\”تمبكتو\” .. اذكروا محاسن سيزار وموتانا
العدد 169 | 21 آذار 2015
زياد عبدالله


هناك مصباح كهربائي أو “لمبة” تضاء كلما تذّكرت المخرج الموريتاني عبد الرحمن سيساكو، الأمر على علاقة بفيلمه المميز “بحثاً عن السعادة” (هيريماكونو) 2002 وذاك البحّار الذي أمسى كهربائياً وما ينتهي إليه الفيلم من “لمبة” طافية ومضاءة على سطح البحر، والآن على هذا المصباح أن يضيء على المجموعات الإسلامية المتطرفة وهي تلاحق  غزالاً في اللقطة الافتتاحية من فيلمه “تمبكتو” حاصد “السيزارات” السبعة والذي رشح لأوسكار أفضل فيلم غير ناطق بالانكليزية وما إلى هنالك من جوائز.

تستدعي مقاربة فيلم سيساكو البدء من عنوانه “تمبكتو” أي تلك الحاضرة التاريخية المتواجدة في مالي، المدينة المحاطة بجماليات معمارية وثقافية، وما لعبته من أدوار حضارية تعكس انفتاح الإسلام الإثني والفكري منذ تأسيسها في القرن الثاني عشر الميلادي، ولن يغيب عنا أيضاً ما تعرضت له من اجتياح قاعدي، وتحويلها  لكل ما يتناقض مع ما سبق بما في ذلك المخطوطات الاسلامية التي تعرضت لما تعرضت إليه من حرق وتخريب.

يتأسس فيلم “تمبكتو” على خطين دراميين، وهما لا يلتقيان وإن التقيا قسراً في النهاية، الأول مخصص تماماً لممارسات المتطرفين في تمبكتو، وما اقترفوه من جلد ورجم، وما نعرفه نحن سكان هذه المنطقة البائسة من مشروع تلك القوى الظلامية الذي لا يحمل إلا إقامة حدود الله في التقطيع والتحريم والتخريب، وتعزيز الغرائز الوحشية وتقديسها، وقتل كل ما على صلة بالحياة من مباهج إنسانية، وهم في الفيلم لا يعرفون حتى لغات سكان تمبكتو، وليس لهم أن يعرفوا شيئاً عنهم، ومنذ بداية الفيلم نجدهم يستخدمون التماثيل والأعمال الإفريقية الفنية كأهداف لتدريباتهم على الرماية. إنهم يعلون من شؤون مراقبة البشر وكل ما سبق، كما هم في كل منطقة يحلون بها. وفي هذا السياق ستكون درامية ما نشاهده آت مما تعرض له سكان تمبكتو، وطبعاً ستكون المرأة الهدف الأول مع فرض اللباس الشرعي بما في ذلك القفازات، بما لا يستثني بائعة سمك، واقتحام بيت لأنه يصدر عنه غناء ومن ثم جلد المغنية التي لن تجد إلا الغناء معيناً لها على تحمل ضربات الجلاد، كذلك الأمر حيال جلد شاب بتهمة لعبه كرة القدم، ولنقع على من يلعب كرة القدم من دون كرة.

كل ما تقدم مخصص تماماً لاستعراض ممارسات التنظيم الاسلامي “القاعدة”، وليس للشخصيات من بعد آخر تلعبه خارج هذا السياق، أي ما حل بها جراء استيلاء الاسلاميين على تمبكتو، وما طالهم من عسف وظلم جراء ذلك، وتخريب لأسلوب عيشهم المتوارث والراسخ، بينما امرأة واحدة لن تستجيب لأي مما فرض على السكان، هي الساحرة التي لن ترتدي لا حجاباً ولا نقاباً، وتبقى تجرر أذيال ثوبها الطويل وثيابها الإفريقة الملونة، كما لو أنها باقية رغماً عن من جاؤوا بما جاؤوا به من عسف، وفي سياق متصل يحضر إمام الجامع الذي سيمثل صوت الإسلام السمح الذي سيصطدم بالاسلاميين الوافدين، ولعل ذلك سيتضح من خلال النقاشات التي تدور بينه وبين عناصر التنظيم، خاصة مع إجبار إحدى فتيات المدينة على الزواج من أحد عناصر التنظيم غصباً عنها.

