حمامة
العدد 162 | 27 تشرين الثاني 2014
ابتهال شريف


في السكينة الأولى، كنت غافية في حضن أمي، شفتاي المبللتان على ثديها، استيقظ المجهول فيّ، فرأيته أمامي الرجل القديم، ناداني فتبعته، كان يَنبت من خطواته شَعر، وكنت أتعثر بالشعر أسقط وأنهض، ولدي إدراك عميق الى أين يذهب بي مع أني لا اعرف أين يذهب بي .

فعبرنا موكب الحَبّو العاري. الهواء دبق وكثيف برائحة الشيخوخة، شيوخ وعجائز يحبون في صمت، ودود الربية يمشي على أجسادهم، في الترقوة في منتصف العمود الفقري والإبط والانثناءات جميعها. في صمت يحبون لا تسمع إلا اللهاث وطقطقة مفاصلهم، انكماش فقد وجهه، ثديان يتهدلان كباذنجان متعفن، كرش تتأرجح، جلد من ورق يتشقق، لعاب يسيل يلعقه اخر ليبلل حلقه، رأسي يدندن “ضيعنا ليالي العمر .. ضيعنا الجفا والهجر .. ونسينا مع الأيام أسباب الخصام المر .. لقيتك لقيتك زي ما اتمنيت” بلا تعاطف مع الموكب والرجل الذي ينبت من خطواته شَعر لازال يمشي.

– تلك الرغبة القصيرة لدهس كلّ ما هو حيّ،

      هل يمكن ان يكون الانسان مريضًا بالذل ؟!*

     الطريق سقوط، نهوي مع أننا نمشي، قوة الجذب الباطنية تمتص مافينا وتجعل الجهات مجرد خدعة، والأرض شحمية تحتي، سَرت برودة في فخذيّ، شعرت بهما يتفتتان، فسقطتُ على ركبتيّ،  ورأيت بين  ركبتاي بقعة دم، من قتل الارض ؟!، لكن الدم كان ينزف مني انا، أشلاء متخثرة خرجت مني، أحد ما قُتِل فيّ، أكنتُ بيتًا ام قبر ؟!، حدقتاي تريان الدم الذي يرثي نفسه ويتوسع بين ركبتي، تحاولان الفرار، ظنتا أن لهما القدرة على النفاذ في الأشياء حولهما، الأشياء ترصدني والكثافة حولي تحدق فيّ، أخذني الاشمئزاز المخفي بالشفقة، خرجت مني ورأيتني متروكة أجلس القرفصاء، انتابني العطف الذي تشوبه رغبة التخلي، مشيت خطوة خطوتين خمس خطوات، التفت، رأيت التي تجلس القرفصاء، انتابتني الكراهية اللا مسوغة، كراهية على الوجود، مضيت. بيديّ كُنت أقشرني، مدركة كوني أصبح شيئًا آخر، لكن لا أعرفه. أصبح يَنبت من خطواتي شَعر. 

  بدأ الحفر من أعلى نقطة في الكرة التي على كتفيّ، الآن وصل ترقوتي يحاول

       خلع حنجرتي، يتصدع قلبي ولا ينبض بك، تشقق وجهي كفخار، جففتُ.

        انحدرنا في طريق حجارته رؤوس أسهم مكسرة، صدى الطريق المُدمى، أوصلنا الى مدخل محفوف بشجر الغار، كُتب عليه “نزعات المافوق بشري”، ثمة مايسترو ببدلته وعصاه، دون فرقة موسيقية او موسيقا، يُحرك يديه، يمين أعلى يمين أعلى أسفل الى الامام يسار، ويتشنج في حركاته، السمفونية تخنقه. دخلنا .

ماء مُضيء، يسمع منه صوت “التشيلو”، يُشعرك بأعين الأسلاف تشتمك، في منتصفه ثمة نار، حولها امرأة تقف على اطراف أصابعها، ويداها الى الأعلى، مشدودة كأن الله يَجرّها، تدور بعكس عقارب الساعة، يدور حولها رجل، يدوران حول النار، في فُلك الرغبة، حين يلمسها الرجل تصبح ماء وتنسكب، بزئبقيةٍ تلتف حول ساقه، تلتف على فخذه، على بطنه، صدره، عنقه، فإذا ما التقت بأرنبة أنفه عادت إلى صورتها الأولى، حيث أصابعها على كتفه ترى النار تشتعل، ويغمى عليها متكوران على بعضهما، يستيقظان، يعاودان الدوران مع عقارب الساعة، يتمايلان بعكس بعضهما، يقترب تفزع تبتعد، يبتعد تشده وتعقف ساقها على ساقه، يمتزجان، يشتعلان، ينفجران، تذهب إلى غيره، يذهب إلى غيرها، ممن هم كثر مثلهما، على سيرتهما، يعيدان رقصتهما، حول النار على الماء في جذب الرغبة.

أتى الرجل القديم وسقاني ماء، وقال: الان تتبعين صوت الرغبات فمتى سكتتْ، انتهيتِ. 

وما رغبت قبلها إلا أن أصبح حمامة.

________________________________

كاتبة من السعودية

لقطة للفنانة والممثلة السورية نجلاء الوزة من فيلم “سلم إلى دمشق” لمحمد ملص، وقدكان من بطولتها هي التي انتحرت في جنوب إفريقيا.

*****

 

خاص بأوكسجين