بابلو نيرودا ينتظرني من دون قصيدة حبّ، أخي يربّي بومةً اسمها مدحت، لم أعرف ماركة سجائر مريم المجدلية، خسرت 10كغ، ودّعت الأروكارية ثمّ وجدتها داخل رواية، .. رحل جدّي.
..
لطالما حيّرني آخر يوم في السنة، أجده مثل لافتةٍ صغيرةٍ بين قريتين متلاصقتين وشبه متطابقتين، لكنّهما تتبعان إداريًّا محافظتين مختلفتين، وسكانهما يتبادلان الأنساب والشّتائم. رغم ذلك لا نستطيع إلاّ التفكير في استعراض إنجازاتنا وخيباتنا، مثل موظّفي الجرد نضع نظاراتنا السميكة، بينما الأيام المنصرمة مفلوشةٌ أمامنا. هذا العام أحاول إلهاء نفسي بالتفكير في أمورٍ مختلفة استطاعت أن تنفذ إليّ في عالمٍ أصبح غرائبيًّا بصورةٍ لا تترك أي مجال لدهشةٍ مرتقبة. العثور على أمرٍ غريب يشبه أن تجد في عرض البحر نرجيلةً طافيةً، على رأسها جمراتٌ مشتعلة. قد تكون –مثلي- لا تدخن النرجيلة لكن وجودها في مثل ذلك المكان سيجعلك تبتسم ولا تعرف لماذا.
صورة مريم المجدلية تدخن سيجارة بينما هي واقفة تحت الصليب، الصورة مسرّبة من كواليس فيلم “مريم المجدلية”. أفكر بمجالس العزاء القليلة التي حضرتها، يكثر فيها التدخين، أصلًا لا شيء يمكن أن يدور هناك غير القهوة والتدخين والنميمة، لست مدخّنة ولا شاربة قهوة ولا نيّة عندي لإعطاء حكمٍ على ذلك النوع من المحافل الاجتماعية، لكن أستطيع أن أنتقل بسهولة إلى مجلس عزاء جدّي
قبّلته من يده
هذا آخر ما فعلته وهو حيّ.
قبّلته من جبينه
هذا أوّل ما فعلته بعد أن رحل.
لا شيء اختلف إلاّ درجة الحرارة. حين يموت الأجداد يضغط عليك الجميع كي تواري حزنك أو تدفنه في الحال، خاصّةً إن كنتَ من سكّان بلدٍ عدد أمواته أضعاف مواليده، لا أعرف إن كان ذلك دقيقًا، ولكن يكفي أن أقول “أنا من سورية” حتى يشتمّ الآخرون فيّ رائحة موتٍ قادم. ليلة وفاة جدّي، قبل أن تحصل الوفاة أو بعد أن حصلت بقليل، كنت أقرأ قصائد لشاعر تحبّه فتاةٌ لا أعرفها مع أنني اخترعتها! غفوت وأفقت على رنين خبر الوفاة. عدت من مجلس العزاء حيث الدخان والقهوة والنميمة والنّواح، كي أتابع دوراني داخل قصائد الشاعر، لأجدني وصلت قصيدة “إلى حفيدي يوم مماتي”. وقع ذلك كان مدويًّا وجارحًا أكثر من أصوات النّدب والسّلامات التي حمّلتها النسوة لجدّي.
لو أنهم يعيدون إحياء مهنة النّدب في المآتم
فهذا أكثر ما أجيده
إلاّ أنني ندّابةٌ صامتة
تستطيع أن تبكي كلّ الأموات بصدقٍ بالغ
الأموات الّذين يكسّرون رخام قبورهم
ويرجعون كي يمنحوني تربيتةً أخيرة.
تطايرت أمامي قصاصات البونات، كانت لعبتنا الشهرية، نمسك دفاتر بونات العائلة ونقوم بقصقصة الأوراق الملوّنة، نعطيها لجدي كي يجلب الرزّ والسكر والزيت والشاي للعائلة التي استهلكت عمرها على باب المؤسسة الاستهلاكية. لكن تلك اللعبة تبدو مبهجة وهذا يعطي بعدًا أعمق للبؤس.
– كنت زارع بالبيت خمسين نوع ورد بس ما بعرف شو شكل ورد النّسرين
– جدو في منّو لون زهر وفي منّو أبيض ..
(والذي لم أقله: 51 نوع جدو، لأنك زرعت النّسرين أيضًا)
حين علم أنه يوجد في العالم شعرٌ بلاوزن أو قافية، قال “إيه كل شي بيصير”
حسنًا ها قد دفنت حزني، أخبروني الآن من يوقف أصوات الضحك في الذاكرة؟ أخبروني أيضًا ماذا تقصدون تحديدًا بـ”موت طبيعيّ”؟
الآن بإمكانك يا جدّي الذهاب بنفسك إلى قصّاب الحيّ الّذي سبقك إلى هناك، لا أعرف إن كنت ستجد من يكسر لك العرق كما يفعل بابا، من يشاركك كأس متة واحد في الصباح الباكر كما تفعل تيتة، من يصغي إلى أحاديثك بشغف كما أفعل أنا.
