لم تكنِ الحافلةُ الصغيرةُ التي تقلّهُ من مركزِ المحافظةِ إلى بلدتِه الحدوديّة البعيدة تضجُّ بالأصواتِ كما هو المعتادُ حينَ يكونُ معظم الرّكّابِ من النّساء. كانَ يجلسُ بجانبِ فتاة جامعيّة في سنتها الرابعة تضعُ نظاراتٍ شمسيّةً صفراءَ تصبغُ خدَّيها وذقنها المصقولةُ بطريقةٍ إلهيّةٍ بديعة باللونِ الأصفرِ كلما اصطدمَ شعاعٌ من الشّمسِ بزجاجِ نظارتها، مما سمحَ لهُ أكثرَ من مرةٍ أنْ يلمحَ رمشَيها الطويلَينِ وهما يلوّحان للبيوتِ الطينيّة للقرى المهجورةِ سوى من الغبارِ.
كانتِ الفتاةُ تستمعُ لأغنيةٍ ما بسماعاتٍ ورديّة في أذنَيها موصولة بهاتفها الجّوالِ المخبَّأ في حقيبتها الجلديّةِ النائمة على فخذيها. أدركَ من خلالِ الدّمعِ المترقرقِ في عينيها أنّها ولابدّ أغنيةٌ حزينةٌ.
لطالما حسدَ تلكَ النظارات التي تخفي عينيها عنه وعن الآخرين، لكنّه تمنى وبشغفٍ لو أنّهُ استُبدِلَ بالسماعتَينِ الورديَّتَين اللتَينِ تتدليان من أذنيها كقرطَي حوريّة على جيدها المَرمَريّة ثمّ لا تلبثانِ أنْ تتعرجا على صدرها الكاعبِ الفتيِّ قبلَ أن تضيعَ في حقيبتها. آآآه كم من كلماتٍ منعِشَةٍ كان سيهمسُ بها في أذنَيها دونَ أن يسمعه سواها!
منذُ سنتين وهو لم يهمُسْ لأنثى عمّا يعتملُ في نفسِهِ من اضطراباتٍ وهواجسَ ذكوريّةٍ مؤلِمة، منذُ أنْ فقدَ زوجتَهُ في تفجيرٍ انتحاريٍّ جبانٍ في سوقِ البلدة أودى بحياتها وحياةِ طفلِهِ الجنينِ والعشراتِ من الأبرياء.
أسندَ رأسَهُ المُنهَكَ إلى كرسيّهِ وراح يتأمّلُ وجهها الطفوليّ البريءِ بتكاسُل، دقائقَ قليلةٌ مرّتْ قبلَ أنْ تستأذنه للنزولَ من الحافلةِ عندَ أحدِ المفارقِ. قامَ من مكانِه مفسِحاً لها ممرّا لم يكن آمناُ كفاية على الأقلِّ بالنسبةِ لهَ، غادرتِ الحافلةَ تاركةً خلفها ابتسامةَ امتنان ورائحةَ كيوي خفيفةً نفَذَت إلى أكمامِ قلبِه.
جلسَ بتكاسُل على مقعدِهِ، ونظرُهُ لم يُفارقْ مقعدها الذي كانَ ينبضُ بالدفء قبلَ لحظات، وبحركةٍ مباغتة انتقلَ للجلوسِ في مكانها الشاغر، وكأنّه يريدُ احتضانَ ما تبقى من عطرها قبلَ أن يتناثرَ، فأحسَّ برعشةٍ تسري في جسدِهِ المُنتشي بدفءِ أنثى كالحلمِ، كالغفوةِ العجلى من تعبٍ، كانتْ، وراحتْ، وأبقَتْ بعدها العَطَبَ في كلِّ أرجائهِ.
*****
خاص بأوكسجين