جوناثان فرانزين:كل ما هو سحيق يهوى الاختباء 1/2
العدد 156 | 16 تموز 2014
ترجمة: شادي خرماشو


يشكل هذا الجزء الأول من حوار الروائي الأميركي جوناثان فرانزين مع ترجمة للفصل الأول من رواية فرانزين “حرية” وقراءة في تجربته الأدبية ملفاً خاصاً عن هذا الكاتب في العدد 156:

 

تحمل أعمال جوناثان فرانزين في طياتها إضاءات على واقع التربية الأُسرية في العائلة النموذجية في وسط غرب أمريكا، فمن يقرأ كتبه يرى إلى أي حد هي مسكونة بتلك الحيوات الهادئة التي ترعرعت في تلك البقعة من الأرض، وتداعت لمجرد احتكاكها بأفكار العالم الأخرى. بأربع روايات من الوزن الثقيل أكسبته شهرة استثنائية، يتابع كاتبنا مسيرته المهنية وحياته التي لا يحب أن يقضيها كاملةً في مكان واحد، فلا نراه إلا متنقلاً من مكان إلى آخر على أرض وطنه، فيقضي معظم أوقات السنة في نيويورك، حيث يمارس الكتابة من على صهوة مكتبه المطل على شارع 125 النابض بالحركة والحياة. أما بقية العام ففي منزله المحاط بالأشجار والخضرة في ضواحي سانتا كروز حيث التقيته قبل بضعة أيام فقط من إصدار روايته الأخيرة “حرية”. 

 

الوقت هو صباح اليوم الذي سيشهد أول حوار بيننا، وليس جلياً بعد حجم الحبور الذي سيتلقى به القرّاء رواية “حرية”، على الرغم من أنها قد باتت تُعرف الآن بـ”رواية القرن”، وكاتبها هو أول كاتب يظهر على غلاف مجلة التايم منذ عقد من الزمن، ولن يمر وقت طويل قبل أن تتم دعوته لزيارة البيت الأبيض. وفي الوقت نفسه، يشهد موقع تويتر جدالاً حاداً بين كاتبتين معروفتين تعتبر إحداهما أن فرانزين قد حصل على هذه المكانة والحظوة نتيجة لعدم المساواة  بين الجنسين، والأحكام المسبقة لقرّاء الرواية ونقّادها. وتشير بعض الحوادث  الصغيرة إلى اتساع ردود الأفعال تلك تجاه هذه الرواية وما أثارته من جدل. (ففي لندن، وبعد بضعة أسابيع من ذلك، سيقوم بعض العابثين بسرقة نظارات فرانزين في إحدى حفلات توقيع الكتاب). ها نحن نشق ضباب الصباح على متن سيارة تسير على مهلها، وفرانزين يحكي لي عن ردود أفعال الطرفين معاً، من معه ومن عليه. يتحدث وكأنه غير مكترث بأي منهما، وكأنّي به يتخذ موقف المراقب الذي لا علاقة له لا من قريب ولا من بعيد بما يحدث، والمستمتع إلى حد ما بما يراه ويشهده. 

شهد العام 1959 ولادة جوناثان فرانزين في الينابيع الغربية في “ولاية إلينوي”، ونشأ وترعرع في ضاحية “ويبستر جروفس” في “سانت لويس”، وكان الأصغر بين ثلاثة أطفال وضعهم القدر في منزل يحكمه والدان براغماتيان: الأب مهندس، والأم ربّة منزل، وكلاهما نظر إلى الفن على أنه ضرب من التفاهة، وأمر لا يعوَّل عليه في الحياة، وشجّعاه أن يشغُل نفسه بمواضيع أكثر نجاعة. الافتتان بالعلوم هو الموضوع السائد في كتابات فرانزين الأولى التي ألّفها قبل دخوله “كلية سوارثمور”. تدور أحداث إحدى قصصه التي لم تُنشر حول زيارة يقوم بها فيثاغورث إلى منزله. وقد ألّف في شبابه مسرحية عن إسحق نيوتن لعب دور البطولة فيها على خشبة المسرح مدرس للفيزياء في مدرسة “ويبستر جروفس” الثانوية. 

يصف فرانزين كتابه الأول، “المدينة السابعة والعشرون”، بأنه من كتب الخيال العلمي التي تعتمد على فكرة الخيال المطلق المرتكز على التخيّل العلمي والخالي من العلم المنطقي، وتدور أحداثه حول مجموعة من الهنود الطامحين إلى السلطة والمناصب السياسية يقودها مفوض شرطة سابق في مومباي. تقوم هذه المجموعة باختراق السلطة في بلدة ضعيفة تقع في الوسط الغربي، وتبدأ بترهيب سكانها. تدور أحداث رواية “المدينة السابعة والعشرون” في مسقط رأسه في “سانت لويس”، على الرغم من أن فرانزين كتب معظم أجزاء الرواية أثناء عمله كباحث مساعد في قسم علوم الأرض والكواكب في جامعة هارفارد، حيث عمل على معالجة بيانات النشاط الزلزالي. ستساهم هذه التجربة في إثراء روايته الثانية “حركة قوية” (1992)،  وهي عبارة عن تصوير دقيق وتفصيلي لعائلة من “ماساتشوستس” تتداعى حياتها على الصعيدين العاطفي والاقتصادي نتيجة لسلسلة من هزات مفاجئة تضرب منطقة بوسطن. 

تسجل رواية “حركة قوية” بداية عقد مضطرب في حياة فرانزين عانى خلاله العديد من الخسائر على الصعيد الشخصي: رحيل والده، وطلاقه من زوجته لأربعة عشر عاماً، فاليري كورنيل. كان فرانزين يصارع ليتصالح مع جدوى الاستمرار في كتابة الأدب بعد روايتيه الأولى والثانية اللتين حصدتا إعجاب النقّاد، لكن لم تلقيا رواجاً كبيراً بين القرّاء. كانت تلك الصراعات الموضوع الذي دارت حوله العديد من الأعمال الواقعية التي كتبها في التسعينيات، وتحفته الفنية التي كتبها في منتصف مسيرته المهنية “التصحيحات” (2001) كانت نتيجة لتلك الصراعات والمآسي. “التصحيحات” هي تلك القصة الملحمية عن عائلة مفككة في الغرب الأوسط، والتي نالت “جائزة الكتاب الوطني”، و”جائزة جيمس تيت بلاك ميموريال”، وسلطت الضوء على اسم فرانزين ككاتب مغمور نسبياً في فضاء الأدب الحديث ليصبح معروفاً لدى شريحة واسعة من القرّاء، وهو أمر كان ينشده منذ وقت طويل ليتحول الآن إلى الكاتب الذي يحظى بأكبر نجاح جماهيري بين كتّاب جيله. 

 

تم إجراء الحوار التالي على مدى يومين في مكتب استعرناه من جامعة كاليفورنيا في “سانتا كروز”. من موقعه وسط حدائق “ريدوود” على حافة الجبل المطل على “سانتا كروز ” و”خليج مونتيري”، كان المكتب ليمنحنا إطلالة رائعة على المحيط، إلا أن حيلة اعتمدت على تشكيلات من المناشف وأغطية السرير والوسائد كان من شأنها أن تحجب عنا الأخطار المشتركة لجمال الضوء ومتعة الشرود. بمعزل عما ارتُكب بحق النوافذ، يفضّل فرانزين مكان عمله لتشابهه مع منزل سايتشيك في رواية “حركة قوية”، الذي يصفه بأنه “مكان فارغ ونظيف”. بخلاف الكمبيوتر المحمول، المقتنيات الشخصية الوحيدة التي تراها في الغرفة هي ستة كتب موضوعة في كومة واحدة، وهي: دراسة عن وليام فوكنر، و”هكذا تكلم زرادشت” لفريدريك نيتشه، وأربعة من أعمال جون شتاينبك. 

 

الصحفي: هل يمكنك القول أنك نضجت ككاتب؟ 

فرانزين: عندما أُسيء فهم “المدينة السابعة والعشرون”، ولم تنجح “حركة قوية” في إيجاد طريقها إلى عدد كبير من القرّاء، افترضت أن المشكلة ليست في كاتب هذه الأعمال، إنما السبب هو هذا العالم الملعون الذي خُلقت فيه. لكن أثناء عملي على رواية “حرية” أدركت أن الانتقادات المعاصرة لهذه الكتب كانت مشروعة إلى حد ما، وأن الأولى كانت دفاعية بشكل مبالغ فيه، ومليئة بالغضب غير المبرر، وأن الإسقاطات السياسية، والحبكة التشويقية (ومن جديد الغضب غير المبرر) للثانية كانت في بعض الأحيان في غير مكانها. حياة الكاتب هي عبارة عن مسيرة يملؤها التصحيح وإعادة النظر، وقد توصلت إلى الاعتقاد أن كتبي الأولى هي التي كانت بحاجة إلى تصحيح وإعادة نظر. 

إحدى أكبر المشاكل التي يعاني منها الروائي الذي يستمر بالعطاء هي نقص المواد الأدبية. كل منا يحل هذه المشكلة بطرق مختلفة: البعض يجري بحثاً ضخماً حول البيرو في القرن التاسع عشر! الأدب الذي أُعنى به وأرغب في إنتاجه هو ذاك الذي ينزع القشرة عن حيواتنا الظاهرية ويغوص فيها عميقاً ليلمس تلك النقاط المتّقدة التي تسيّرنا دون أن ندرك ذلك. بعد “التصحيحات” وجدت نفسي أتساءل “ما هي مادتي المتّقدة؟” طفولتي التي قضيتها في الغرب الأوسط الأمريكي، أم والدَي، أم زواجهما، أم زواجي– لقد ألّفت كتابين عن هذه المواضيع، لكني كنت أصغر عمراً وأقل مهارة وأكثر خوفاً عندما كتبتهما. لذا كان من ضمن الخطط العديدة في “حرية” إعادة النظر في المواد القديمة وتناولها بشكل أفضل. 

 

الصحفي: أفضل من أي ناحية؟ 

فرانزين: أدركت على نحو أفضل أن كتابة أي رواية هي امتحان للذات وتحوُّل يصيب الذات. أقضي هذه الأيام الكثير من الوقت في محاولة اكتشاف ما الذي يعيقني عن القيام بعملي، وكيف يمكنني أن أصبح الشخص الذي يمكنه القيام بهذا العمل، وأن أبحث في أسباب الخوف والعار… العار من كشف نفسي على حقيقتها، والخوف من الاستهزاء والإدانة، والخشية من التسبب بألم أو أذى لشخص آخر. هذا النمط من تحليل الذات كان غائباً بشكل تام في “المدينة السابعة والعشرون”، وغائباً بشكل كبير، لكن بنسبة أقل، في “حركة قوية”. وقد أصبح هذا ضرورياً لأول مرة عند كتابة “التصحيحات”، وأصبح المشروع الأساسي في “حرية”، لدرجة أن كتابة الصفحات التي أعقبت ذلك كانت بمثابة نزهة بعد إنجاز المهمة الفعلية. 

الصحفي: 9 سنوات كانت الفترة الزمنية الفاصلة بين هاتين الروايتين. 

فرانزين: ألقت “التصحيحات” بظلالها علي… الآليات التي طورتها من أجلها – الشخصيات مفرطة الحيوية، والبناء القصصي المتشابك، والأفكار المتكررة، والاستعارات المطولة، كل هذا جعلني أشعر أنني استثمرت أقصى ما يمكنني استثماره من قدرتي ككاتب. لكن ذلك لم يمنعني من إنفاق سنوات عدة في محاولة كتابة رواية شبيهة بـ”التصحيحات”، وتخيّل أن مجرد تغيير بنية الرواية أو كتابتها بصيغة المتكلم سيكون كفيلاً بجعلي أتفادى مشقة التحول إلى كاتب من نوع آخر. يسعى المرء دائماً إلى الحل السهل قبل أن يخضع، عندما يتعرض إلى الهزيمة، إلى الحل الأصعب. 

من المؤكد أنه لم يكن هناك نقصاً في المحتوى خلال منتصف العقد الماضي. كان البلد في دورة المياه، وكنا  مسربلين بالعار وغارقين في الإحراج أمام العالم كله، وأسياد اللغة المادية الذين سخرت منهم في “التصحيحات” كانوا قد أصبحوا أكثر تسيّداً. وكان ما زال في حوزتي سيرتي الذاتية العميقة كمادة أكتب عنها، وهي ما وظفته بشكل متقن في أول روايتين. أدركت في النهاية أن الطريق الوحيد للمضي قدماً هو العودة إلى الخلف… إلى البدايات، حيث يمكنني أن أنخرط من جديد في لحظات من الماضي ما زالت عالقة إلى الآن. وهذا ما أصبح عليه المشروع بعد ذلك: أن أبتدع ما يكفي من الشخصيات التي لا تشبهني لتتمكن من حمل عبء مادتي المتّقدة دون السقوط في شخصيات تشبهني أكثر من اللزوم. 

 

الصحفي: أولى إصداراتك كان مسرحية مشتركة حملت اسم “رابط الضباب”، وكنتَ قد كتبتها وأنت في المدرسة الثانوية. ما الذي جذبك إلى عالم المسرح؟ 

فرانزين: أنتمي إلى تلك الطائفة من الكتّاب الذين شذّوا عن القاعدة وعاشوا تجربة جيدة في المرحلة الثانوية، وقد أديت أدوراً في العديد من المسرحيات. كان المسرح بالنسبة إلي وسيلة للتسلية ضمن مجموعة، بدلاً من الدخول في علاقات غرامية مع هذه الفتاة أو تلك لأصبح من هؤلاء الذين يقضون الليل بأكمله وهم يتعانقون مع فتياتهم في المقاعد الخلفية. كان هذا نوعاً من البراءة المطوّلة. وقعت في حب المسرح تحديداً، وتلك المسرحيات التي كتبتها مع أصدقائي لم تكن أعمالاً أدبية بمعنى الكلمة. كنا فقط نختلق القصص بغرض التسلية. في الواحدة والعشرين من عمري لم يكن لدي بعد فكرة واضحة عن الأدب. 

الصحفي: وهل كانت طفولتك بريئة أيضاً؟ 

لطالما كنت ذلك الشخص الذي يبدو وكأنه يكتشف الأشياء في الوقت الذي يكون الآخرون قد خبروها، وربما نسوها. في الواقع كنت ما زلت ألهو كالأطفال، وإن كان هذا اللهو قد أصبح فنياً وبصحبة الأصدقاء، خلال سنتي الأخيرة من المرحلة الثانوية. 

الصحفي: هل كنت تلقى تشجيعاً على الكتابة من والديك؟ 

لا، ليس تماماً. أكره صفة “مبدع”، لكنها، شئت أم أبيت، الصفة المناسبة لشخصيتي، ولم يكن في منزل والدَي مكان للإبداع. كان والدَي يعتبران الفن بكل مجالاته، بما فيها الكتابة الإبداعية، أمراً تافهاً لا يعوّل عليه. كان الفن بالنسبة إليهم شيئاً يمكنني القيام به في وقت فراغي، وإن ساهم في تحسين وضعي الدراسي، فسيكون ذلك أفضل بكثير. لكنه كان يُحارب دائماً كمسعى جدي. أصيب والدَي بالهلع والحيرة، وانتابهما غضب عارم عندما توقف شقيقي توم عن دراسة هندسة العمارة ليتخصص في مجال السينما. وعندما ذهب إلى معهد الفن في شيكاغو وحصل على شهادة الماجستير في الفنون الجميلة، كان توم الفنان الأول الذي عرفته وكان يتخذ من فنه عملاً له، وأصبح بالنسبة إلي المثل الأعلى. أردت أن أسير على خطاه، وليس على خطى والدَي. لكنني شهدت حجم ما كان يعانيه بسبب عدم رضى والدَي عنه، لذا قررت أن أبقي خططي طي الكتمان لأطول زمن ممكن. 

