“أنا لست خائفاً من الموت” يبدأ وودي آلن عبارته ليكملها قائلاً: “لكنني لا أريد أن أكون موجوداً لحظة حدوث ذلك”. ليس هذا ما يشعر به جميع الكتّاب. البعض منهم يرغب في أن يكون موجوداً في تلك اللحظة لتدوين ما يحدث، فالموت هو مادة خصبة للكتابة، أو كما يصفة وليام إمبسون “فتيل التفجير الأكبر لقريحة رجال الأدب”. السيناريو المثالي سيكون بقيامة الكاتب… عودته إلى الحياة ليحكي لنا عن شعور الإنسان وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة. السيناريو المثالي التالي، على الرغم من أننا لا نتمناه لأحد، هو أن يلبث الكاتب حبيس مرض عُضال لبعض الوقت ما يتيح له فرصة للتأمل في ما ينتظره لحظة الانطفاء الأخير.
كتب كليف جيمس اسمه كناقد تلفزيوني وكاتب وإعلامي ساخر بأحرف لا تُمحى، لكنه بدأ مسيرته الأدبية والفنية كشاعر. وها هو بعد أربع سنوات من تسلمه حكماً مؤبداً بالزوال (مع إصابته باللوكيميا والانتفاخ الرئوي والفشل الكلوي – “المصير المحتوم”) ينهي مسيرته كشاعر أيضاً. في العام 2013، قام بنشر نسخته المترجمة من كوميديا دانتي الإلهية في 500 صفحة لبث عقوداً وهو يعمل عليها، لكنه أبى أن يكملها إلا بعد وقوعه فريسة المرض. ديوانه Poetry Notebook هو عبارة عن كتاب من التقييمات والموجزات أبصر النور في الخريف الفائت. والآن تظهر إلى العلن مجموعته الشعرية المكونة من 37 قصيدة تم تجميعها كلها خلال السنوات الأربع الماضية.
“ونحن على شفير الموت نكون في أوج الحياة – تلك هي الفكرة المتفائلة التي تعاود الظهور دائماً بصورتها الكئيبة. تلك الأشياء التي لم يكترث لها الشاعر في ما مضى تظهر الآن “بنبرة جديدة كلياً”، مثلاً الأسماك الست في بركة حديقة ابنته “التي لا يتجاوز طول الواحدة منها طول إصبع اليد”:
ما كنت لألاحظ في ما مضى، أو أعلم
اسم شقائق النعمان باليابانية،
بالغ الشحوب بالغ الهزال. لكنني أقبض الآن على لحن
أوراق الشجر. ما من عصفور يحط على غصن
إلا تحت ناظري. أنا من يُحصي الآن أعداد النحل.
“ما كنت أستطيع أن أرى لأرى” هذا ما كتبته إميلي ديكنسون متخيلة لحظة موتها. بالرغم من أنه يصارع أمراضاً لا براء منها، ما زال جيمس يتمتع بحدة بصر عشرين على عشرين تجعله، كما كان عليه الحال مع توماس هاردي، رجلاً قادراً على الانتباه إلى كل ساكن ومتحرك من حوله: “أقدم شكري إلى نجوم حظي على هبة الرؤية الثانية”… “أنا هنا الآن، أنا من كان بالكاد موجوداً من قبل” هي نعمة ذات حدين كونه يعلم أن معظم هذه الأشياء (سواء أـكانت الزهور أم الأسماك أم العصافير أم النحلات أم الأحفاد) ستبقى حية بعد موته. لكن “نعمة” هي كلمة يستخدمها هو نفسه ليصف ما يحدث له على الرغم من كل شيء: “متى حدث لك أن رأيت/ جمالاً عذباً يُضاهي روعة مطر رقيق يتساقط على شجرة صغيرة.
إذا أردت أن تكون إيجابياً في تفكيرك وأنت حبيس قاعة انتظار الموت المحتّم، عليك إما أن تعيش في حالة من النكران الإرادي أو أن تتحلى بالإيمان الأعمى. أما في حالة جيمس، فلا هذا ولا ذاك. فلا هو يؤمن بالحياة ما بعد الموت، ولا هو يتوسل إعجاب من حوله بادعاء شجاعة رواقية. العلل التي يعاني منها – السعال، والصمم، وفقدان الطاقة والقدرة على الحركة – تجعل من وجوده اليومي رحلة عذاب مستمر. تلك الحلقة الشريرة المفرغة التي يصورها أصدق تصوير ذلك التكرار الكئيب للمقطع الشعري الذي يقول: “ينهكني النهوض وارتداء ملابسي/ استلقي قليلاً لأرتاح قليلاً.” عندما يشعر الإنسان بأن وجوده يُختزل، تراه يبحث عن صور ليعبر من خلالها عن زواله، ويصف نفسه بكلمات تختلف لتعبر عن حقيقة واحدة… شبح، أنقاض، صدى، وحش جريح، جيش مهزوم، حالة ميؤوس منها، ظل شاحب وقوقعة فارغة.
“حطّم غرورك، حطّمه أقول لك”” كتب عزرا باوند في أحد المقاطع من قصيدته الطويلة Cantos. وبالرغم من أنه ليس معجباً إلى ذلك الحد بهذا العمل الشعري، لكن من شأن جيمس الآن أن يدرك ماهية ذلك الشعور الذي يتحدث عنه. هو نفسه المُعاقَب وهو نفسه من ينزل العقاب. في روايتيه الساخرتين اللتين كتبهما في وقت مبكر من حياته The Fate of Felicity Fark in the Land of the Media (1975) و Peregrine Prykke’s Pilgrimage Through the London Literary World (1976) يوجه ليفيسايت تحذيرات صحية ضد ضروب إغواء الفتنة الحضرية. وها هو الآن يتحسّر على عدم تعلّمه الدرس الذي علّمه للآخرين.
تلك السنوات التي عشناها بجلاء، كم كانت حقيقية!
عندما كانت كل الحسناوات تصطف في طابور انتظار التوقيع…
من كن يمسكن قلوبهن انتظاراً لما كان علي قوله
أكانت مجرد أحلام… حتى عندما تحققت؟
هذه “الصحوة القاسية” من “حرية الإسراف الزائفة” هي أكثر من مجرد ضرب من الندم. هذه الصحوة تضعه كل يوم في جحيم الشعور بالذنب: الذنب من كونه قد انحرف عن مساعيه الجادة. الذنب من بقائه بعيداً عن بيته وعائلته أغلب الوقت. والأسوأ من هذا وذاك، الذنب من خيانته لزوجته، برو شو، التي يهدى لها نسخته المترجمة من كتاب دانتي.
قصائده هي عبارة عن اعترافات… اعترافات بالمعنى التقليدي للكلمة: البوح بخطايا الماضي وطلب التوبة: “كثيراً وبدون تكلف/نقضت عهودي/كان ينبغي أن أكون أكثر لطفاً/حياتي أصبحت حطاماً/بفعل هبة الخيانة التي هبطت علي”. لكن “ضمير المخاطب” الذي يطلب الرحمة من صاحبه ليس الله، بل زوجته: الجسد الذي خانها “قد مضى الآن/لينتقم لخيانته لها بخيانته له”، وهي، هي فقط، من يملك القدرة على إزالة آلامه بمنحه الغفران.
ثمّة آثار لقصائد توماس هاردي المكتوبة بين عامي 1912 و1913 يتردد صداها هنا وهناك (“إنها أنتِ بقبعتك القش، أراكِ أمامي الآن”). لكن إيما التي يخاطبها هاردي كانت ميتة، بينما المرأة التي يشتاق إليها جيمس أكثر من أي شيء آخر ما زالت حية. في قصيدته “مشهد الشرفة”، يحاول أن يستعيد حبها منتهجاً أسلوب روميو وهو يخطب ود جولييت: “ثمة رجل هنا قد تحبين أن تكوني منجاته/ من وحدته المفرطة/ رجل يتوق لكِ.” يبدو أن الشعر على شفير الموت قد ينقلب إلى قصائد حب أيضاً.
يعلم جيمس أن كلامه المعسول قد يكون مدعاة للشك، فقد سمعت زوجته كلماته الرقيقة هذه كلّها من قبل: “أدرك خوفكِ/ من أن تأتي توبتي بهذه السهولة.” للقارئ أن يشارك الزوجة شكّها: السهولة البادية في القوافي قد تتعارض أحياناً مع صدق المعاني… الأبيات مكتوبة بعذوبة لا تعكس أحياناً حجم الأسى الحقيقي. في النهاية لا يمكن للاستعراضي العجوز إلا أن يُكمل عرضه بإتقان. إلا أن البراعة في انتقاء الكلمات قد لا تكون في محلها إذا ما دفعتنا إلى التشكيك بقائلها.
لكن هذا لا يعني أن كلمات جيمس لا تعبر عن نيّة صادقة، على العكس تماماً، فهو رجل يضع ما في قلبه على رأس لسانه ليعبر ببساطة ووضوح عما يشعر به. وهكذا هي أيضاً الصيغ الشعرية المنتظمة والقوافي الكاملة: بدون الاحتواء الذي تفرضه، ستكون فوضى المشاعر أكثر مما يمكن تقبّله.
