعتقد أنهم عنوا الجراح التي أحدثها الفأس. كان العجوز كلارنس الذي لا أعرف كنيته حليق الذقن جيداً بالنسبة إلى كونه حيواناً، ويرتدي ما يشبه زي المستشفى الذي يلبسه المجانين، ويضع نظارة تشبه زجاج برطمان الهلام وما إلى ذلك، من النوع الذي يضعه الناس الذين سقطت أسنانهم ولم تبقَ غير اللثة. لقد بنوا له قفصاً كما في حديقة الحيوان، في قاعة المحكمة. ثم أصدروا حُكماً بإعدامه.

    إنني فقط أُحدِّق إلى حذائي الرياضي. حذاء جوردان الجديد، يا سلام. سوف ألمّعه ببصقة، ولكن لا معنى لهذا وأنا عار ٍ.

    على أي حال، أصابعي دبقة. أقسم على أنَّ هذا الحبر سيدوم إلى الأبد. الصراصير، وبصمات الحبر اللعينة هذه. 

   امتزج ظلٌ عملاق مع ظلام نهاية الرواق. ثم اقتربت صاحبته، وهي سيدة. لدى اقترابها، يسقط ضوء ممر الباب برهة على علبة مكتوب عليها ” لحم مشوي ” تحملها بين ذراعيها، بالإضافة إلى حقيبة تحوي ملابسي، وجهاز هاتف تحاول أنْ تتكلّم فيه. تُبطئ خطوتها، وهي تتصبب عرقاً، وقسمات وجهها تتجمَّع في وسط وجهها. حتى وهي ترتدي الزي الرسمي أعرف أنَّ اسمها غوري. يتبعها ضابط آخر إلى الرواق، لكنها تلوح له بيدها كي يبتعد.

   ” دعني أقوم بالإجراءات التمهيدية – سوف أسـتدعيك من أجل الإدلاء بتصريح “. أعادت الهاتف إلى فمها وتنحنحت. أصبح صوتها حاداً إلى درجة الصرير. ” أنا لا أصفك بالأبله، أنا أشرح أنه، من الناحية الإحصائية، يمكن لأسلحة واستراتيجيات خاصة أنْ تحدّ من الضريبة “. تتكلَّم بنبرة صارَّة عالية إلى درجة أنَّ علبة الطعام تسقط منها إلى الأرض. تنخر قائلة، وهي تميل، ” الغداء. فقط سلطة، أووف – أقسم بالله “. عندما تراني تنتهي المكالمة.

   أعتدلُ في جلستي لأرى إنْ كانت أمي قد جاءت لتأخذني ؛ لكنها لم تأت. كنتُ أعلم أنها لن تأتي، إلى هذه الدرجة أنا ذكي. لكني لا أزال أنتظر، يا لي من عبقري. فرنون العبقري ليتل.

   تُسقِط الضابط الملابس في حجري. ” امشِ من هذا الاتجاه “

   لن تتحمَّل أمي هذا. سوف تجوب البلدة بحثاً عن التعاطُف، كعادتها. ستقول ” إنَّ فرن مُحطَّم “. إنها تسمّيني “فرن” فقط بين صاحباتها حول طاولة قهوة الصباح، لكي تبيِّن كم نحن بخلاء ملاعين، بدل أنْ تبيِّن أننا في حالة مزرية إلى درجة مضحكة. وإذا جاءت أمي مع دليل المُستخدِم فإنها دعوة إلى أنْ تنكحها في نهاية المطاف، أؤكد لك. الجميع يعلمون أنَّ اللوم يقع دون أدنى شك على يسوع بسبب يوم الثلاثاء ؛ ولكن أتدري كيف هي أمي ؟ يكفي أني أساعد في التحقيق حتى تُصاب بأعراض توريت ، أو كائناً ما كان اسم ذلك الشيء الذي يجعلك تلوِّح بذراعيك بحركات عشوائية. 