على الرغم من أن والدي لم يحصل على تعليم رسمي جيد، إلا أنه كان شخصاً ذكياً وفضولياً بشكل كبير. كان هو من يتلو على مسامعي القصص ويقرأ لي كل ليلة عندما كنت طفلاً، وليست أمي. ولأنني نشأت متأثراً بآرائه الصارمة التي ملأت مساءاتي، أصبحت أنا نفسي شخصاً عنيداً، وكنت أسعد دائماً بصحبته. كان يقرأ “مجلة التايم” من أولها إلى آخرها أسبوعياً، وكان يحدثني عن كل ما يحدث في العالم. هكذا، وبشكل مستغرب إلى حد ما، كانت تدور العديد من الحوارات الثقافية في منزل كان، من العديد من النواحي، بعيداً عن الثقافة. لكن رفوف منزل والدَي كانت خالية من الكتب الأدبية. لم يكن لدي فكرة عن نوع الأدب الذي أريد كتابته، من هنا أتى الحماس الكبير عند كتابة “رابط الضباب”. ولبثت مترقباً ما إذا كانت هذه المسرحية الطلابية ستُحدث أصداءً جيدة، وبعدها، وبأعجوبة من أعاجيب الزمن، تم نشرها! كانت تلك لحظة شعرت فيها أنني أدخل عالماً من الإمكانيات: أذكر الآن أنني بدأت حينها أفكر أنني كاتب جيد بالفعل، أليس هذا أمراً مسلياً؟!  

الصحفي: يبدو وكأن التسلية كانت تشكل جزءاً هاماً من كتاباتك. 

فرانزين: … وما زالت. أريد لكل ما أكتبه أن يكون مصدراً للمتعة. المتعة الذهنية، والمتعة العاطفية، والمتعة اللغوية، والمتعة الفنية. في رأسي خمسمئة مثال عن روايات منحتني تلك المتعة، وأحاول الآن أن أقدم أعمالاً تردّ جزءاً بسيطاً من تلك المتعة التي منحتني إياها تلك الروايات الخمسمئة. تم اقتباس مقولة رواية “حركة قوية” من إسحق بيشيفز سينغر، وهو من المؤيدين لهذا النهج. كان للكلمة التي ألقاها عند حصولة على “جائزة نوبل” تأثير كبير علي، حيث أكد أن الهدف الأسمى للرواة والكتّاب يكمن في الترفيه.  

الصحفي: هل تشعر أن واجب الترفيه يشكل عبئاً عليك؟ 

فرانزين: بل هو دافع أكثر منه عبئاً. من الصعب أن أشعر بعبء لمعرفتي أن الأشخاص الباحثين عن المتعة يتطلعون إلى إصدار كتابي التالي. هذا على الرغم من أنني قد قطعت نصف مسيرتي المهنية دون أن يكون لدي ما يكفي من الإدراك لأعرف من هم هؤلاء الأشخاص. أحد الساخرين في إنجلترا أتهمني بأنني كتبت مقال “لمَ أزعج نفسي” “why bother” في مجلة هاربر كبحث سوقي مقنّع. 

 

الصحفي: كيف شعرت حيال ذلك؟ 

فرانزين: لا بد من القول أنه كان محقاً تماماً، ولكن بالمعنى الضيق. عندما لا تجد روايتيك الأولى والثانية طريقهما إلى عدد كبير من القرّاء، فمن الطبيعي أن تتوقف لحظة، وتحاول أن تكتشف أي الأشخاص ممكن أن يقرأوا الروايات الأدبية في وقتنا الحالي، وما الذي يدفعهم لقراءة هذه الروايات. 

مما لا شك فيه أن العثور على قاعدة واسعة من القراء قد غيّر طريقتي في الكتابة. وإذا ما ولّدت رواية “حرية” شعوراً مختلفاً عن ذاك الذي ولّدته “التصحيحات” فهذا يعود في جزء كبير منه إلى الفرصة التي أتيحت لي للقاء آلاف القرّاء في مختلف الجولات التي قمت بها لتسويق كتابي والتعريف به. هؤلاء هم الأشخاص الذي يقرأون الكتب، ويهتمون بها، ويتحملون مشقة الخروج في ليلة ثلاثاء ماطرة ليستمعوا إلى أحدهم وهو يقرأ من كتاب بصوت مرتفع وكأنهم أطفال يستمعون إلى قصة خرافية، ومن ثم ينتظرون وقوفاً لنصف ساعة أو أكثر كي يحصلوا على توقيع الكاتب على أول صفحة من كتاب دفعوا ثمنه من جيوبهم. 

