حَوّل الألمان جِدار برلين إلى معرض، أمتارٌ قليلة هي ما تبقى، ألوانٌ صاخبةٌ وفوضى على طول الطرف الخارجي للجِدار، كائناتٌ فضائية، طرابيشٌ تُركية، وشعاراتٌ سياسية يائسة في كُل خطوتين..
على الطرف الداخلي، معرضُ صورٍ لجُدرانٍ أخرى من العالم، جدارٌ يحتفي بالجُدران، من الجِدار العازل في الضفة الغربية إلى جُدران مُختلفة الأغراض في بغداد والمكسيك وبلفاست.. محاولاتٌ مُستمرة للفصل بين عالمين.. فكرة الجدار هي “نحنُ” و “هُم”، الداخل والخارج، الاختلاف والخوف..
قريباً من جِدار برلين تنتصب آلهة الغرب مُنتصرة، O2 في الواجهة تماماً، وَ Universal Studios تُطلُّ على الكِتف .. حكتْ لي فتاةٌ برلينية عن شاهِدة تلوحُ بعيداً، اُفتتح المطعم قبل سنوات قليلة، أول ماكدونالدز في المنطقة، بعد مُظاهراتٍ واحتجاجاتٍ كثيرة من شباب ويساريين، معاركُ في الشوارع ومُعارضة حقيقية، كالعادة انتصر الماكدونالدز، وعدد الزبائن دائماً أكثرُ من المُتوقع..
آثارُ ما كُنا نظنّهُ يَفصل بين عالمين باقيةٌ الآن في وسط العالم الواحد…
غجريٌ يحمل أكرديوناً يضعُ قُبعته في فيء الجِدار ويغني، ترجمت لي الجميلةُ بعضاً مِما يقول: تركنا الشرق لأننا كُنا نُهزمُ دائماً..
***
الغربُ انتصر، مرةً واحدةً وللأبد، كُلنا نعرف، الرأسمالية على الاشتراكية، أمريكا على العالم القديم، علبة معجون الطماطم على شجرة الأماني، الحديث عن الفقر على الفُقراء، السياسيون على الشعوب.. انتصارٌ ساحق، بضربات قاضية مُتلاحقة..
كدليل مادي ملموس على الهزيمة علينا أن نتذكر ما تردد قوله في السنوات الأخيرة: “أشارتْ إحصائيةٌ صدرت مؤخراً عن جامعة بريطانية أن الإقبال على كُتب كارل ماركس سجل مُستوياتٍ قياسية في العام الماضي..”.
***
التمثالُ المعدني الكبير لماركس وأنجلس حُرِكَ من مكانه قليلاً بسبب حفر خط ميترو جديد، لا أحد يهتم بالحركة ما دام التمثال موجوداً.. ماركس جالسٌ ورفيقهُ واقف بجانبه كحارسٍ شخصي بدوتُ قزماً مقارنةً بِه، الأشكال نفسها كما كُنتُ أراها مُعلقةً قبل سنوات في بيوت الشيوعيين السوريين، شواربٌ ولُحى وثيابٌ تبدو – حتى في تمثال من لونٍ واحد – داكنة.. .
صورةٌ التقطتُها هُناك بكاميرا غالية سمحت لي لاحقاً بمُلاحظة العنكبوت الذي بنى عشه في شعر أنجلس..
***
شبابٌ غاضب في كُل مكان، غاضبٌ من التفاصيل كُلَّها.. احتجاجاتٌ مُستمرة ونُقمةٌ على الأنظمة، في الشوارع طول الوقت، مَعارض مفتوحة وعزفٌ متواصل في الساحات، كَرنفال شباب مغلوبين بشكل مُستمر..
خيمٌ للتعاطف مع المُهاجرين، مُلصقاتٌ عن الاحتباس الحراري، وَ Make Love not War.. الجيلُ الأول من الألمان المُتخلصين من عقدة الذنب، وأجانب رأوا في المدينة نيويوركاً أوربية، شبابٌ كامل يدعو إلى مُحاربة المُسننات الرأسمالية ويغرقُ تحتها..
وسيلةُ الاحتجاج الأكثر نقمةً هي استعمال جُدران المراحيض كلوحاتٍ إعلانية: “أطلقوا سراح السُجناء الفلسطينيين”، “ارفعوا أيديكم عن اليونان”، “اضربوا النباتيين”.. وما إلى هُنالك من أفكار قصيرة بصيغة الأمر..
زُجاجات البيرة أجبرتني مساء البارحة، دفعتُ نصف يورو لأدخل، لكن التبّول كان شبه مُستحيل تحت صورة سلافوي جيجيك ماداً لسانه في وجه أمريكا..
***
في برلين، تحت المطر، دخنتُ سيجارةً كانت الأشهى..
لم أُتابع أي أخبار، راقبتُ البشر فقط، المرضُ القديم “مُحاولاتٌ تصنيفية”.. ولا أدري، دائماً لا أدري، هل يُمكن أن أبقى هُنا؟؟
***
في برلين كُل شيء إلا الرقص..
_________________________________
كاتب من سورية
الصورة من أعمال الفنان التشكيلي السوري يوسف عبدلكي
*****
خاص بأوكسجين