الجمعة ٢٠ أبريل ٢٠١٢-٥م – أفلام
كلام باولو بن بغاغو عن وجع الموت. موت الذين نحبهم يوجع حتى عندما لا نحزن. وهؤلاء الذين يحاربون معنا أو ضدنا عندما يجيئهم الموت لو كنا نحبهم نحس بروحنا تطلع أيضاً لأنهم معنا في الصورة. حتى لو نحن الذين تسببنا في موتهم. كنت أقول إن المعركة بدأت سعادتك. في المظاهرات نكون بلا خوف والغيظ يحركنا. ولا أعرف لو كنتَ سمعتَ عن الواقعة هذه كخبر من أخبار جمعة تقرير المصير. الذي كتبوه في الجرائد أنه حصلت اشتباكات بين الأمن والمتظاهرين بعد انتهاء المليونية تسببت في سبع إصابات وحالة وفاة واحدة. لم يدخل أحد في التفاصيل ولم يُذكَر حصول تراشق بين ليبراليين وآخرين من التيار الإسلامي. الأمر الذي ذاع فقط من الرغي على الإنترنت. والحقيقة أنه في النصف ساعة التي استمرت فيها المعركة قبل ما تجيء الشرطة العسكرية مات على الأقل خمسة وأصيب عشرات. في فيسبوك وتويتر كُتب كلام كثير متضارب كله غلط مع أنه كله تفاصيل. وهكذا يكون التحليل السياسي حتى عندما يمارسه محترفون يا باشا. كلام دقيق جداً ومعقد جداً لكن ليس له أي علاقة بالحقيقة. والمتكلم يكون واثقاً من الذي يقوله لدرجة أنك وأنت تعرف تحلم بأن تنصحه كما نصحت حميدة. فما بالك بشبكات التواصل الاجتماعي التي هي تحليل هواة ومنابر للحشد أو بروباجندا لا تُكلّف. الغريب أن معظم الناس التي تعمل الدعاية هذه تعملها مجاناً لأنها تعتقد أنها تعمل الصح. وهكذا تتحول الحياة لبقعة نت وسط صورة بقيتها فلو. والبقعة نفسها تكون لشيء قبيح وممل. غبي غباء سعيد عطوة وهو يتناول مني الشنطة في دار سيرين سنة ٢٠٠٨. أما بقية الصورة فبلا لون أو طعم ولا أي دليل على الغيظ. الوجع. أنا عامر محمد أبو الليل أكلمك عن وجع موت الذين نحبهم قتلاً وهم يحاربون معنا أو ضدنا على الاسفلت. شاهد حضرتك لمعة العرق على صدور الشباب العريانة وقمصانهم حول رؤوسهم مثل العمامات. الدم في شلالات صغيرة طالعة من الأدمغة والنار وهي تمسك في الذقون. تابعهم وهم يرمون الحجارة بعزم ما فيهم ثم يتفادون زجاجاً أول ما يخبط في شيء يبقى حريقة. أو العكس. اسمع الهدد والشتيمة وشاهدنا أنا والديك نقذف كل واحد زجاجة بالتزامن. نقرفص على الصندوق ثم نقوم في لحظة واحدة أيضاً وقورتي في قورته نزأر للأرض. وكل واحد رأسه تنفرد شيئاً فشيئاً من غير ما نبتعد عن بعض لحد ما تصبح ذقنه في ذقني ونحن نزأر للسماء. قبل ما نشعل ونقذف كل واحد زجاجة ثانية شاهد واسمع علو زئيرنا. كان شريف يناور في الصف الأمامي. في يده مرايا صغيرة يسلطها على عيونهم ليعميهم وفي فمه صفارة مثل صفارة الحكم يطلقها ليلهيهم في اللحظة الأخيرة. يقوم بالمهمة هذه وهو مقرفص وهو يشتغل ويجري علينا ليحتمي ثم يرجع يشتغل في مكان ثان وهكذا. فجأة ظهرت بنادق مع أشخاص لم نرهم لحد الآن كانوا هلّوا على ناحية الإخوان وبقي في المكان صوت طلقات وأنت لا تعرف هل هو خرطوش أم رصاص حي. عيل من عيالنا وقع. خرم في دماغه. الذين أصيبوا خلال النصف ساعة الأولى كانوا يجرون لوراء. هذا أول واحد يطب ويبقى على الأرض. واحد ثان جاءت رصاصة في رقبته. الذي يطلقونه ليس خرطوشاً سعادتك. كان يحاول أن يتكلم وهو واقف مكانه لكن كل الذي