هؤلاء الناس هم أصدقائي، وأنا نفسي واحد منهم. مرة وقفت في صف طويل لأحصل على إمضاء من وليام جاديس، و5 ثوانٍ أخبرته فيها كم هي عظيمة روايته Recognitions “الإدراكات”. ليس الضحك بغضب والتهكم بمرارة هو الحل لكل ما يحدث في هذا العالم. تكتشف أن هناك عالماً من المشاعر يعيشه الكاتب الذي يتخذ من الكتابة عملاً له، مشاعر أكثر بكثير مما كنت أظنه في ما مضى. وقد يكون الحب أحد هذه المشاعر… الحب والامتنان. 

لقد حظيت باهتمام كبير عندما كنت طفلاً لأنني كنت أصغر من في المنزل، وكان الكل أكبر مني بكثير. ربما كان اهتماماً زائداً عن الحاجة – اهتمام تحول إلى عبء – لكن من نتائجه أني أصبحت أحب الاهتمام. لكن هذا لا يتعارض مع رغبتي العارمة في البقاء وحيداً في أغلب الأوقات. هذا واحد من الأسباب التي جعلتني أجد في الكتابة مهنة مناسبة لي. يمكن للكاتب الحصول على دفق غزير من الاهتمام، ومن ثم يُترك وحده ليتلذذ بهذا الاهتمام وبوحدته. 

 

 

الصحفي: متى بدأت تشعر بأنك ستصبح كاتباً؟  

فرانزين: أدركت أن في داخلي ميلاً إلى الكتابة والإبداع منذ بدأت بالذهاب إلى الجامعة، وهذا يعني أنه كان أمامي طريقين يمكنني السير بهما: يمكنني أن أكتب في الصحف، ويمكنني أن أرسل مواد إلى المجلات الأدبية في الكلية. وقد مشيت في الطريقين معاً. لكنني كرهت أن أكون صحفياً، لأن إجراء المقابلات كان يسبب لي الكثير من الخجل. مرة أوقعت نفسي وصديقي توم هيلم في المشاكل لأنني جعلته يجري مقابلة مع نائب رئيس الكلية كجزء من تقرير صحفي كنت أعده، ومن ثم قمت بتحوير كلمات نائب الرئيس لأجعله يبدو شخصاً سيئاً. بطرق شتى، كان هيلم الناقد الأكثر قسوة الذي عرفته طوال حياتي. كان يبجّل “إي بي وايت”، وكان يحب أن يهزأ بالجمل والتعابير الرديئة التي أكتبها. كان كل منا يقرأ كتابات الآخر. صداقتنا كانت قائمة على نوع من المنافسة الودية، وامتحان القدرات المتبادل، والتمرس المستمر. 

 

الصحفي: هل كانت نوعية قراءاتك من المستوى نفسه؟ 

فرانزين: أصبحت قراءاتي أكثر جدية بشكل تدريجي خلال سنوات دراستي الجامعية الأربع. قرأت كثيراً عندما كنت طفلاً، كنت أقرأ ثماني ساعات كل يوم في عطلة الصيف، وكانت معظم قراءاتي تقتصر على كتب الألغاز والعلوم الشعبية والخيال العلمي. بعد ذلك، ولأنني بدأت بالذهاب إلى الكلية لأتخصص في مجال الفيزياء، فقد تلقيت حصة مدرسية واحدة في الأدب الإنجليزي خلال السنوات الثلاث الأولى، وكانت عبارة عن بحث حول رواية إنجليزية معاصرة. وكما هو متوقع، كنت مسحوراً بإيريس مردوخ أكثر من سواها. كنت في الثامنة عشر، وبدا لي حينها “A Severed Head” “رأس مقطوع” كتاباً عميقاً ومهماً. 

كاتب واحد لم أستطع احتماله، وهو دي إتش لورانس. أردت أن أقتله لأنه ابتلاني برواية “أبناء وعشاق” “Sons and Lovers”. بعد ذلك بوقت طويل، عدت وقرأت الكتاب مرة أخرى، قرأت نصفه في الحقيقة، لأنني شعرت بوجود صلة وثيقة بين جوي وباتي في “حرية” وعائلة موريل في كتابه. واكتشفت سبب كرهي لهذا الكتاب عندما كنت في الثامنة عشر: لقد أصابني في الصميم، ولمس وتراً حساساً في داخلي. لكني بصراحة ما زلت أراه غير محتمل. أردت أن أقول للورانس: لا، أنت لم تتمكن من إيجاد وسيلة تجعل فيها الابتلاع الجنسي الذي مارسته السيدة موريل مع ابنها أقل رداءةً وإيلاماً. هو أمر رائع وبطولي، إلى حد ما، أن يكون لورانس قادراً على تأليف كتاب أليم ككتابه هذا، وأن يصب فيه كل ما لديه. لكن هذا الكتاب قد أصبح بالنسبة إلي مثالاً مضيئاً عن الحكمة من عدم الاقتراب من مواضيع مشعة كتلك، وتذكرة لي بالحاجة الملحة لإيجاد بنية وأسلوب ومنظور من شأنها أن تضيف لمسة ساخرة إلى الكتاب لتجعله مرحاً وممتعاً بما فيه الكفاية. 