   دلّتني الضابط إلى غرفة تحتوي طاولة وكرسيين، وبلا نافذة، فقط لوحة لصديقي يسوع مُلصقة على الباب من الداخل. أجلس على الكرسي المُبقَّع. أرتدي ملابسي، وأحاول أنْ أتخيَّل أنها العطلة الأسبوعية الأخيرة ؛ مجرد لحظات صدئة، مُنتَظمة، تقطر نحو البلدة من خلال أجهزة التكييف التي فقدت مقاييس الدرجات ؛  كلاب خنوعة تحاول أنْ تشرب من مرشّات لكنَّ أنوفها تضرب فيها.

   ” فرنون غريغوري ليتل ؟ “، تناولني السيدة ضلعاً مشوياً، بلا حماس، وبصراحة عندما يرى المرء كيف يرتعش ذقنها وهي تقدّمه يشعر بالأسف لأنه أخذ ذلك الشيء.

   تُعيد ضلعي إلى الصندوق، وتنتقي آخر لنفسها. ” فلنبدأ من البداية. هل تقطن في المسكن الكائن في رقم 17 بيولا درايف ؟ “

   ” نعم يا سيدتي “

   ” مَنْ يسكن معك ؟ “

   ” لا أحد، فقط أمي “

   ” دوريس إلينور ليتل… “، قطرَتْ صلصة اللحم المشوي إلى الرقعة التي تحمل اسمها. ” النائبة فين غوري “. ” وأنتَ في الخامسة عشرة ؟ سنٌ حرجة “

    أهي تمزح أم ماذا ؟ فردتا حذائي الرياضي الجديد تحتكان معاً طلباً للدعم الأخلاقي. ” هل سيستغرق هذا طويلاً – يا سيدتي ؟ “

   اتّسعت عيناها برهة. ثم ضاقتا وأصبحتا مزمومتين. ” فرنون – نحن نحقق في جريمة قتل هنا. وسوف يستغرق الأمر كل ما يلزم من وقت “

   ” إذن، ولكن… “

   ” لا تقُل لي إنكَ لم تكن صديقاً مُقرَّباً من الفتى مِسكِن. لا تقُل لي إنكَ لم تكن تقريباً صديقه الوحيد، لنْ أُصدّق هذا أبداً “

   ” سيدتي، إنَّ ما أعني هو أنّ هناك الكثير من الشهود الذين رأوا أكثر مما رأيت “

   ” أحقاً ؟ “، وتلفّتت حولها في الغرفة، ” أنا لا أرى أحداً آخر هنا – هل ترى أنت ؟ “. وكالأبله أتلفَّتُ حولي. وتلتقط نظرة عينيها عينيّ وتُعيدهما إلى تركيزهما. ” يا صغيري – هل تفهم سبب وجودك هنا ؟ ” 

   ” طبعاً، أعتقد “

   ” آه-هاه. دعني أشرح لك أنَّ عملي هو أنْ أكشف الحقيقة. وقبل أنْ تعتقد أنَّ من الصعب تحقيق هذا، سأُذكّرك بأنَّ، من الناحية الإحصائية، هناك فقط قوّتين عُظميين تحكمان هذا العالم. هل تستطيع أنْ تُسمّي لي القوتين اللتين تكمنان خلف الحياة كلها في هذا العالم ؟ “

   ” أه – الثراء والفقر ؟ “

   ” ليس الثراء والفقر “

   ” الخير والشر ؟ “

   ” كلا – بل السبب والأثر. وقبل أنْ نبدأ أريد منكَ أنْ تُسمّي لي فئتين من الناس تسكنان عالمنا. هل تستطيع أنْ تُسمّي الفئتين الراسختين من الناس ؟ “

   ” المُسببين والمؤثّرين “

   ” كلا. بل المواطنين – والكذّابين. هل تُصغي إليّ، يا مستر ليتل ؟ هل أنتَ معي ؟ ” 

   هكذا. وأودّ لو أقول ” كلا، بل أنا مع بناتك اللعينات على شاطئ البحيرة “، لكني لا أفعل. لأنه ليس لديها بنات. والآن سأقضي يومي كله أفكّر فيما كان ينبغي أنْ أقول. إنَّ الوضع سيئ حقاً.

_______________________________

من رواية “فرنون الإله ليتل” الحائزة على جائزة “بوكر” 2003

اللوحة من أعمال التشكيلي السوري ياسر الصافي

*****

خاص بأوكسجين 


مساهمات أخرى للكاتب/ة: