المغمور
أنا ربُّ المغمورين وصهيل تلك الأوابد الصامتة في البعيد
أخذت حصاةً وصيرتُها نصف ريال معدِنيًّا
ثم قلت أشتري لنفسي سماءً من سموات العرب المُرقّعة
ألتحفها، خريفًا، في برودة الطائف
قبل أن أروح بين الكابوس والرؤيا
وبعد أن أتعب من القراءة في أكُفِّ الفقراء
بحثًا عن نثر يشبه القرآن، عن كتابة تقول عن خراب الأناركيِّ
أكثر من جنّة الشيوعيين
عمّا يكون بلا حروف وحمّالَ أوجُهٍ
وأريدُ ما يرجُّ المعنى رجًّا في كاسة التأويل مثل ثلجة في كاسة السكران.
أنا من يحب المجهولين في الأرض
كأنهم النمل: يُليّسونَ الكوكب المنخورَ، ويُدعسُونَ
يمشون في الأزقة مطأطئينَ
وفي السماء رؤوسهم على أطباق من الفضّة
-يا لمأدُبة الله!-
تُقدّم تحت سدرة المنتهى
إلى الأنبياء.
في زمن من لا يُشتهَرُ فيه يُركل بالتجاهل على قفَاهُ
لكنه الصقرُ يُوضع في الثلاجة بجانب الدجاجة المبرّدة
في زمن كهذا، المجهولون ملحٌ لا يسبب ارتفاعًا في الضغط،
في هكذا وقتٍ أفضّل أن أطرق أبواب الخرائب
وأن أسدد فواتير الماء عن الطلُول.
كأنني، لفرط ربوبيّتي إياهم، كمن يكلّم مرآةً
وكأن المرآة، لشدة ما تشتاق لنرسيس، تتمرأى في عينيَّ
مغموريّةٌ مطلقةٌ حتى آخرة الطريق
برغم كثرة الدروب وزحام الأصدقاء فيها
ولست من يكشف ذاته بقدر مَن يكشطُ جِلدًا لا ينمو عليه شَعرٌ
ويتكبّرُ في جوانبه الدُّمَّل حبّاتٍ من الألماس
إلا أنني أمسَحُ عليه بدمعة الحلّاج كي يصير حَبًّا للحمَام.
البسطاءُ لا يحتاجون مديحًا ولا انتباهًا
بل يريدون ألّا يتغوطَ أحدٌ على أرصفة الطريق بالتباهي والفشخرة
يريدون من شركة الكهرباء أن تخفّض الإضاءاتِ بعض الشيء
يريدون أن يُسَلَّمَ عليهم برفعة الحاجب قليلًا أو بهزّة الرأس وطَرَف الابتسامة
يريدون أن يمسحوا على رؤوس القطط في الليل إذا استراحوا وهم في المسير الطويل إلى الأوابد الصامتة البعيدة
حيث صهيلي يقاوم البُحّة!
رأيَ العين
هذه الريشةُ على جبهة النَّهر
والوردةُ التي يسيل لعابها بينَ نهرينِ
هذه الطريق الملتويةُ على الخطوة
والخريطة المتماهيةُ مع الدمعةِ
هؤلاء الرجال الذينَ يحرثونَ البحرَ من أجل غيمةٍ
ويريدونَ شقَّ بطن الغيمة ليخرجوا الحوريةَ
وأولئك النسوة اللائي كلما صكّت واحدةٌ منهن بطنها بمولودٍ جديدٍ
شققنَ عن صدورهن ولطمنَ ثم رقعنَ بالنواح
أعني: هذا الشعب وهذه الأرض وتلك الأسوار الوهميّةَ
أعني ما يُحاصرني فأفرد ذراعيَّ جناحينِ لطائر الكارثةِ
والوردةُ يجف لعابها من حرارة حقدي
والريشةُ تطير لأنَّ عُنقَ النهرِ دُقّتْ
والطريق التي كانت استحالت إلى هواءٍ ورمادٍ في الأوكسجين
والخريطة أضحت قصيدةً تستشهد بها المشعوذات على أشراط الساعة..
أما الشاعر فقد خلعَ عنه عِذار الإيروتيك إلى تاج الهجاء ذي الأشواك!
لايك
حبْرٌ إلكترونيٌّ غير قابل للمحْو بل للحذف
لكن ما في القلب لا هو يُحذف ولا يقبل المحوَ؛
إنما المحوُ، بالذات، أداة كتابته،
غرْسٌ بجذر صفافة لما مرَّ مثل الريح.
وهذي الأرض تدور بنفسها وعلى نفسها وحول الشمس
وبرؤوسنا؛
كل هذا يشكّل الفصولَ
من الكآبة وحتى الطمأنينة.
هذه الأرض هي السكين واليد التي تطعن،
في كل منعطفٍ طعنةٌ في كل التفاتة لمعة نصْلٍ
ورقابُنا مثخنة بالطعنات لذا صارت حناجرنا مجازاتٍ
للغناء.
هذه الأرض، ليست الأرض، لكنه العالَمُ، وليسَ العالَمَ
إنما التاريخ ما يضرب بطوننا رُكَبًا وراءَ رُكَبٍ
فننزفُ قيئًا: أحمرَ أصفرَ لزجًا ومعه بكاءٌ يُؤنس الشعراءَ
في غابة المالنخوليا، ثُم ضحِكٌ
لأن خزّان الدموع استُنفدَ بالتمام وصدى الضحك في جدران الخزان أجمَل؛
هذا ما يمكّن الغناء من المشي بين الجثث والطين؛
وليس من أجل المعنى أو الوصول إلى ما يشبهه
بل لأن المغنى يحتاج إلى راقصة
والرقص وحده الباقي أبدًا
الرقص يمسك بيده يد الموت:
على صدري ارقصُا، باللهِ
لي شهر اتمرّن في النادي من أجلكما
وأنت أيها العالم
أيها التاريخ
أيتها الأرض
ويا أيها الدورَانُ
خُذ لساني وامْحُ به الحبر الإلكتروني حتّى يبيَضَّ من العمى أو اللايكات!
*****
خاص بأوكسجين