مشكلتي الحقيقية مع حصة البحث الأدبي أنني كنت ما زلت صغيراً عليها. مثل معظم الشبّان في عمر الثامنة عشر، لم يكن لدي تجربة كافية تمكنني من فهم أبسط الأشياء في أدب الكبار. لأنني ترعرعت في منزل لم يقم وزناً للثقافة، كان الأدب بالنسبة إلي مجرد لعبة، والكتابة مجرد حرفة كنت آمل أن أجني رزقي من خلالها يوماً ما. كنت أكتب كل ما كان محررو الصحف يطلبون مني كتابته، وأعمل على صياغة جملي بإتقان. 

الصحفي: هل تذكر أي أعمال بعينها؟ 

فرانزين: أكثر ما شعرت بمتعة في كتابته كان مقالاً تحدثت فيه عن الأزياء في الجامعة خلال فصل الخريف. كنت كتبته كمزحة، لكن بلغة نثرية منمقة وبديعة. 

الصحفي: يوجد العديد من المقالات الخاصة بالأزياء في الأرشيف. 

فرانزين: العديد من المقالات؟! يا إلهي! كنت أمر بوقت عصيب في المدرسة. تلك المقالات الخاصة بالأزياء أتت نتيجة لرغبتي في الاستعداء والاستفزاز. 

الصحفي: وقت عصيب؟ 

فرانزين: كانت غرفتي في السكن الجامعي رديئة جداً، وكنت أحمل على رأسي التاج الكريه لمحبّ العلم المرشح للتخصص في مجال الفيزياء. الفتيات الجذابات كنّ قلة، ولم يظهرن أدنى اهتمام بي. أن أمارس الجنس مع إحداهن، كان هذا أقصى ما أتمناه، لكنني كنت أحقق الفشل تلو الآخر مع الفتيات لأسباب كانت غامضة بالنسبة إلي وقتها، لكنها الآن واضحة وضوح الشمس. فكرت جدياً في الانتقال إلى مدرسة أخرى، لكني عدلت عن الفكرة بعد ذلك، فقد أدركت أنني إذا ما تخصصت في ألمانيا، سيكون لدي فرصة للإقامة سنة كاملة في أوروبا، وقد تتحسن أوضاعي هناك. 

لم يتحسن شيء في أوروبا، وبقي الوضع على ما هو عليه، على الأقل على صعيد الفتيات. لكني عدت إلى أمريكا أكثر نضوجاً وخبرة. يمر كل شخص بفترة في حياته يشعر وكأنها جزءاً من رواية أو قصة، هذا ما حدث لي في منتصف سنتي الآخيرة في الكلية… لقد عشت فترة شعرت وكأنها لحظات هاربة من رواية. حدث كل شيء دفعة واحدة وبسرعة، كل ما كان خفياً غامضاً أصبح جلياً واضحاً، وشعرت أنني تحولت من حال إلى حال في غضون ثمانية أسابيع… لقد أصبحت إنساناً. بحلول نهاية شهر يناير ذاك، كنت أمارس الجنس مع الفتاة التي ستصبح زوجتي طوال أربعة عشر عاماً، ومن يومها أصبحت كاتباً صاحب تصميم وتركيز، وشخصاً لا يرغب في شيء سوى كتابة روايات تترك أثراً عند القرّاء. 

الصحفي: ما الذي حدث؟ 

فرانزين: كتبت عن The Discomfort Zone “منطقة التعب”- التي اعتبرها من اكتشافاتي، كما قال ريلكه في “مفكرات مالتي لوريدس بريجي”، كان لدي حياة داخلية كاملة لم أكن أعلم عنها شيئاً في ما مضى. للأمر علاقة بقراءة كافكا وريلكه وغيرهم من كتّاب النثر المعاصرين الألمان، كما له علاقة أيضاً بشقيقي توم. وله صلة أيضاً ببقائي بعيداً عن عائلتي لوقت طويل – بعد أن عدت وبت قادراً على رؤيتهم فجأة في الإطار الذي فرضه علي احتكاكي بالأفكار العصرية الألمانية. كان للأمر برمته علاقة بالوقوع في الحب. 

الصحفي: ماذا بخصوص شقيقك؟ 

فرانزين: كنت أعيش حالة من الاقتداء الأعمى بشقيقي توم الذي بدأ مسيرته المهنية كمصور فوتوغرافي، وانتقل بعد ذلك ليصبح مصور أفلام من الدرجة الأولى. كنت معجباً بكل ما يحيط بمهنة توم. قبل أن أسافر إلى ألمانيا، عملت معه كمساعد في شيكاغو، وكسبت ما يكفي من المال لشراء “كاميرا أوليمبوس”، وكانت حينها أصغر كاميرا عاكسة مفردة العدسة في الأسواق، وهي الكاميرا التي حملتها معي إلى أوروبا، وحاولت أن أدخل معها مجال التصوير. أردت أن ألتقط صوراً غريبة، خاصة تلك الصور التي تُلتقط في المناطق الصناعية، اقتداءً بشقيقي توم مرة أخرى، الذي كان متخصصاً في الفن الصناعي المدني.

