باسل شحادة.. لم يقتله الجلاد
العدد 139 | 14 أيلول 2012
جمال داوود


لا أعلم إن كان كل الذين يموتون في مرحلة متقاربة من العمر يشبهون بعضهم..

أرى بعض الذين يموتون في سن مبكرة، تجمعهم تصرفات متشابهة في حياتهم، وانفعالات تكاد تكون هي ذاتها… تراهم دومًا يبتسمون في الخارج، وفي الداخل يلجؤون إلى العزلة والرؤى الغامضة التي نعجز عن تفسيرها نحن الذين نتنفس هذه الكلمات.. إلى الآن.

تراهم دومًا يترددون النظر في وجه هذا العالم عند كل استيقاظ لهم، يعلمون أن هذا العالم سيدمر نفسه بنفسه لاحقًا.. يبصرون وجهه القبيح.. قبل أن يضع البودرة والمكياج ويستمر في خداعنا

تراهم دومًا في عجلة…وكأن الحياة تنفذ من بين أحلامهم الطرية

.. ينجزون الكثير مما أعدته الأقدار لهم في سنهم المبكرة… ليهزؤوا من موتهم لاحقًا

رامبو مثلًا أو لوركا صعدا في عمر مبكر، لكن ما أنجزاه للبشرية عجز عنه من عاش وعمّر طويلًا فوق هذه الأرض.. يستجدي الشهرة و يلهث وراء المال، أو يتملق الحكام…

مات لوركا شهيدًا لأفكاره…

لو لم تكن أفكاره تلك عظيمة، لما جعلت منه شيئًا عظيمًا، والأفكار العظيمة دومًا تثير حفيظة الجاهل والجلاد…و تشكل خطرًا على صاحبها..

لقد أرهقه اللحاق بأفكاره عن الحرية… ومن لا يأبه لحريته، عليه أن يعيش طويلًا… على الهامش… أو في العتم أو تحت قبضة الجلاد

 باسل لم يسقط….لم يقتله الجلاد….صعدت به أفكاره نحو الحرية التي يريد..

الأفكار العظيمة هي في حد ذاتها جريمة… تعاقب عليها الحياة بالنفي إلى عالم الماوراء  

ليس صدفة أن يصعد باسل في ذات التوقيت تقريبًا الذي صعدت فيه أرواح أطفال الحولة، ليس غريبًا وإن بحثتم في سجلات حياة هؤلاء الأطفال، لابد ستجدون باسل

الطفل الذي كان يضحك كثيرًا بلا تفسير، هو باسل

الطفل الذي يقفز على ظهر الشمس في لحظة الغروب… هو باسل

الطفل الذي يجر الشمس من شعرها قبل لحظة الشروق… هو باسل

الطفل الذي يفكر في اختراع كاميرا أو موتوسيكل يجوب أصقاع الأرض بلا توقف، بحثًا عن الأمل

الطفل الذي يمشي عاريًا في “أرض الديار” باحثًا عن معنى سؤال الحرية الشهير… هو باسل

الطفل الذي ولد في المغارة، فتبنته السماء ورعته الآلهة واحتضنته سورية… باسل

الطفل الذي غمسته أمه في نهر الخلود هو باسل

الطفل الذي دفعت به أمه إلى النهر . خوفًا من فرعون

الطفل الذي رفع لافتة كتب عليها حرية، ارحل، ما منطيقك

الطفل الذي يستمر في طرح الأسئلة اللماحة هو باسل

الطفل الذي يحلم بصعود حبة الفاصولياء أو التحول إلى طير حر… باسل

الطفل الذي تحكمه السليقة، الذي لايأبه لخطورة المغامرة، هو باسل

الطفل الذي تعلم المشي باكرًا والنطق باكرًا، وانتابه الفضول للسفر حول العالم… هو باسل

 رحل باسل بعد أن دار نصف هذا الكوكب… بدراجته السحرية وكاميرته التي تشفي الجراح

وابتسامته التي تسخر من قباحة هذا العالم

رحل ليكمل رحلته في عالم آخر، عالم يستطيع فهمه

فقد اكتشف أن فوق هذا الكوكب الصغير… لامكان لأصحاب الأجنحة المضيئة

والعيون البراقة التي تقرأ البواطن وتفسر السكون

.

.

لا أصدق أنه يموت

وما شكل ذلك الموت القادر على إقناع باسل بالرحيل قبل رؤية النصر؟

وكيف تمكن الموت من خداع باسل الذكي؟ وخطفه على عجل دون أن يكمل فيلمه الوثائقي عن 40 سنة من مرحلة العبودية

هل أصبح الموت أكثر تطورًا فجأة؟ هل بات يفهم بالسينما والفن واللوحات والشعر والآثار والمؤثرات البصرية وتفاصيل النفس البشرية

هكذا…

من علم الموت خطف الأطفال السوريين؟ و لماذا يستهوي أطفالنا وشبابنا دونًا عن العالمين