أتمنّى ألاّ تكون لديك القدرة من فوق على رؤية كامل سورية، وهي ترحل كما فعلت مدينتك وجرّتك معها. أتمنّى أن تطلّ علينا من شرفة تشبه المحطات الوطنية. ألا تكفيك ميتة واحدة يقولون عنها “طبيعية”؟
أواخر هذا العام اقتنى أخي بومةً، حينها علمت أن البومة لا تأكل القنبز وفتات الخبز المبلول مثل بعض الطيور، ولا الدجاج المسلوق أو حتّى النيّء مثلنا، لا.. إنها تأكل طيورًا حيّة كي تشرب دمها. هكذا بكلّ برودٍ يجلبون لها عصافير صغيرة تموت حين تراها قبالتها، تموت من الخوف فتلتهمها. نحن مثل العصافير الصّغيرة نخاف، ونقول إننا نموت من الخوف، وياليتنا نفعلها.. يا ليتنا.
“نظرت ماريسا ماللو إلى شجرة الأروكارية وأحست، بدورها، بثقل نظرتها. فتلك المهابة، المغروسة فـي قصر جدها الريفي، تهيمن على الوادي وتشير إلى السماء بسقالاتها النباتية الكبيرة”
لا أريد معرفة بمَ تفكّر باقة السنابل وهي ترى نفسها واقفةً داخل مزهرية في زاوية المنزل كأي باقة ورد غبيّة، المشكلة أنها لا تذبل وستبقى واقفةً إلى الأبد، على أحدٍ ما كسر المزهريّة، عليّ أن أكون أكثر قسوةً في إزالة الغبار. لا أريد معرفة لماذا ماتت الصّبارتان، ولا كيف اقتنعت بأن صبارتين لكلّ منهما شكل قلبٍ قد تعيشان طويلًا. هل آلمت نجمة الميلاد شجرة الأروكارية؟ هل نامت بعمقٍ بعد أن خلعتها؟ لا أريد معرفة ذلك. أريد فقط أن أعرف كيف نبتت لها أقدامٌ وأخذَتها من بيتي إلى داخل رواية. هذا غريب ومؤلم، أقصد أن يرد في الرواية اسم شجرة ودَّعتها قبل فترة قصيرة لتتيح لها ظروف نموٍّ أفضل. مثل من يفتح ألبوم العائلة لتطالعه صورة ابنه المغترب. لن أكسر مزهرية السنابل.
“لن أنزل تحت الأرض لمجرّد أن شخصًا ما يقول إن الموت قادم” أردّد مع بوب ديلان. خسرت أكثر من 10 كغ، المفروض أنني الآن شخصٌ أخفّ، ما الّذي يشدّني إلى الأرض
إذًا؟
في تغريدة للكاتب سامر أبو هواش يقول “لم أكن أعرف أن الأربعينات هو العمر الذي يرحل فيه كل من صنع عشريناتنا: كتابنا المفضلون، شعراؤنا، ممثلونا، مغنونا.. ماذا ينتظرنا في الخمسينات؟” لكن ذلك يحصل حتى معنا نحن العالقين الآن في الثلاثينات.
فتاة اسمها ميرا في العشرينات من عمرها تعدّد أمورًا نوستالجية من ضمنها “سي دي لعمرو دياب”. كيف أخبرها بأنني حين عدت إلى البيت أخرجت من تحت الرّكام كاسيت “يا عمرنا”، رميته من الشباك ورميت معه جريمة كاملة اسمها “المراهقة”. ورحت ألملم كاسيتات صنعت عشرينات والدي.
نحن العالقين الآن في الثلاثينات مازلنا نفكر بقلم البيك أحيانًا قليلة كأداةٍ للكتابة وفي أحيان أكثر كأداة سحريّة تعيد الحياة إلى الأغنيات المعلوكة، وذلك يحتاج أقلّ من ثلاثة أيام.
مريم المجدلية تدخّن سيجارة تحت قدمي المسيح. أليسَ هذا حُبًّا يا الله؟
لم أعد أسمع عن حوادث السّير في ليلة رأس السنة، يشاع أن الكحول كان يعمل أحيانًا كمجرمٍ لطيفٍ، ثمّ جاء الأشرار وقطعوا عليه رزقه. لكن الكحول يقوم بعمله وحسب: يرينا العالم على حقيقته. يقول المثل السومري: ” الجعة جيدة / السيء هو الطريق”.
كلّ العالم يقف وقفةً واحدةً أمام هذه اللافتة الصغيرة: (آخر يومٍ في السنة) محاولًا العثور على طريقه الصحيح. أمّا نحن –العالقين في الثلاثينات- وربما أنتم أيضًا العالقين في الأربعينات، سنتابع ما نفعله ونترك للطريق السيء أن يأخذنا حيث يشاء، فـ “قد يأخذك القطار الخطأ إلى المحطة الصحيحة”.
نيرودا يطلب صداقتي، وأنا أقول لنفسي دعيه ينتظركِ “كما في المحطّات الخالية حين تتوقف القطارات فى مكان ما وتنام”
_____________________________
1 قلم النجار/مانويل ريفاس/ ترجمة صالح علماني
2 مرايا/ إدواردو غاليانو / ترجمة صالح علماني
3 من الفيلم الهندي “علبة الغداء”
4 مئة قصيدة حب /بابلو نيرودا/ ترجمة سحر أحمد
*****
خاص بأوكسجين