تخفيف العمى
العدد 186 | 12 كانون الثاني 2016
ممدوح رزق


يوجد أحيانًا شيء خادع في الحنين .. شيء مبهم يبدو كأنه يوجّه الندم إلى مسار أكثر رحمة .. دفة المركب الصغيرة التي كنت تعلقها في رقبتك مثلا، التي تذكرتها فجأة وأنا أفكر بيأس في لماذا لا يتمكن الواحد من تكوين زمنه الخاص قبل الموت .. استرجعت تفاصيلها تدريجيا كأنني أستعيد ملامح طفلة يتيمة كان عليّ رعايتها بعد موتك لكنني تركتها تضيع .. ربما جربت الثقة العمياء في قوة التصاق العالم بك، التي توفر لانفصاله الحتمي عنك مرونته اللائقة .. كان لدي أيضًا اطمئنان منطقي لذاكرة جديدة سينسجها تعاقب الأيام، لن تحتاج مع ضماناتها البديهية لمساعدة كبيرة من التاريخ .. يكمن التضليل في إشراك الأشياء المنسية تلقائيًا في الألم لمدى مؤقت .. ألا يكون الأذى حصيلة حصرية للروح في معركتها مع الفقد، بالتزامن مع اليقين الذي يزداد رسوخًا في أعماقها بأنها لن تتمكن أبدًا من أن تعيش مرة أخرى فترة من اللحظات المتصلة التي ترغب في تجميعها من الماضي .. أقول في نفسي أن الحياة تحضير للحظة لا تأتي أبدًا، فأتأكد من أن دفة المركب الصغيرة لم تكن في حاجة لي، وأنها لا تشعر بأي خسارة، وأنني اليتيم الذي كان عليها رعايته ولكنها تركته يضيع .. هل كانت في حقيقتها أمًا متنكرة، وكان دورها أن تثبّت بداخلك وهم القيادة وهي تحركك داخل مصير جاهز؟ .. رغم أنني لم أكن رومانسيًا مثلك، ولم أكتب يومًا على جدار غرفتي كلمات “بين الأطلال” بجوار رسم بـ “الكوريكتور” لقلب صغير يخترقه سهم ـ على فكرة أنت لم ترسمه جيدًا ـ ولكنني أعرف أنه ينبغي عليّ استعادة دفة المركب الصغيرة الآن، ودون أي تأخير .. كان على القدر أن يبقيها معك حتى النهاية، وكان عليها أن تبقى بأعلى بينما جسدك يهبط ويختفي تمامًا تحت الأرض .. ربما رأت شيئًا لم يتمكن كالعادة أحد من رؤيته، وربما لديها استعداد بعد كل هذه السنوات لأن تخبرني به وأنا قادم إليك.

____________________________

من مجموعة “مكان جيد لسلحفاة محنطة” التي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة (ساويرس) 2015.

 قاص وروائي وناقد من مصر صدر له العديد من المؤلفات والترجمات والدراسات النقدية. من أعماله المنشورة: خلق الموتى، سوبر ماريو، قبل القيامة بقليل، بعد كل إغماءة ناقصة، جسد باتجاه نافذة مغلقة، احتقان والعديد غيرها.

 الصورة للفوتوغرافي الأمريكي Mitch Dobrowner

*****

خاص بأوكسجين