أما الخط الثاني فله أن يحمل قصة الفيلم، التي تمضي – مهما قيل عكس ذلك – في خط لا يتأثر درامياً برهان الفيلم الرئيس ألا وهو توثيق ما حلّ بتمبكتو بعد احتلال القاعدة لها، وليس سرد حكاية توثق ذلك من خلال أحداثها هي بالذات، ومدى تأثرها بالتغيير الذي نال من تمبكتو، كما هو الحال على سبيل المثال مع فيلم محسن مخملباف “قندهار” 2001، أو فيلم صدّيق برماك “أسامة” 2003، حيث حكاية الفيلم متربطة ارتباطاً عضوياً بما حل في أفغانستان، ولا يكون تصوير ذلك بمعزل عن القصة الرئيسة التي يتأسس عليها الفيلم، فقصة كيدان (إبراهيم أحمد) وإقدامه على قتل الصياد لأن هذا الأخير قتل بقرة من بقراته، والحكم عليه بالإعدام في “محكمة شرعية” لا أعرف ما الذي فيه مما يرصده الفيلم، فهو في النهاية سيحاكم أياً كان من يحكم، طبعاً في ظل حكم القاعدة لا شيء إلا الإعدام، أو الفدية التي لا يتمكن كيدان من دفعها، كما أن عائلة الضحية لا تصفح عنه، كما أن مصير  عائلته الصغيرة المؤلفة من زوجته ساتيما (تولو كيكي) وابنته الوحيدة تويا (ليلى والتي محمد)، إضافة للفتى إيسان (مهدي محمد) راعي بقرات كيدان، سيكون آتياً من تصرف كيدان الأخرق في النهاية وإقدامه على القتل، ولعل نهاية الفيلم بمقتل كيدان وزوجته لأن هذه الأخيرة تأتي إلى مكان تنفيذ الحكم ولا أعرف ما الذي حصل حتى يقوم الجهاديون بقتل الاثنين، وكيف أن كيدان يركض لملاقاة زوجته فيطلق النار عليهما.

خلاصة القول، إن أهمية فيلم سيساكو الكبرى آتية من موضوعه، ولعل هذا الموضوع المتمثل بتصوير ما حصل في تمبكتو هو أولاً توجه وثائقي، وبما أننا حيال فيلم روائي فهو يعيد بناء الواقع من دون حبكة أو مصائر تتشكل وتتوالد، تتصل وتنفصل، بل مصائر مبتورة تقاد إليها الشخصيات لتكون نماذج وليست شخصيات، أما كيدان وعائلته ومصائرهم الحاملين لخصائص روائية فهم على هامش ذلك وليس في صلبه أبداً.   

إنه فيلم له أن يكون هاماً في سياق تسليط الضوء على ضحايا الإرهاب الإسلامي الذين هم من سكان المنطقة، وهو فيلم له أن يمارس هذه المهمة من دون أن يصمد في سياقات أخرى لها أن تبقيه في الذاكرة على الصعيد الفني والجمالي، ولنا أن نذكر بعض اللقطات الجميلة كما هي اللقطة البانورامية لكيدان وهو يغوض في المياه بعد اقترافه جريمته وهكذا جماليات على مبدأ اذكروا محاسن ما احتفت به جوائز سيزار الفرنسية.. وموتانا. 

___________________________

الصورة من فيلم “تمبكتو” للمخرج الموريتاني عبدالرحمن سيساكو

*****

خاص بأوكسجين


كاتب من سورية. مؤسس مجلة أوكسجين ومحترف أوكسجين للنشر. صدرت له العديد من الروايات: "سيرة بطل الأبطال بحيرة الانكشاري ومآثر أسياده العظام (1984 هـ)" – (2019)، و"كلاب المناطق المحررة" (2017)، و"ديناميت" (ط1: 2012. ط2: 2018)، و" برّ دبي" (ط1: 2008. ط2: 2018). وله في القصة القصيرة: "سورية يا حبيبتي" (2021)، و"الوقائع العجيبة لصاحب الاسم المنقوص" (2016). كما صدر له شعراً: "ملائكة الطرقات السريعة" (2005)، و"قبل الحبر بقليل" (2000). من ترجماته: "محترقاً في الماء غارقاً في اللهب-مختارات من قصائد تشارلز بوكوفسكي" (2016)، و"طرق الرؤية" لجون برجر (2018)، و"اليانصيب وقصص أخرى" لشيرلي جاكسون (2022). وله أيضاً كتاب مختارات من التراث العربي بعنوان "الإسلام والضحك- نواضر الخاطر في كل مستطرف باهر" (2018)،  و"لا تقرأ هذا الكتاب إن لم ترَ من السماء إلَّا زرقتها" (2023) الصادر عن محترف أوكسجين للنشر.