الفقد وشعور الذنب ليسا الأسلحة الوحيدة في عتاد جيمس. فعندما نصل إلى منتصف مجموعته الشعرية هذه نجد قصائد تأخذنا بعيداً عن سرير المرض… قصائد عن أفلام هوليوود، وأخرى عن رحلة السفاري إلى إفريقيا، وأسماء الأسد (زوجة بشّار الأسد)، والفنانة الروسية نينا كوجان. ثمّة أيضاً قصيدة يتخيل فيها قطرات الندى تتحول إلى جواهر نفيسة مقدمة من “عشيق عجوز يقطع الطرق بين المجرات” طمعاً في استمالة قلوب النساء الصغيرات. أضواء النجوم تحرك شعوره أيضاً، تماماً كما يفعل الهبوط على سطح القمر. حتى إطلاق الصواريخ يستنهض أفكاراً أخلاقية. كل الطرق تقودنا إلى المكان نفسه:
تحلم بأنك قد تبقيها في رأسك.
لكنها الذكريات، فأين لك أن تذهب بها؟
ألقِ نظرة أخيرة عليها. فهي إذا ما انتهيتَ أنتهت.
جون أبدايك أيضاً لجأ إلى الشعر في أشهره الأخيرة واضعاً ذبوله الجسدي على خلفية الكون (“جلدي/ألاحظ الآن أنني في الـ75،/يتدلى رخواً بتغضنات تشبه الكثبان على سطح المريخ”). جيمس أعاد قراءة مجموعة أبدايك الشعرية Endpoint بعد موت هذا الأخير بعيون حارة محتفياً بها كدليل على جديته كشاعر في وقت أجمع فيه النقاد على إخراجه من ثوب الشاعر، وإلباسه ثوب ناظم الشعر الرخيص.
وفي حال فعل مثال أبدايك فعله، فالأمر نفسه يسري على قصيدة لاركن “Aubade” بكل ما فيها من رعب الفناء (“ألا أكون هنا/ألا أكون في أي مكان/وعما قريب”). بدورها أبيات لاركن تكشف في جزء منها بعض الآثار الشكسبيرية (أجل، فقط لنموت ونرحل لا نعلم إلى أين”)، لكنها ما زالت المقياس المطلق. في حال عجز جيمس عن بلوغ غايته، فهذا ليس عيباً، خاصة أن كل الشعراء قد سقطوا في هذا الامتحان أيضاً.
للإنصاف، هو يعترف صراحة بفضل قصيدة Aubade”” وما فيها من صراعات وقنوطٍ ملحد. تماماً كما يقوم لاركن بالندب على إقصاء الموت للحواس (“بلا بصر، بلا سمع،/ بلا لمس ولا ذوق ولا شم”)، يتحدث جيمس عن “حيواتنا تستلقي عارية،/ وبعدئذ لا صوت، لا رؤية، لا فكرة. لا مكان”
من الصعب على الإنسان أن يكتب عن الموت دون أن يكون مريضاً، والأصعب هو أن يكتب عن موته دون أن يشعر بالشفقة على نفسه. قد تكون السخرية أحد الحلول، لكن كما يقول ريلكه، ثمة مواضيع تبدو السخرية أمامها صغيرة وعاجزة. قد يكون من المبالغ فيه أن نتوقع من جيمس أن يتخلى عن حس الفكاهة الذي عُرف به، وهو لحسن الحظ لم يفعل ذلك. لكن نمط الفكاهة الذي اشتهر به – قصة شعر جديدة تجعله يبدو مثل “باز ألدرين على سطح المشتري” على سبيل المثال – يعمل على مستوى مختلف عندما يكون الحديث يدور حول شفائه من مرض ذات الرئة القاتل.
“موتي هو واقع ينبغي علي أن أتعايش معه” يكتب جيمس مشجعاً نفسه على الاعتقاد بأن “الشاعر الذي يواجه الموت قد يحوّل مواجهته له إلى مادة للكتابة عنه”. هو محرج من كونه قد عاش موته لوقت طويل جداً: “لقد آن أوان الرحيل” يقول – كم كلمة أخيرة، كم قول مأثور يُردَد على سرير الموت، وكم أغنية جنائزية يمكن لجمهوره أن يحتمل؟ عدد لا بأس به هو الجواب، خاصة إذا كانت هذه القصائد تترك أثرها البالغ في نفس كل من يقرأها. استمر يا كليف، وعساك تبقى مُحرجاً من طول بقائك في احتضارك وقتاً أطول!
___________________________________
عن جريدة “الغارديان” والمجموعة الشعرية لكليف جيمس صدرت أخيراً بعنوان Sentenced TO Life “حُكم عليه بالحياة”.
الصورة من أعمال التشكيلي الإيطالي توني ديميرو
*****
خاص بأوكسجين