لكن لطالما كانت علاقتي بالصور مضطربة. لم أستطع أبداً أن أكتشف ما هو الهدف الذي أسعى إليه في حقل التصوير الفوتوغرافي. تصوير المشاهد على وجه التحديد: يا له من غروب بديع… وألتقط الصورة، يا له من تكوين صخري رائع، وألتقط صورة. من يكترث لهذا بحق الجحيم؟! لقد تمكنت من أن أعزو هذه الميول لهوس أمي بالمظاهر: تحكمها بما يجب أن أرتديه من ملابس عند الذهاب إلى المدرسة، والجلبة الدائمة التي تحدثها لترتيب المنزل، وحرجها الدائم من أطفالها الذين يرتدون ملابس مختلفة عما يرتديه أطفال صديقاتها… ذاك الشعور بالخواء المطلق الذي يسببه الاهتمام المفرط بالقشور. 

عشت في العشرين سنة الأولى من حياتي حالة من الوهم المستمر بوجود كاميرا تلاحقني وتصورني كيفما تحركت، وأن الأشخاص الذين لم يعاملوني باحترام، والفتيات اللواتي لم يظهرن أي اهتمام بي، كانوا يستطيعون رؤيتي الآن والإعجاب بي. كان هذا حلم يقظة مريع، لأنني تمكنت من أن أدرك، حتى وأنا في خضمه، أنه كان نتيجة لما ورثته عن أمي من هوس بالمظاهر.  

في ربيع عامي الأول في أوروبا، جاء توم لزيارتي وسافرنا معاً، وأثناء وجودنا في ميلان سُرقت كاميرا تصوير الأفلام خاصته. وبحلول عيد الميلاد التالي، كان من الواضح أنه لن يحصل على واحدة جديدة. لقد تخلى عن حلمه في عالم التصوير السينمائي، وأصبح منوطاً بي، والأبواب مشرعة أمامي لحمل شعلة الفن في العائلة، أو بالأحرى أن أكون كاتب العائلة نظراً إلى حالة الشقاق بيني وبين الصور. 

الصحفي: هل ما زال الهوس بالمظاهر ينغص عليك؟ 

فرانزين: حب الظهور هو عيب يعاني منه أي كاتب. التوق إلى اجتذاب القرّاء الذي يأتي مصاحباً لشعور الحرج الناشيء عن كشف النفس أمام الملأ. تلك هي الأشياء التي لطالما عذبتني، والتي كنت وما زلت أحاول معالجتها، حتى أثناء كتابة “حرية”. 

لكن كانت كل القرائن التي أحتاجها موجودة في الفلسفة الألمانية، وبالتحديد عند نيتشه القائل “كل ما هو سحيق الأغوار يهوى الاختباء وراء قناع”. “المدينة السابعة والعشرون” هي قناع كبير. أما طموحي طويل الأجل في كل ما أعمله وأكتبه هو أن أعثر على أقنعة أفضل لكي أجد السبيل لجعل كل الأشياء التي لا قِبل لي بقولها والمحجوبة في أعماقي بادية للعيان ومحسوسة. 

 

الصحفي: كيف توصلت إلى تحقيق ذلك؟ 

فرانزين: كنت طفلاً هزيلاً مذعوراً يحاول كتابة رواية تقيم الدنيا ولا تقعدها. القناع الذي ارتديته كان لكاتب في منتصف عمره يتميز بإمكانياته اللغوية والخطابية الكبيرة، والذكاء الفائق، وسعة الاطلاع. أن أكتب حول كل ما يعتمل داخلي ويدور في محيطي، وما يتعلق بوالدَي، وحياتي، وإحساسي بذاتي وشعوري بكينونتي وذكورتي، ببساطة لم يكن هناك وسيلة، والحال هذه، تمكنني من أن أُخرج كل هذا إلى السطح. حاولت أن أكتب عن كل هذا بشكل مباشر في مجموعة من القصص القصيرة قبل أن أتجه لكتابة “المدينة السابعة والعشرون ، ولم يكن لدي الأسلحة المطلوبة، والقطع اللازمة لحل اللغز والنفاذ إلى ما أريد قوله، ولا البعد اللازم لرؤية الصورة كاملة، ولم أتمكن من فهم كل هذه الجوانب معاً. لذا ارتديت قناع كاتب في منتصف عمره ينتمي إلى حقبة ما بعد الحداثة. 

عندما أعود بالذاكرة الآن، أرى شاباً بعمر الخامسة والعشرين تنتابه الشكوك حيال رجولته، ومهووس بذكورته. كان هناك حالة من تحول الدافع الجنسي إلى طاقة فكرية – تلك كانت حيلتي لإسقاط “عضوي” من المعادلة،  والاستمرار في الاستفادة من مصدر قوتي، وهو أنني أذكى من معظم الأشخاص الذين أعرفهم. كان والدي من زرع هذا الفكرة في داخلي عندما قال لي” “أنت أكثر ذكاء من معظم الناس”. كان يشعر أنه هو نفسه أكثر ذكاء من معظم الناس، وربما كان على حق. 

كان يشعر أنه استغرق وقتاً طويلاً جداً ليكتشف ذلك، وقد قال لي في غير مرة “لا ترتكب خطأي”. لذا بدأت أعوّل كثيراً على كوني إنساناً ذكياً يُحسن استخدام دماغه. وكان للهجاء سحر خاص نجح في اجتذابي، والسبب أنه كان مضحكاً في الدرجة الأولى، ولطالما وددت أن يراني الآخرون مضحكاً، ولأنه مع الهجاء ليس عليك تحمل المسؤولية الناجمة عن ابتداع عقيدة خاصة بك، ومعتقدات تعود لك وحدك. كل ما عليك فعله هو أن تفضح كذب وزيف الآخرين. كانت تلك طريقة انتهجها شخص كان محاطاً في طفولته بثلاثة كيانات ذكورية طاغية ليمارس نوعاً من السيادة، ويعيد الآخرين إلى حجمهم الطبيعي.  