 هل جرب الموت التحدث إلى أحد الصغار السوريين فطاب له استحضارهم جميعًا؟

هل هو ثقيل الظل إلى هذا الحد، ليجلب إليه الأطفال وضحكاتهم وعفويتهم؟

ربما لا علاقة للموت بما يحدث… باسل يريد أن يوثق موت أطفال الحولة… يريد أن يرافقهم إلى حيث صعدوا هناك… باسل ذهب ليبعث لنا الحقيقة… من هناك

 

في داخله سورية… لا تموت

في داخله سورية مختلفة بعض الشيء عن كل أنواع سورية التي عرفناها

سوريته لقطة واسعة تتسع للجميع، للعشب للأشجار للأطفال للكبار للمساكين للأغنياء للمخرجين للفقراء للــقطاء للمشردين لرواد مطعم حارتنا للمصلين “في الجوامع والكنائس” لخريجي الجامعات لخريجي البارات للمتزمتين للمثقفين للثائرين للمتفرجين…حتى للص الذي يسرق ليأكل..

سوريته كانت نقية، كاملة، فاضلة، على كتفها تستقر السماء، من أجلها ترجع السنونوات كل دفء، تغني فيروز لها كل صباح، و يلفها بردى و ينام

سوريته لا تعرف العبودية.. لايدركها الذل… لا يهجرها التسامح

 كانت تعطي النبل والإنسانية للعالم، لا يعقل مثلًا في سوريته أن ترى قطة صغيرة تعذب أو تذبح، فكيف بطفل … هذا هو المستحيل…المكان الذي أنجب باسل…لا تذبح فيه الأطفال

..

أظنهم يتشابهون في كثير من الانفعالات…

أولئك الذين يحبون دراسة السينما..

غالبًا ما تعمر في ذاكرتهم المشاهد… و تهرم من كثرة ما تعيد نفسها على جدار الجمجمة

و في أغلبها مشاهد مؤلمة، قاسية، عميقة الأثر 

عن الفرح و أثره في القلوب التي تخفي الحزن

عن الأمل… في القلوب المكبلة بالحديد والرصاص

عن الحب… في القلوب التي احترقت وتفحمت

لا يمكنم تحمل تلك المشاهد والصور الجاهزة دومًا للخروج على العلن

الكاميرا هي قلم السينمائي…

هو لا يأبه لنوعها أو مدى تطورها

بإمكانه الكتابة بقلم ستيلو 35 ملم أو قلم رصاص بشريحة ذاكرة رخيصة

باسل الذي يحب صناعة الأفلام… ستجد في رأسه ملايين الأفكار والصور… عن عالم آخر حولكم… لا تعرفونه

لكنكم أنتم أبطاله بلا شك…باسل يصنع من المستضعفين أبطالًا مشهورين

ومن حياتهم المقيتة على البسطات تحت الجسور والأنفاق والأضواء…فيلمًا عالميًا يستحق الجوائز

..

وفي ذات صباح استيقظ ليجد نفسه لا يحب العطل ولا الديكتاتور…

كان كابوسًا…

النوم في العطلة…تحت قبضة حاكم جائر

.

.

أولئك المساكين في القرى النائية، كانوا أيضا أبطاله وجمهوره

وعندما استلموا دور البطولة في سورية

اتخذ القرار…أن الثورة….هي أهم فيلم له على الإطلاق

رجع من بلاد العم سام…من حيث يقف تمثال الحرية….ليعطي العالم كله درسًا في الحرية

.

.

كان يجيد تلك اللغة التي تعجز عنها معظم العرب، و يمقتها الكثيرون في بلادي

لغة الإنسان البدائي، لغة الفقراء، النازحين، لغة الهم والخيم والبرد والمستحاثات والعقارب والصراصير

لغة اللصوص حتى…كان يستمر في سؤالهم

هل سرقت لتأكل؟  

 

كانت تلك اللغة الكونية التي توشك على الانقراض… بالنسبة له أهم من لغة الخوارزميات والمصفوفات 

التي تحتل عالمنا

 

باسل كان يجيد أيضا لغة الموسيقى…كان يجيد امتطاء النغم و قيادته

نحو الضمائر المتحجرة

.

.

في تلك الصورة يمد يده باسل…. نحو الحرية

فيتصيده الموت..

على الأقل هو لامس ذلك العالم المضيء قبل رحيله… وتركنا في مستنقع الغل والوحوش والضمائر العفنة

على الأقل هو تجاوز خوفه نحو الشمس… ونحن لازلنا نختبئ وراء شاشاتنا

خوفًا من التحليق المبكر دون أجنحة

 

في 28 – 5 – 2012

 

رحل من حمص..

هناك حيث أحرق العسكر محاصيل الذرة، هناك حيث اغتصبت النساء في معمل السكر، هناك حيث انقرض بابا عمرو إلا من ذاكرتنا ، هناك حيث أمطرت السماء ألف صمت و كلمة ، هناك حيث شاهد إلهًا يقف على الحياد ، سارع باسل للتدخل…نيابة عن الإنسان الذي فينا

 

كتب باسل في خانة التعريف عن نفسه نقلًا عن ليون بلوم

the free man is he who does not fear to go to the end of his thought