يطلع دم وبقبقة. البقبقة عالية جداً والدم كمياته كبيرة. بقي عنده فم رأسي تحت ذقنه وهو يستفرغ منه ومن فمه العادي لكن الذي يستفرغه دم. وكانت نظرته عادية جداً وهو واقف على رجليه لحد ما رفعوه وأخذوه. والرائحة في أنفي تشهيني يا باشا. الآن أزأر مباشرة من غير هتاف. السلاح عندنا لكننا لا نخرجه في المظاهرات. ولما جاءت الشرطة العسكرية تفض العركة كنا متصورين أنهم معنا أيضاً وأن كون الإخوان معهم بنادق حجة مواتية. من أجل هذا اقتربنا لمكان ما كان شريف يرمي على واحد من الذين جاءوا أخيراً قطعة بلاط مدببة. الديك انبطح وبدأ يزحف. أشرف بيومي لف من وراء وذهب يشتكي للضابط. بدأت الدنيا تمطر عرق أُسُود هائجة. لو كان الإكسلانس معنا كنت دسسته وسطهم هم. الشرموط. كنت أزأر وأتقدم أقول لك وأمنع نفسي بصعوبة من التحول. أنظر لهم وأنا على وشك أن أعبر الحاجز لأخنقهم لكن الشرطة العسكرية جاءت. تشكيل صغير من حوالي خمسة عشر يطلقون المدافع الرشاشة لفوق. أزاحوا الحواجز وبدأوا يقبضون على العيال لكنهم كانوا يقبضون عليهم في ناحيتنا نحن وينتشرون فقط في الناحية الثانية. نظرت لواحد منهم وهو يميل على الأرض ليجر ناشطاً مصاباً من رجله. الشمس التي بدأت تروح نورها على البيريه الأحمر الذي فوق رأسه وهو يزيح يد الولد بالهراوة والبيريه كأنه عبارة عن نور أحمر. كان فيه واحد فقط وسط التشكيل في ملابس مدنية ومعه بندقية قنص. رجل أسمر طويل جداً ووجهه جامد بطريقة ملفتة كان هو الوحيد الذي لا يلبس ملابس عسكرية. لقد وقف بعيداً على جنب ولم يقترب منه أحد. وأنا لما شفته حصل حاجة في إحساسي بالمشهد كله لأن الشمس راحت فعلاً وكأن كل الأصوات هبطت والحركة بقيت سلو موشن في العتمة والدخان. من أجل ذلك سرحت وأنا أنظر له وأتذكر أو أتأكد وساعتها فهمت أن التشكيل جاء لينقذ الإخوان وربما لشيء آخر أيضاً. وجهه مثل الحجر وهو أطول من أي شيء. هل هذا الشخص إنسان مثل الناس أم أنه حاجة خرافية؟ وماذا لو تحولتُ قبل ما أصل له؟ كنت أقارن بين كتفه وكتف المتر وأنا سارح لدرجة أني لم أتحرك عندما رفع بندقية القنص التي معه ووضع عينه على المنظار يصوبها في رأسي.
السبت ٢١ أبريل ٢٠١٢- ١٠ص- لقاءات
في ما بعد سأراجع الذي حصل وأندهش. الذي حصل بعد ما الرجل الطويل الذي رأيته أول مرة مع مون في بار ديلز صوب بندقية القنص على رأسي وأنا سارح. أهم حاجة تفهم أني سألت واستقصيت. لا أحد في الحياة كلها يعرف شيئاً عن هذا الرجل. كثيرون احتكوا به فعلاً لكن كأنه يظهر في مكانين في وقت واحد أو مثل أبو خطوة يقطع مسافات هائلة في لمح البصر. ولا أعرف كيف يتفاهم مع الذين يتعامل معهم لكن من كل الذين رأوه لا أحد يتذكر أنه سمعه ينطق ولو كلمة واحدة. سأراجع الذي حصل أقول لك وسآمر العيال بإحضار مون وأحبسها معي في المكتبة. انتبه. لو كان عندي استعداد أقتل مون كنت عملتها وهي بائتة عندي في غرفة البدروم ليلتها في أبريل. وأنا معها وهي لا تقدر أن تخرج. الآن ذهبتُ إليها والصورة معي. صورة شريف تادرس التي صورتها عشرين مرة من غير كاميرا وجعلتها أحلى من أي شيء. هذه غاية الحياة في النهاية. أن نعمل صوراً للذين نحبهم تكون حلوة وتبقى في أدمغتنا ولو ليس في مكان ثان. مثلاً شريف الآن بائن بصعوبة على ضوء العواميد البرتقالي وشكله مقرف قليلاً لكني أراه في نور النهار. نور أقوى ربما من نور النهار. ليس أقوى بالضرورة لكنه ذهبي ويبرق ويتجاوب مع الألوان والأشكال ليضبطها. ثم إنه يكشف تفاصيل أكثر ويجعل الشيء الذي تنظر له مبهراً بالتفاصيل. ولا يمكن أشرح لك لأي حد شريف جميل وهو طاف على ظهره وذراعه مثلث ويده تحت رأسه والذراع الثاني مفرود لوراء. لا يمكن وهو طاف كالقمر فوق رصيف ميدان طلعت حرب مع أن الموجودين يرونه راقداً في نور العواميد وشكله مقرف قليلاً. كأنه لوحة من عصر النهضة. الفرح أو الحب الذي في عينيه مع شيء يلعب على فمه مثل ابتسامة. كل عضلات وجهه مرتخية. وجلده صاف ولونه كأن تحته النور وهو كله مرتفع مسافة سنتي عن الأرض وطاف مثل ما أقول لك طاف في الهواء. وأنت لا تلاحظ أنه ميت لحد ما ترى دائرة صغيرة حزها أسود في وسط صدره بالضبط حرقتْ خرماً مدوراً في تيشيرته الأزرق. من غير ولا نقطة دم في أي مكان فقط هذه الدائرة وهي ناشفة وحية كأنها عضو إضافي مثل فمه هذا الذي يبوس رأسك من غير ما يبوسها أو أذنه البائنة كورقة صبار أو منخاره. هواء يملأها. لو كان فيه شيء اسمه ملاك فعلاً فأكيد هذا الشيء عنده عضو في صدره مثل الذي عند شريف. ما جرى باختصار أني كنت لازلت سارحاً لما سمعته يقول: حاسب يا باولو. وكان في صوته لهفة وهو ينط ناحيتي يدفعني على الأرض ثم يسقط فوقي وصوت طلقة واحدة من بندقية القنص التي في يد الرجل الأسمر يرن. في نفس اللحظة. ليس عندي أي فكرة ماذا جرى بعد ذلك. فهمت أن الرصاصة دخلت في ظهره وخرجت من الدائرة التي في صدره هذه لكن أنا أين كنت؟ ربما تحولتُ وهم كذّبوا ما رأوه؟ ربما غيّبني المتر لما رآني سأتحول. الزمن وقف فعلاً ولما أفقت كانت الدنيا ظلمة وفاضية والعيال على الرصيف وشريف على ظهره على الأرض وسطهم وأنا قاعد جنبه مربّع رجلي وأهتز من وراء لقدام. ولما أسأل العيال سيقولون إني اختفيت لمدة نصف ساعة ونحن نهرب ونحمل شريف إلى أن ظهرت على باب مطعم مكتبة الشروق كأني خارج منها مع أنها مقفلة. ومن غير ما أرد على أحد جئت ربّعت جنب الجثة وبدأت أهز جذعي وأنا مربّع أنحني عليها وأرجع أفرد ظهري ببطء وفي وجهي حسرة. وقالوا إني مع أني لم أبك كان يطلع من صدري صوت ضعيف كالبكاء. ولحد ما جاءت سيارة إسعاف خاصة أخذته للمستشفى أو المشرحة لا أعرف. بقيت هكذا. الذي لا يعرفونه أني كنت أصوره. كنت أراه في ضوء النهار هذا الذي أصفه لك وأثبّت صورته كما أراها. لذلك استغربوا فعلاً لما رفضت أروح معهم وراء الإسعاف واستغربوا أكثر لما لم أحضر العزاء في الكاتدرائية. فسّروا الموضوع بأني أتجنب المشاكل الأمنية التي قد تترتب على مصرع شخص أنا المسئول عنه. ولم تكن عندي طريقة أفهمهم أن كل الذي يمكن أن يحصل حصل فعلاً وأنا قاعد جنب الجثة أنتحب.
_______________________________
كاتب من مصر. له العديد من المؤلفات الشعرية والروايات منها “أزهار الشمس” 1999، و”كتاب الطغرى” 2011، و”التماسيح” 2013. والنص المنشور هنا مأخوذ عن روايته “باولو” الصادرة أخيراً عن دار التنوير.
الصورة من فيلم “مكبث” 2015 ، إخراج جاستن كارزل.
*****
خاص بأوكسجين