وعلى القدر نفسه من الأهمية، هي طريقة لإسقاط الطرف الأمومي من المعادلة. خلال تلك الأسابيع الرائعة من شتاء 1980 و1981، وصلت قوة الصدمة التي تلقتها أمي نتيجة الأخبار التي وردتها عن حياة أحد أشقائي الجنسية إلى حد المرض، وهذا ليس على سبيل الاستعارة، بل مرضت فعلياً وبشكل خطير. رأيت على الفور كيف أن التعبير المجرد عن الجنسانية الذكورية العلنية من شأنه أن يودي بامرأة إلى المستشفى! لذا لم يكن من المستغرب أن يقدم الفكر نفسه كبديل آمن في “المدينة السابعة والعشرون”.

في الكتب التي أتت بعد ذلك، وبعد أن تمكنت من تجاوز تأثير المآسي النفسية التي خلفتها في داخلي “أبناء وعشاق” “Sons and Lovers”، وضعت يدي على أنواع مختلفة من الأقنعة. السبب الذي أدى إلى استغراق رواية “حرية” كل هذا الوقت هو أن الأقنعة اللازمة لها ما كان يجب أن تأتي نابضة بالحياة وواقعية وحسب، بل كان ينبغي أيضاً أن يتم اختلاقها من نسيج كامل. ذلك أنه، ومرة أخرى، وبعد الكثير من المحاولة والفشل، أدركت أنه كان من المستحيل أن أكتب بشكل مباشر عن أجزاء محورية من تجربتي الخاصة… تجربتي مع أمي، وقصة زواجي. 

الأسباب التي جعلت الكشف المباشر ضرباً من المستحيل كان جزءاً منها متعلقاً بإحساسي بالعار، والجزء الآخر برغبتي في حماية الأطراف الثلاثة في تلك المعادلة. لكن ما جعل هذا مستحيلاً بالدرجة الأولى هو أن الموضوع كان متّقداً في داخلي لدرجة أنه كان يغير منحى الكتابة ويشوه شكلها كلما كنت أتطرق إليه بشكل مباشر. وهكذا، قمت ببناء القناع قطعةً قطعة، تماماً مثل المجسمات الورقية التي، طبقة تلو الأخرى، تكتسب ملامح أكثر حياةً لكي تتمكن من تجسيد مأساة شخصية كان من غير الممكن إنجازها خلافاً لذلك. 

 

الصحفي: القناع هو وسيلة لإيصال الحقيقة، أكثر منه حجاباً لإخفائها. 

فرانزين: هذا صحيح. لكن الإحساس المضني بالروح العارية اللاواعية وغير المتبلورة هو الرعب بحد ذاته. المشهد الأكثر ترويعاً في كتاب ريلكه “مفكرات مالتي لورديس بريجي” هو المشهد الذي نرى فيه مالتي طفلاً يجرّب ارتداء أقنعة يخرجها من صندوق في عليّة منزل عائلته، يرتديها الواحد تلو الآخر إلى أن يتمكن أحدها في نهاية المطاف من السيطرة عليه. يرى نفسه المقنّعة في المرآة، ويصاب بالجنون للحظة خوفاً من اختفاء ذاته الحقيقية، وبقاء القناع كذاتٍ مطلقة ووحيدة. بعد ذلك بسنوات، نراه شخصاً راشداً يهيم على وجهه في شوارع باريس، حيث يشاهد امرأة تجلس على مقعد في حديقة، وتحمل وجهها في يديها، وتنظر إلى الأعلى بوجه عارٍ من الملامح، بذاك “اللا شيء” المرعب، بعد أن تركت القناع عالقاً في يديها. قصة مالتي هي في أساسها قصة كاتب شاب ينتقل من حالة الخوف من الأقنعة إلى حالة التسليم بضرورتها. 

استبق ريلكه التصور السائد في حقبة ما بعد الحداثة، والقائم على فكرة عدم وجود الذات الشخصية المجردة، وإنما تلك الذات التي تأتي حصيلة العديد من الكيانات التي تتقاطع في المكان والزمان: أي أن الشخصية هي عبارة عن مركب اجتماعي وراثي لغوي تربوي. الخطأ الذي ارتُكب في حقبة ما بعد الحداثة هو افتراض حالة من العدم وراء كل هذا. لا، لم يكن العدم، بل شيئاً فجاً ومرعباً ولا قرار له. هذا ما كان موراكامي يبحث عنه في البئر في كتابه “أسمع صوت أغنية الريح” “Wind-up Bird Chronicle”. تجاهُل المرء لهذه الحقيقة هو إنكار لإنسانيته.  

_________________________________________

أجرى الحوار ستيفين ج بيرن ونشر في مجلة “باريس ريفيو”

الصورة من أعمال التشكيلي السوري جوني سمعان

****

خاص بأوكسجين